
السادس- قال بعضهم: أصل كلمة (عيسى) يسوع. فحرفه اليهود إلى (عيسو) تهكما فحوله العرب إلى (عيسى) تشبها باسم موسى. ولبدل الواو بالألف سبب مبنيّ على قواعد اللغة العبرانية، بل والعربية. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٣٧]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي اختلف قول أهل الكتاب في عيسى، بعد بيان أمره ووضوح حاله. وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
فأصرت اليهود منهم على بهت أمه وقرفه بالسحر. وانقسمت النصارى في أمره انقساما يفوت الحصر. وكله ضلال وشرك وكفر. وقد هدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه. وهذا من فضله تعالى ومنّه فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني بالذين كفروا، المختلفين. عبّر عنهم بالموصول إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم. وفي (مشهد) ستة أوجه. لأنه مصدر ميميّ أو اسم زمان أو مكان. وعلى كل فهو إما من (الشهود) أي الحضور أو (الشهادة). وهذا معنى قول الزمخشريّ: أي في شهودهم هول الحساب والجزاء إلى يوم القيامة. أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. أو من وقت الشهود. أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو من مكان الشهادة أو وقتها.
وقيل: معناه ما شهدوا به في عيسى وأمه فعظمه لعظم ما فيه أيضا. كقوله كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الكهف: ٥]، وفيه وعيد لهم وتهديد شديد.
وذلك لأنه لا أظلم ممن كذب با لحق لما جاءه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٣٨]
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا تعجب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ.
ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صما عميا. والآية كقوله تعالى وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السجدة: ١٢] الآية، أي يقولون

ذلك حين لا يجدي عنهم شيئا. ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لأجدى لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أي في الدنيا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لإغفالهم الاستماع والنظر. فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون. قال الزمخشريّ: أوقع الظاهر أعني (الظالمين) موقع الضمير، إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر، حين يجدي عليهم ويسعدهم.
تنبيه:
إنما أوّل التعجب في الآية بما ذكر، وأنه مصروف للعباد الذين يصدر منهم التعجب، لأن صدوره من الله تعالى محال. إذ هو كيفية نفسانية تنشأ عن استعظام ما لا يدرى سببه. ولذا قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب. والمعنى تعجبوا من سمعهم وأبصارهم حيث لا ينفعهم ذلك. فهي كقوله تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: ٢٢]، أفاده الشهاب.
وهذه طريقة المتكلمين في تأويل ما يشترك في الإضافة إليه تعالى وإلى خلقه من الصفات المروية. وطريقة السلف المحققين إثبات ما ورد به السمع مع نفي التشبيه. إذ لا اتحاد بين صفات الخالق وصفات المخلوق. فما يضاف إليه تعالى هو على النحو الذي يجب أن يكون عليه جل جلاله. فما يقدر في حق المخلوقين من الصفات مستلزما للمحال، لا يجب أن يكون في حقه تعالى مستلزما لذلك. كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا، يستلزم النقص والحاجة، ما يجب تنزيه الله عنه. وكذلك الوجود والقيام بالنفس فينا، يستلزم احتياجا إلى خالق يجعلنا موجودين. والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا. فنحن وصفاتنا وأفعالنا.
مقرونون بالحاجة إلى الغير. والحاجة لنا أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه. وهو سبحانه، الغنى له أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه. فهو بنفسه حيّ قيوم واجب الوجود، ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء. فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال، من العلم والقدرة وغير ذلك، هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان، لم يجب أن لا يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال، وأن لا يقدر ولا يعلم. لكون ذلك ملازما للحاجة فينا. فكذلك كل ما جاء به السمع من الصفات، إذا قدر أنه في حقنا ملازم لحاجة وضعف، لم يجب أن يكون في حق الله تعالى ملازما لذلك. هذا ما قرره الإمام تقيّ الدين بن تيمية في خلال بعض فتاويه. وكلامه هذا بمثابة القاعدة الكلية لأمثال هذا الموضوع. فاحفظه.