يلزمه الوفاء به ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنفية لما فيه من التضييق وليس في شرعنا وإن كان قربة في شرع من قبلنا. فتردد القفال في الجواز وعدمه ناشىء من قلة الاطلاع، وفي بعض الآثار ما يدل ظاهره على أن نذر الصمت كان من مريم عليها السّلام خاصة. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن حارثة بن مضرب قال: كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم ما لصاحبك لم يسلم؟ قال: إنه نذر صوما لا يكلم اليوم إنسيا فقال له ابن مسعود: بئس ما قلت إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا فكلم وأمر بالمعروف وإنه عن المنكر فإنه خير لك. والظاهر على المعنى الأخير للصوم أنه باعتبار الصمت فيه فرع قوله تعالى: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي بعد أن أخبرتكم بنذري فتكون قد نذرت إن لا تكلم إنسيا بغير هذا الإخبار فلا يكون مبطلا له لأنه ليس بمنذور ويحتمل أن هذا تفسير للنذر بذكر صيغته. وقالت فرقة:
أمرت أن تخبر بنذرها بالإشارة قيل: وهو الأظهر. قال الفراء: العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. ويفهم من قوله تعالى: إِنْسِيًّا دون أحدا أن المراد فلن أكلم اليوم إنسيا وإنما أكلم الملك وأناجي ربي. وإنما أمرت عليها السّلام بذلك على ما قاله غير واحد لكراهة مجادلة السفهاء والاكتفاء بكلام عيسى عليه السّلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ أي جاءتهم مع ولدها حاملة إياه على أن الباء للمصاحبة ولو جعلت للتعدية صح أيضا. والجملة في موضع الحال من ضمير مريم أو من ضمير ولدها. وكان هذا المجيء على ما أخرج سعيد بن منصور وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها قيل: إنها حنت إلى الوطن وعلمت أن ستكفي أمرها فأتت به فلما دخلت عليهم تباكوا وقيل: هموا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السّلام.
وجاء في رواية عن الحبر أنها لما انتبذت من أهلها وراء الجبل فقدوها من محرابها فسألوا يوسف عنها فقال: لا علم لي بها وإن مفتاح باب محرابها عند زكريا فطلبوا زكريا وفتحوا الباب فلم يجدوها فاتهموه فأخذوه ووبخوه فقال رجل: إني رأيتها في موضع كذا فخرجوا في طلبها فسمعوا صوت عقعق في رأس الجذع الذي هي من تحته فانطلقوا إليه فلما رأتهم قد أقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به ثم كان ما كان.
فظاهر الآية والأخبار أنها جاءتهم به من غير طلب منهم، وقيل: أرسلوا إليها لتحضري إلينا بولدك وكان الشيطان قد أخبرهم بولادتها فحضرت إليهم به فلما رأوهما قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ فعلت شَيْئاً فَرِيًّا قال قتادة: عظيما، وقيل: عجيبا. وأصله من فرى الجلد قطعه على وجه الإصلاح أو الإفساد، وقيل: من أفراه كذلك. واختير الأول لأن فعيلا إنما يصاغ قياسا من الثلاثي. وعدم التفرقة بينه وبين المزيد في المعنى هو الذي ذهب إليه صاحب القاموس.
وفي الصحاح عن الكسائي أن الفري القطع على وجه الإصلاح والإفراء على وجه الإفساد. وعن الراغب مثل ذلك. وقيل الإفراء عام. وأيّا ما كان فقد استعير الفري لما ذكر في تفسيره. وفي البحر أنه يستعمل في العظيم من الأمر شرا أو خيرا قولا أو فعلا. ومنه في وصف عمر رضي الله تعالى عنه فلم أر عبقريا يفري فريه، وفي المثل جاء يفري الفري. ونصب شَيْئاً على أنه مفعول به. وقيل على أنه مفعول مطلق أي لقد جئت مجيئا عجيبا، وعبر عنه بالشيء تحقيقا للاستغراب.
وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية «فريا» بسكون الراء وفيما نقل ابن خالويه «فرأ» بالهمزة يا أُخْتَ هارُونَ استئناف لتجديد التعيير وتأكيد التوبيخ. وليس المراد بهارون أخا موسى بن عمران عليهما السّلام لما
أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني وابن حبان وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون يا أُخْتَ هارُونَ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا (١) قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسّلام فقال: «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمعون بالأنبياء والصالحين قبلهم»
بل هو على ما روي عن الكلبي أخ لها من أبيها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: هو رجل صالح في بني إسرائيل. وروي عنه أنه قال ذكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون. والأخت على هذا بمعنى المشابهة وشبهوها به تهكما أو لما رأوا قبل من صلاحها، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه رجل طالح فشبهوها به شتما لها. وقيل: المراد، هارون أخو موسى عليهما السّلام، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم أيضا عن السدي.
وعلي بن أبي طلحة: وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة فوصفها بالأخوة لكونها وصف أصلها. وجوز
أن يكون هارون مطلقا على نسله كهاشم وتميم، والمراد بالأخت أنها واحدة منهم كما يقال أخا العرب وهو المروي عن السدي.
ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا تقرير لكون ما جاءت به فريا أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش وفيه دليل على أن الفروع غالبا تكون زاكية إذا زكت الأصول وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك. وقرأ عمر بن بجا التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريرا: ما كان أباك امرؤ سوء. بجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة. وحسن ذلك قليلا وجود مسوغ الابتداء فيها وهو الإضافة.
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي إلى عيسى عليه السّلام أن كلموه. قال شيخ الإسلام: والظاهر أنها بينت حينئذ نذرها وأنها بمعزل من محاورة الإنس حسبما أمرت ففيه دلالة على أن المأمور به بيان نذرها بالإشارة لا بالعبارة والجمع بينهما مما لا عهد به قالُوا منكرين لجوابها، وفي بعض الآثار أنها لما أشارت إليه أن كلموه قالوا: استخفافها بنا أشد من زناها وحاشاها ثم قالوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قال قتادة: المهد حجر أمه، وقال عكرمة:
المرباة أي المرجحة، وقيل: سريره. وقيل: المكان الذي يستقر عليه. واستشكلت الآية بأن كل من يكلمه الناس كان في المهد صبيا قبل زمان تكليمه فلا يكون محلا للتعجب والإنكار.
وأجاب الزمخشري عن ذلك بوجهين، الأول أن كان الإيقاع مضمون لجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو هاهنا لقريبه خاصة والدال عليه أن الكلام مسوق للتعجب فيكون المعنى كيف نكلم من كان بالأمس وقريبا منه. من هذا الوقت في المهد وغرضهم من ذلك استمرار حال الصبي به لم يبرح بعد عنه ولو قيل: من هو في المهد لم يكن فيه تلك الوكادة من حيث السابق كالشاهد على ذلك، ومن على هذا موصولة يراد بها عيسى عليه السّلام. الثاني أن يكون نُكَلِّمُ حكاية حال ماضية ومن موصوفة، والمعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي ما كلمناهم إلى الآن حتى نكلم هذا، وفي العدول عن الماضي إلى الحال إفادة التصوير والاستمرار. وهذا كما في الكشف وجه حسن ملائم.
وقال أبو عبيدة: كان زائدة لمجرد التأكيد من غير دلالة على الزمان وصَبِيًّا حال مؤكدة والعامل فيها الاستقرار، فقول ابن الأنباري إن كان نصبت هنا الخبر والزائدة لا تنصبه ليس بشيء، والمعنى كيف نكلم من هو في المهد الآن حال كونه صبيا، وعلى قول من قال: إن كان الزائدة لا تدل على حدث لكنها تدل على زمان ماض مقيد به ما زيدت فيه كالسيرافي لا يندفع الإشكال بالقول بزيادتها.
وقال الزجاج: الأجود أن تكون من شرطية لا موصولة ولا موصوفة أي من كان في المهد فكيف نكلمه وهذا كما يقال كيف أعظ من لا يعمل بموعظتي والماضي بمعنى المستقبل في باب الجزاء فلا إشكال في ذلك، ولا يخفى بعده قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظم الكريم كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال عيسى عليه السّلام إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ روي أنه عليه السّلام كان يرضع فلما سمع ما قالوا ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته فقال ما قال، وقيل إن زكريا عليه السّلام أقبل عليه يستنطقه فقال ذلك وذكر عبوديته لله تعالى أولا لأن الاعتراف بذلك على ما قيل أول مقامات السالكين. وفيه رد على من يزعم ربوبيته، وفي جيع ما قال تنبيه على يراءة أمه لدلالته على الاصطفاء والله سبحانه أجل من أن يصطفي ولد الزنا وذلك من المسلمات عندهم، وفيه من إجلال أمه عليهما السّلام ما ليس في التصريح، وقيل لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بما ذكر إلا مبرأة مصطفاة.
واختلف في أنه بعد أن تكلم بما ذكر هل بقي يتكلم كعادة الرجال أو لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان وعده عليه السّلام في عداد الذين تكلموا في المهد ثم لم يتكلموا إلى وقت العادة ظاهر في الثاني آتانِيَ الْكِتابَ الظاهر أنه الإنجيل. وقيل التوراة. وقيل مجموعهما وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وجعلني مع ذلك مُبارَكاً قال مجاهد نفاعا ومن نفعه إبراء الأكمه والأبرص. وقال سفيان: معلم الخير آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر وعن الضحاك قاضيا للحوائج، والأول أولى لعمومه، والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة أما باعتبار ما في القضاء المحتوم أو بجعل ما في شرف الوقوع لا محالة كالذي وقع. وقيل أكمله الله تعالى عقلا واستنبأه طفلا وروي ذلك عن الحسن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن عيسى عليه السّلام درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه وذلك قوله آتانِيَ الْكِتابَ أَيْنَ ما كُنْتُ أي حيثما كنت وفي البحر أن هذا شرط وجزاؤه محذوف تقديره جعلني مباركا وحذف لدلالة ما تقدم عليه، ولا يجوز أن يكون معمولا لجعلني السابق لأن- أين- لا تكون إلا استفهاما أو شرطا والأول لا يجوز هنا فتعين الثاني واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله وإنما هو معمول للفعل الذي يليه.
وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي أمرني بهما أمرا مؤكدا والظاهر أن المراد بهما ما شرع في البدن والمال على وجه مخصوص. وقيل المراد بالزكاة زكاة الفطر. وقيل المراد بالصلاة الدعاء وبالزكاة تطهير النفس عن الرذائل، ويتعين هذا في الزكاة على ما نقل عن ابن عطاء الله وإن كان منظورا فيه من أنه لا زكاة على الأنبياء عليهم السّلام لأن الله تعالى نزههم عن الدنيا فما في أيديهم لله تعالى ولذا لا يورثون أو لأن الزكاة تطهير وكسبهم طاهر، وقيل لا يتعين لأن ذلك أمر له بايجاب الزكاة على أمته وهو خلاف الظاهر، وإذا قيل بحمل الزكاة على الظاهر فالظاهر أن المراد أَوْصانِي بأداء زكاة المال إن ملكته فلا مانع من أن يشمل التوقيت بقوله سبحانه ما دُمْتُ حَيًّا مدة كونه عليه السّلام في السماء، ويلتزم القول بوجوب الصلاة عليه عليه الصلاة والسّلام هناك كذا قيل.
وأنت تعلم أن الظاهر المتبادر من المدة المذكورة مدة كونه عليه الصلاة والسّلام حيا في الدنيا على ما هو المتعارف وذلك لا يشمل مدة كونه عليه السّلام في السماء، ونقل ابن عطية أن أهل المدينة. وابن كثير. وأبا عمرو قرأوا «دمت» بكسر الدال ولم نجد ذلك لغيره نعم قيل إن ذلك لغة وَبَرًّا بِوالِدَتِي عطف على «مباركا» على ما قال الحوفي وأبو البقاء، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا للفصل وبالجملة ومتعلقها اختار إضمار فعل أي وجعلني بارا بها، قيل هذا كالصريح في أنه عليه السّلام لا والد له فهو أظهر الجمل في الإشارة إلى براءتها عليها السّلام. وقرىء «برا» بكسر الباء ووجه نصبه نحو ما مر في القراءة المتواترة، وجعل ذاته عليه السّلام برا من باب فإنما هي إقبال وإدبار، وجوز أن يكون النصب بفعل في معنى أَوْصانِي أي وألزمني أو وكلفني برا فهو من باب علفتها تبنا وماء باردا وأقرب منه على ما في الكشف لأنه مثل زيدا مررت به في التناسب وإن لم يكن من بابه.
وجوز أن يكون معطوفا على محل بِالصَّلاةِ كما قيل في قراءة أَرْجُلَكُمْ [المائدة: ٦] بالنصب، وقيل إن أوصى قد يتعدى للمفعول الثاني بنفسه كما وقع في البخاري أوصيناك دينا واحدا، والظاهر أن الفعل في مثل ذلك مضمن معنى ما يتعدى بنفسه، وحكى الزهراوي. وأبو البقاء أنه قرىء «وبرا» بكسر الباء وهو معطوف على الصلاة والزكاة قولا واحدا، والتنكير للتفخيم وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي لم يقض علي سبحانه بذلك في علمه الأزلي، وقد كان عليه السّلام يقول: سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي.
وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا تقدم الكلام في وجه تخصيص هذه المواطن بالذكر
فتذكر فما في العهد من قدم، والأظهر بل الصحيح أن التعريف للجنس جيء به تعريضا باللعنة على متهمي مريم وأعدائها عليها السّلام من اليهود فإنه إذا قال جنس السّلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم، ونظيره قوله تعالى:
وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: ٤٧] يعني أن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو هذا من التعريض. والقول بأنه لتعريف العهد خلاف الظاهر بل غير صحيح لا لأن المعهود سلام يحيى عليه الصلاة والسّلام وعينه لا يكون سلاما لعيسى عليه الصلاة والسّلام لجواز أن يكون من قبيل هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ [البقرة: ٢٥] بل لأن هذا الكلام منقطع عن ذلك وجودا وسردا فيكون معهودا غير سابق لفظا ومعنى على أن المقام يقتضي التعريض ويفوت على ذلك التقدير لأن التقابل إنما ينشأ من اختصاص جميع السّلام به عليه كذا في الكشف والاكتفاء في العهد به لصحيحه بذكره في الحكاية لا يخفى حاله وسلام يحيى عليه السّلام قيل لكونه من قول الله تعالى أرجح من هذا السّلام لكونه من قول عيسى عليه السّلام، وقيل هذا أرجح لما فيه من إقامة الله تعالى إياه في ذلك مقام نفسه مع إفادة اختصاص جميع السّلام به عليه السّلام فتأمل.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «يوم ولدت» بتاء التأنيث وإسناد الفعل إلى والدته ذلِكَ إشارة إلى من فصلت نعوته الجليلة، وفيه إشارة إلى علو رتبته وبعد منزلته وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره ونزوله منزلة المحسوس المشاهد. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: عِيسَى وقوله سبحانه: ابْنُ مَرْيَمَ صفة عيسى أو خبر بعد خبر أو بدل أو عطف بيان والأكثرون على الصفة. والمراد ذلك هو عيسى ابن مريم لا ما يصفه النصارى وهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني حيث جعل موصوفا بأضداد ما يصفونه كالعبودية لخالقه سبحانه المضادة لكونه عليه السّلام إلها وابنا لله عز وجل فالحصر مستفاد من فحوى الكلام، وقيل: هو مستفاد من تعريف الطرفين بناء على ما ذكره الكرماني من أن تعريفهما مطلقا يفيد الحصر، وهو على ما فيه مخالف لما ذكره أهل المعاني من أن ذلك مخصوص بتعريف المسند باللام أو بإضافته إلى ما هي فيه كتلك آيات الكتاب على ما فيه بعض شروح الكشاف.
وقيل استفادته من التعريف على ما ذكروه أيضا بناء على أن عيسى مؤول بالمعرف باللام أي المسمى بعيسى وهو كما ترى فعليك بالأول.
قَوْلَ الْحَقِّ نصب على المدح، والمراد بالحق الله تعالى وبالقول كلمته تعالى، وأطلقت عليه عليه السّلام بمعنى أنه خلق بقول كن من غير أب، وقيل: نصب على الحال من عيسى، والمراد بالحق والقول ما سمعت.
وقيل: نصب على المصدر أي أقول قول الحق. وقيل: هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة منصوب بأحق محذوفا وجوبا. وقال شيخ الإسلام: هو مصدر مؤكد لقال إني عبد الله إلخ وقوله سبحانه ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وفيه بعد. والْحَقِّ في الأقوال الثلاثة بمعنى الصدق. والإضافة عند جمع بيانية وعند أبي حيان من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وقرأ الجمهور «قول» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه، والضمير المقدر للكلام السابق أو لتمام القصة. وقيل: صفة لعيسى أو بدل من أو خبر بعد لذلك أهو الخبر وعيسى بدل أو عطف بيان.
والمراد في جميع ذلك كلمة الله تعالى. وقرأ ابن مسعود «قال الحق». وقال الله برفع «قال» فيهما.
وعن الحسن «قول الحق» بضم القاف واللام. والقول والقال والقول بمعنى واحد كالرهب والرهب والرهب.
ونص أبو حيان على أنها مصادر، وعن ابن السكيت القال وكذا القيل اسم لا مصدر. وقرأ طلحة والأعمش في رواية «قال الحق» برفع لام «قال» على أنه فعل ماض ورفع «الحق» على الفاعلية. وجعل ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ على هذا
مقول القول أي قال الله تعالى ذلك الموصوف بما ذكر عيسى ابن مريم الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي يشكون أو يتنازعون فيقول اليهود: هو ساحر وحاشاه ويقول النصارى: ابن الله سبحان الله عما يقولون.
والموصول صفة القول أو الحق أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي إلخ وذلك بحسب اختلاف التفسير والقراءة.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وداود بن أبي هند ونافع في رواية والكسائي كذلك «تمترون» بتاء الخطاب.
ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ أي ما صح وما استقام له جل شأنه اتخاذ ذلك وهو تكذيب للنصارى وتنزيه له عز وجل عما افتروه عليه تبارك وتعالى وقوله جل وعلا إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ تبكيت له ببيان أن شأنه تعالى شأنه إذا قضى أمرا من الأمور أن يوجد بأسرع وقت فمن يكون هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد وهو من أمارات الاحتياج والنقص وقرأ ابن عامر «فيكون» بالنصب على الجواب. وقوله تعالى وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ عطف على ما قال الواحدي على قوله إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فهو من تمام قول عيسى عليه السّلام تقرير المعنى العبودية والآيتان معترضتان، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقرأ أبي بغير واو.
والظاهر أنه على هذا بتقدير القول خطابا لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم أي قل يا محمد إن الله إلخ. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأن بالواو وفتح الهمزة وخرجه الزمخشري على حذف حرف الجر وتعلقه باعبدوه أي ولأنه تعالى ربي وربّكم فاعبدوه وهو كقوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن: ١٨] وهو قول الخليل وسيبويه.
وأجاز الفراء أن يكون إن وما بعدها في تأويل مصدر عطفا على الزَّكاةِ أي وأوصاني بالصلاة والزكاة وبأن الله ربي وربكم إلخ. وأجاز الكسائي أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن الله ربي وربكم.
وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه عطف على أَمْراً من قوله تعالى إِذا قَضى أَمْراً أي إذ قضى أمرا وقضى أن الله ربي وربكم وهو تخبيط في الإعراب فلعله لا يصح عن أبي عمرو فإنه من الجلالة في علم النحو بمكان، وقيل: إنه عطف على الكتاب وأكثر الأقوال كما ترى. وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه أيضا وبأن بالواو وباء الجر وخرجه بعضهم بالعطف على الصلاة أو الزكاة وبعضهم بأنه متعلق باعبدوه أي بسبب ذلك فاعبدوه، والخطاب أما لمعاصري عيسى عليه السّلام وإما لمعاصري نبينا صلّى الله عليه وسلّم هذا أي ما ذكر من التوحيد صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه، وقوله تعالى فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيها على سوء صنيعهم بجعلهم ما يوجب الاتفاق منشأ للاختلاف فإن ما حكي من مقالات عيسى عليه السّلام مع كونها نصوصا قاطعة في كونه عبد الله تعالى ورسوله قد اختلف اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط فالمراد بالأحزاب اليهود والنصارى وهو المروي عن الكلبي، ومعنى مِنْ بَيْنِهِمْ أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين، و «بين» ظرف استعمل اسما بدخول من عليه.
ونقل في البحر القول بزيادة من. وحكى أيضا القول بأن البين هنا بمعنى البعد أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق فتكون سببية ولا يخفى بعده، وقيل: المراد بالأحزاب فرق النصارى فإنهم اختلفوا بعد رفعه عليه السّلام فيه فقال:
نسطور هو ابن الله تعالى عن ذلك أظهره ثم رفعه، وقال يعقوب: هو الله تعالى هبط ثم صعد وقال ملكا: هو عبد الله
تعالى ونبيه، وفي الملل والنحل أن الملكانية قالوا: إن الكلمة يعني أقنوم العلم اتحدت بالمسيح عليه السّلام وتدرعت بناسوته.
وقالوا أيضا: إن المسيح عليه السّلام ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم وقد ولدت مريم إلها قديما أزليا والقتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا، وقد قمنا من أمر النصارى ما فيه كفاية فليتذكر، وقيل المراد بهم المسلمون واليهود والنصارى.
وعن الحسن أنهم الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام لما قص عليهم قصة عيسى عليه السّلام اختلفوا فيه من بين الناس، قيل: إنهم مطلق الكفار فيشمل اليهود والنصارى والمشركين الذين كانوا في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم وغيرهم ورجحه الإمام بأنه لا مخصص فيه، ورجح القول بأنهم أهل الكتاب بأن ذكر الاختلاف عقيب قصة عيسى عليه السّلام يقتضي ذلك، ويؤيده قوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فالمراد بهم الأحزاب المختلفون، وعبر عنهم بذلك إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم، وإذا قيل بدخول المسلمين أو الملكانية وقيل: إنهم قالوا بأنه عليه السّلام عبد الله ونبيه، في الأحزاب، فالمراد من الذين كفروا بعض الأحزاب أي فويل للذين كفروا منهم مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي من مشهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء وهو يوم القيامة أو من وقت شهوده أو مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد الملائكة والأنبياء عليهم السّلام عليهم وألسنتهم وسائر جوارحهم بالكفر والفسوق أو من وقت الشهادة أو من مكانها.
وقيل: هو ما شهدوا به في حق عيسى عليه السّلام وأمه وعظمه لعظم ما فيه أيضا كقوله تعالى كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الكهف: ٥]. وقيل هو يوم قتل المؤمنين حين اختلف الأحزاب وهو كما ترى. والحق أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ تعجيب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ. ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يَوْمَ يَأْتُونَنا للحساب والجزاء أي يوم القيامة جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صما وعميا.
وروي ذلك عن الحسن وقتادة وقال علي بن عيسى: هو وعيد وتهديد أي سوف يسمعون ما يخلع قلوبهم ويبصرون ما يسود وجوههم وعن أبي العالية أنه أمر حقيقة للرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه. والجار والمجرور على الأولين في موضع الرفع على القول المشهور. وعلى الأخير في محل نصب لأن أَسْمِعْ أمر حقيقي وفاعله مستتر وجوبا. وقيل: في التعجب أيضا إنه كذلك. والفاعل ضمير المصدر لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أي في الدنيا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لا يدرك غايته حيث اغفلوا الاستماع والنظر بالكلية. ووضع (الظالمين) موضع الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم.
والاستدراك على ما نقل عن أبي العالية يتعلق بقوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَأَنْذِرْهُمْ أي الظالمين على ما هو الظاهر. وقال أبو حيان: الضمير لجميع الناس أي خوفهم يَوْمَ الْحَسْرَةِ يوم يتحسر الظالمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى. وقيل: الناس قاطبة، وتحسر المحسنين على قلة إحسانهم إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ من الحساب وذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وذبح الموت ونودي كل من الفريقين بالخلود.
وعن السدي وابن جريج الاقتصار على ذبح الموت وكان ذلك لما روي الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رأوه ثم ينادي مناد يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟
فيقولون نعم: هذا الموت وكلهم قد رأوه فيذبح بين الجنة والنار ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ وأنذرهم» الآية.
وفي رواية عن ابن مسعود أن يوم الحسرة حين يرى الكفار مقاعدهم من الجنة لو كانوا مؤمنين، وقيل: حين يقال لهم وهم في النار اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: ١٠٨] وقيل: حين يقال امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: ٥٩].
وقال الضحاك: ذلك إذا برزت جهنم ورمت بالشرر، وقيل: المراد بذلك يوم القيامة مطلقا، وروي ذلك عن ابن زيد وفيه حسرات في مواطن عديدة، ومن هنا قيل: المراد بالحسرة جنسها فيشمل ذلك حسرتهم فيما ذكر وحسرتهم عند أخذ الكتب بالشمائل وغير ذلك والمراد بقضاء الأمر (١) الفراغ من أمر الدنيا بالكلية ويعتبر وقت ذلك ممتدا، وقيل: المراد بيوم الحسرة يوم القيامة كما روي عن ابن زيد إلا أن المراد بقضاء الأمر الفراغ مما يوجب الحسرة، وجوز ابن عطية أن يراد بيوم الحسرة ما يعم يوم الموت.
وأنت تعلم أن ظاهر الحديث السابق وكذا غيره كما لا يخفى على المتتبع قاض بأن يوم الحسرة يوم يذبح الموت وينادي بالخلود، ولعل التخصيص لما أن الحسرة يومئذ أعظم الحسرات لأنه هناك تنقطع الآمال وينسد باب الخلاص من الأهوال. ومن غريب ما قيل: إن المراد بقضاء الأمر سد باب التوبة حين تطلع الشمس من مغربها وليس بشيء، وإِذْ على سائر الأقوال بدل من يَوْمَ أو متعلق بالحسرة والمصدر المعرف يعمل بالمفعول الصريح عند بعضهم فكيف بالظرف، وقوله تعالى وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ قال الزمخشري: متعلق بقوله تعالى شأنه فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عن الحسن، ووجه ذلك بأن الجملتين في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين، واستظهر في الكشف العطف على قوله تعالى: الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي هم في ضلال وهم في غفلة وعلى الوجهين تكون جملة أَنْذِرْهُمْ معترضة والواو اعتراضية، ووجه الاعتراض أن الإنذار مؤكد ما هم فيه من الغفلة والضلال، وجوز أن يكون ذلك متعلقا بأنذرهم على أنه حال من المفعول أي أنذرهم غافلين غير مؤمنين للعقب بأنه لا يلائم قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: ٤٥] وقال في الكشف: أنه غير وارد لأن ذلك بالنسبة إلى النفع وهذا بالنسبة إلى تنبيه الغافل لبيان أن النفع في الآخرة وهذه وظيفة الأنبياء عليهم السّلام عن آخرهم، ثم لو سلم لا مناقضة كما في قوله تعالى وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: ٥٥] كيف وقد تكرر هذا المعنى في القرآن إلى قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [يس: ٦] وأما إن قوله سبحانه: وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ نفي مؤكد يشتمل على الماضية والآتية فلا يسلم لو جعل حالا ولو سلم فقد علم جوابه مما سبق وما على الرسول إلا البلاغ.
نعم لا نمنع أن الوجه الأول أرجح وأشد طباقا للمقام، وحاصل المعنى على الأخير أنذرهم لأنهم في حالة يحتاجون فيها للإنذار إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها لا يبقى لأحد غيره تعالى ملك ولا ملك فيكون كل ذلك له تعالى استقلالا ظاهرا وباطنا دون ما سواه وينتقل إليه سبحانه انتقال الموروث من المورث إلى الوارث، وهذا كقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: ١٦] أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك توفي الوارث لإرثه واستيفائه إياه وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أي يردون إلى الجزاء لا إلى غيرنا استقلالا أو اشتراكا. وقرأ الأعرج «ترجعون»
بالتاء الفوقية. وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق وعيسى بالياء التحتية مبنيا للفاعل، وحكى عنهم الداني أنهم قرؤوا بالتاء الفوقية والله تعالى أعلم «ومن باب الإشارة في الآيات» كهيعص هو وأمثاله على الصحيح سر من أسرار الله تعالى، وقيل في وجه افتتاح هذه السورة به: إن الكاف إشارة إلى الكافي الذي اقتضاه حال ضعف زكريا عليه السّلام وشيخوخته وعجزه، والهاء إشارة إلى الهادي الذي اقتضاه عنايته سبحانه به وإراءة مطلوبه له، والياء إشارة إلى الواقي الذي اقتضاه حال خوفه من الموالي، والعين إشارة إلى العالم الذي اقتضاه إظهاره لعدم الأسباب، والصاد إشارة إلى الصادق الذي اقتضاه الوعد، والإشارة في القصتين إجمالا إلى أن الله تعالى شأنه يهب بسؤال وغير سؤال. وطبق بعض أهل التأويل ما فيهما على ما في الأنفس فتكلفوا وتعسفوا، وفي نذر الصوم والمراد به الصمت إشارة إلى ترك الانتصار للنفس فكأنه قيل لها عليه السّلام: اسكتي ولا تنتصري فإن في كلامك وانتصارك لنفسك مشقة عليك وفي سكوتك إظهار ما لنا فيك من القدرة فلزمت الصمت فلما علم الله سبحانه صدق انقطاعها إليه أنطق جل وعلا عيسى عليه السّلام ببراءتها، وذكر أنه عليه السّلام طوى كل وصف جميل في مطاوي قوله إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وذلك لما قالوا من أنه لا يدعي أحد بعبد الله إلا إذا صار مظهرا لجميع الصفات الإلهية المشير إليها الاسم الجليل، وجعل على هذا قوله آتانِيَ الْكِتابَ إلخ كالتعليل لهذه الدعوى. وذكروا أن العبد مضافا إلى ضميره تعالى أبلغ مدحا مما ذكر وأن صاحب ذلك المقام هو نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وكأن مرادهم أن العبد مضافا إلى ضميره سبحانه كذلك إذا لم يقرن بعلم كعبده زكريا وإلا فدعوى الاختصاص لأنتم فليتدبر.
وذكر ابن عطاء في قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا إن الجبار الذي لا ينصح والشقي الذي لا ينتصح نعوذ بالله سبحانه من أن يجعلنا كذلك وَاذْكُرْ عطف على أَنْذِرْهُمْ عند أبي السعود، وقيل: على أذكر السابق، ولعله الظاهر فِي الْكِتابِ أي هذه السورة أو في القرآن إِبْراهِيمَ أي اتل على الناس قصته كقوله تعالى:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ [الشعراء: ٦٩] وإلا فذاكر ذلك في الكتاب هو الله تعالى كما في الكشاف، وفيه أنه عليه الصلاة السّلام لكونه الناطق عنه تعالى ومبلغ أوامره ونواهيه وأعظم مظاهره سبحانه ومجاليه كأنه الذاكر في الكتاب ما ذكره ربه جل وعلا (١) ومناسبة هذه الآية لما قبلها اشتمالها على تضليل من نسب الألوهية إلى الجماد اشتمال ما قبلها على ما أشار إلى تضليل من نسبها إلى الحي والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن الفريق الثاني أضل.
ويقال على القول الأول في العطف إن المراد أنذرهم ذلك واذكر لهم قصة إبراهيم عليه السّلام فإنهم ينتمون إليه صلّى الله عليه وسلّم فعساهم باستماع قصته يقلعون عما هم فيه من القبائح إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً أي ملازم الصدق لم يكذب قط نَبِيًّا استنبأه الله تعالى وهو خبر آخر لكان مقيد للأول مخصص له أي كان جامعا بين الوصفين.
ولعل هذا الترتيب للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنبوة فإن كل نبي صديق، وقيل:
الصديق من صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله، وفي الكشاف الصديق من أبنية المبالغة والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقا بجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبيا في نفسه كقوله تعالى: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:
٣٧] أو كان بليغا في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق الله تعالى بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك انتهى.
وفيه إشارة إلى أن المبالغة تحتمل أن تكون باعتبار الكم وأن تكون باعتبار الكيف ولك أن تريد الأمرين لكون المقام مقام المدح والمبالغة، وقد ألم بذلك الراغب، وأما أن التكثير باعتبار المفعول كما في قطعت الحبال فقد عده في الكشف من الأغلاط فتأمل، واستظهر أنه من الصدق لا من التصديق، وأيد بأنه قرىء «أنه كان صادقا» وبأنه قلما يوجد فعيل من مفعل والكثير من فاعل، وفسر بعضهم النبي هنا برفيع القدر عند الله تعالى وعند الناس.
والجملة استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السّلام بذلك من دواعي ذكره وهي على ما قيل اعتراض بين المبدل منه وهو إبراهيم والبدل وهو إذ في قوله تعالى إِذْ قالَ
وتعقبه صاحب الفرائد بأن الاعتراض بين البدل والمبدل منه بدون الواو بعيد عن الطبع، وفيه منع ظاهر، وفي البحر أن بدلية إذ من إبراهيم تقتضي تصرفها والأصح أنها لا تتصرف وفيه بحث، وقيل: إذ ظرف لكان وهو مبني على أن كان الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلافية، وقيل: ظرف لنبينا أي منبىء في وقت قوله لِأَبِيهِ
وتعقب بأنه يقتضي أن الاستنباء كان في ذلك الوقت، وقيل: ظرف لصديقا، وفي البحر لا يجوز ذلك لأنه قد نعت الأعلى رأي الكوفيين، وفيه أن نَبِيًّا خبر كما ذكرنا لا نعت، نعم تقييد الصديقية بذلك الوقت لا يخلو عن شيء.
وقيل ظرف لصديقا نبيا وظاهره أنه معمول لهما معا، وفيه أن توارد عاملين على معمول واحد غير جائز على الصحيح، والقول بأنهما جعلا بتأويل اسم واحد كتأويل حلو حامض بمز أي جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء عليهم السّلام حين خاطب أباه لا يخفى ما فيه، والذي يقتضيه السياق ويشهد به الذوق البدلية وهو بدل اشتمال، وتعليق الذكر بالأوقات مع أن المقصود تذكير ما وقع فيها من الحوادث قد مر سره مرارا فتذكر.
يا أَبَتِ أي يا أبي فإن التاء عوض من ياء الإضافة ولذلك لا يجمع بينهما إلا شذوذا كقوله: يا أبتي أرقني القذان، والجمع في يا أبتا قيل بين عوضين وهو جائز كجمع صاحب الجبيرة بين المسح والتيمم وهما عوضان عن الغسل وقيل المجموع فيه عوض، وقيل: الألف للإشباع وأنت تعلم حال العلل النحوية.
وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر «يا أبت» بفتح التاء، وزعم هارون أن ذلك لحن والحق خلافه وفي مصحف عبد الله «وأبت» بواو بدل ياء والنداء بها في غير الندبة قليل، وناداه عليه السّلام بذلك استعطافا له.
وأخرج أبو نعيم والديلمي عن أنس مرفوعا حق الوالد على ولده أن لا يسميه إلا بما سمي إبراهيم عليه السّلام به أباه يا أبت ولا يسميه باسمه، وهذا ظاهر في أنه كان أباه حقيقة، وصحح جمع أنه كان عمه وإطلاق الأب عليه مجاز لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
ثناءك عليه عند عبادتك له وجؤارك إليه وَلا يُبْصِرُ
خضوعك وخشوعك بين يديه أو لا يسمع ولا يبصر شيئا من المسموعات والمبصرات فيدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا، وما موصولة وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة وَلا يُغْنِي
أي لا يقدر على أن يغني عَنْكَ شَيْئاً
من الأشياء أو شيئا من الإغناء فهو نصب على المفعولية أو المصدرية. ولقد سلك عليه السّلام في دعوته أحسن منهاج واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق ليس له من هاج لئلا يركب متن المكابرة والعناد ولا ينكب بالكلية عن سبيل الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب. ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا قادرا على
النفع والضر لكن كان ممكنا لاستنكف ذو العقل السليم عن عبادته وإن كان أشرف الخلائق لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبية فما ظنك بجماد مصنوع ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر.
ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلا بالنظر السوي مصدرا لدعوته بما مر من الاستعطاف حيث قال يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان في أقصاه ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه في صورة رقيق له يكون أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي مستقيما موصلا إلى أسنى المطالب منحيا عن الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب. وقوله جاءَنِي ظاهر في أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبىء عليه السّلام، والذي جاءه قيل العلم بما يجب لله تعالى وما يمتنع في حقه وما يجوز على أتم وجه وأكمله. وقيل: العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها. وقيل: العلم بما يعم ذلك ثم ثبطه عما هو عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال: يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ فإن عبادتك الأصنام عبادة له إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها.
وقوله إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا تعليل لموجب النهي وتأكيد له ببيان أنه مستعص على من شملتك رحمته وعمتك نعمته، ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص وكل من هو عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه، وللإشارة إلى هذا المعنى جيء بالرحمن. وفيه أيضا إشارة إلى كمال شناعة عصيانه. وفي الاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته لأنه ملاكها أو لأنه نتيجة معاداته لآدم عليه السّلام فتذكيره داع لأبيه عن الاحتراز عن موالاته وطاعته، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير.
وقوله: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ تحذير من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام والخوف كما قال الراغب توقع المكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة فهو غير مقطوع فيه بما يخاف، ومن هنا قيل: إن في اختياره مجاملة. وحمله الفراء والطبري على العلم وليس بذاك وتوين عَذابٌ على ما اختاره السعد في المطول يحتمل التعظيم والتقليل أي عذاب هائل أو أدنى شيء منه وقال لا دلالة للفظ المس وإضافة العذاب إلى الرحمن على ترجيح الثاني كما ذكره بعضهم لقوله تعالى: لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ [النور: ١٤] ولأن العقوبة من الكريم الحليم أشد اه.
واختار أبو السعود أنه للتعظيم، وقال: كلمة من متعلقة بمضمر وقع صفة للعذاب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، وإظهار الرحمن للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب كما في قوله عز وجل ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: ٦] انتهى، وفي الكشف أن الحمل على التفخيم فى عَذابٌ كما جوزه صاحب المفتاح مما يأباه المقام أي لأنه مقام إظهار مزيد الشفقة ومراعاة الأدب وحسن المعاملة وإنما قال مِنَ الرَّحْمنِ لقوله أولا كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا وللدلالة على أنه ليس على وجه الانتقام بل ذلك أيضا رحمة من الله تعالى على عباده وتنبيه على سبق الرحمة الغضب وإن الرحمانية لا تنافي العذاب بل الرحيمية على ما عليه الصوفية فقد قال المحقق القونوي في تفسير الفاتحة: الرحيم كما بينا لأهل اليمين والجمال والرحمن الجامع بين اللطف والقهر لأهل القضية الأخرى والجلال إلى آخر ما قال، وأيد الحمل على التفخيم بقوله فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أي قرينا تليه ويليك في العذاب فإن الولاية للشيطان بهذا المعنى إنما تترتب على مس العذاب العظيم. وأجيب عن كون المقام مقام إظهار مزيد الشفقة وهو يأبى ذلك بأن القسوة أحيانا من الشفقة أيضا كما قيل:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما | فليقس أحيانا على من يرحم |
وقال صاحب الكشف: المبتدأ ليس أجنبيا من كل وجه لا سيما والمفصول ظرف والمقدم في نية التأخير والبليغ يلتفت لفت المعنى بعد أن كان لما يرتكبه وجه مساغ في العربية وإن كان مرجوحا. ولعل سلوك هذا الأسلوب قريب من ترجيح الاستحسان لقوة أثره على القياس، ولا خفاء أن زيادة الإنكار إنما نشأ من تقديم الخبر كأنه قيل أراغب أنت عنها لا طالب لها راغب فيها منبها له على الخطأ في صدوفه ذلك ولو قيل: أترغب لم يكن من هذا الباب في شيء انتهى، ورجح أبو حيان إعراب أبي البقاء ومن معه بعدم لزوم الفصل فيه وبسلامة الكلام عليه عن خلاف الأصل في التقديم والتأخير، وتوقف البدر الدماميني في جواز ابتدائية المؤخر في مثل هذا التركيب وإن خلا عن فصل أو محذور آخر كما في أطالع الشمس وذلك نحو أقائم زيد للزوم التباس المبتدأ بالفاعل كما في ضرب زيد فإنه لا يجوز فيه ابتدائية زيد. وأجاب الشمني بأن زيدا في الأول يحتمل أمرين كل منهما بخلاف الأصل وذلك إجمال لا لبس بخلافه في الثاني فتأمل لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ تهديد وتحذير عما كان عليه من العظة والتذكير أي والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتني إلي لأرجمنك بالحجارة على ما روي عن الحسن، وقيل: باللسان والمراد لأشتمنك وروي ذلك عن ابن عباس وعن السدي والضحاك وابن جريج، وقدر بعضهم متعلق النهي الرغبة عن الآلهة أي لئن لم تنته عن الرغبة عن آلهتي لأرجمنك وليس بذاك وَاهْجُرْنِي عطف على محذوف يدل عليه التهديد أي فاحذرني واتركني وإلى ذلك ذهب الزمخشري.
ولعل الداعي لذلك وعدم اعتبار العطف على المذكور أنه لا يصح أو لا يحسن التخالف بين المتعاطفين إنشائية وإخبارية، وجواب القسم غير الاستعطافي لا يكون إنشاء وليست الفاء في فاحذرني عاطفة حتى يعود المحذور. ومن الناس من عطف على الجملة السابقة بناء على تجويز سيبويه العطف مع التخالف في الأخبار والإنشاء والتقدير أوقع صفحة رقم 416
في النفس مَلِيًّا أي دهرا طويلا عن الحسن ومجاهد وجماعة، وقال السدي: أبدا وكأنه المراد، وأصله على ما قيل من الإملاء أي الإمداد وكذا الملاوة بتثليث الميم وهي بمعناه ومن ذلك الملوان الليل والنهار ونصبه على الظرفية كما في قول مهلهل:
فتصدعت صم الجبال لموته | وبكت عليه المرملات مليا |
٨٦] كذا قيل فيكون استغفاره في قوة قوله: ربي اهده إلى الإيمان وأخرجه من الضلال.
والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين تحتم أنه يموت على الكفر مم لا ريب في جوازه كما أنه لا ريب في عدم جوازه عند تبين ذلك لما فيه من طلب المحال فإن ما أخبر الله تعالى بعدم وقوعه محال وقوعه ولهذا لما تبين له عليه السّلام بالوحي على أحد القولين المذكورين في سورة التوبة أنه لا يؤمن تركه أشد الترك فالوعد والإنجاز كانا قبل التبيين ولذا لم يؤذنوا بالتأسي به عليه السّلام في الاستغفار، قال العلامة الطيبي: إنه تعالى بين للمؤمنين أن أولئك أعداء الله تعالى بقوله سبحانه لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: ١] وأن لا مجال لإظهار المودة بوجه ما ثم بالغ جل شأنه في تفصيل عداوتهم بقوله عز وجل: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة: ٢] ثم حرضهم تعالى على قطيعة الأرحام بقوله سبحانه لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الممتحنة: ٣] ثم سلاهم عز وجل بالتأسي في القطيعة بإبراهيم عليه السّلام وقومه بقوله تبارك وتعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ
[الممتحنة: ٤] إلى قوله تعالى شأنه إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: ٤] فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله المقام كما احتمله ذلك المقام كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع يعني لكم التأسي بإبراهيم عليه السّلام مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير فلا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة والرحمة كما أبدى إبراهيم عليه السّلام لأبيه في قوله سأستغفر لك لأنه لم يتبين له حينئذ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعداوتهم انتهى.
واعترض بأن ما ذكر ظاهر في أن الاستغفار الذي وقع من المؤمنين لأولى قرابتهم فنهوا عنه لأنه كان بعد التبيين كان كاستغفار إبراهيم عليه السّلام بمعنى طلب التوفيق للتوبة والهداية للإيمان، والذي اعتمده كثير من العلماء أن قوله صفحة رقم 417
تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: ١١٣] الآية نزل في استغفاره صلّى الله عليه وسلّم لعمه أبي طالب بعد موته وذلك الاستغفار مما لا يكون بمعنى طلب الهداية أصلا وكيف تعقل الهداية بعد الموت بل لو فرض أن استغفاره عليه الصلاة والسّلام له كان قبل الموت لا يتصور أيضا أن يكون بهذا المعنى لأن الآية تقتضي أنه كان بعد تبين أنه من أصحاب الجحيم، وإذا فسر بتحتم الموت على الكفر كان ذلك دعاء بالهداية إلى الإيمان مع العلم بتحتم الموت على الكفر ومحاليته إذا كانت معلومة لنا بما مر فهي أظهر شيء عنده صلّى الله عليه وسلّم وعند المقتبسين من مشكاته عليه الصلاة والسّلام، وهو اعتراض قوي بحسب الظاهر وعليه يجب أن يكون استغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه بذلك المعنى في حياته لعدم تصور ذلك بعد الموت وهو ظاهر.
وقد قال الزمخشري في جواب السؤال بأنه كيف جاز له عليه السّلام أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قالوا:
أراد اشتراط التوبة عن الكفر وقالوا إنما استغفر له بقوله: «واغفر لأبي» لأنه وعده أن يؤمن، واستشهدوا بقوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: ١١٤] ثم قال: ولقائل أن يقول: الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع فأما قضية العقل فلا تأباه فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع ويدل على صحته أنه استثنى قول إبراهيم عليه السّلام «لأستغفرن» لك في آية «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم» إلخ عما وجبت فيه الأسوة ولو كان بشرط الإيمان والتوبة لما صح الاستثناء، وأما كون الوعد من أبيه فيخالف الظاهر الذي يشهد له قراءة الحسن وغيره «وعدها أباه» بالباء الموحدة قال في الكشف: واعترض الإمام حديث الاستثناء بأن الآية دلت على المنع من التأسي لا أن ذلك كان معصية فجاز أن يكون من خواصه ككثير من المباحات التي اختص بها النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس بشيء لأن الزمخشري لم يذهب إلى أن ما ارتكبه إبراهيم عليه السّلام كان منكرا بل إنما هو منكر علينا لورود السمع.
واعترض صاحب التقريب بأن نفي اللازم ممنوع فإن الاستثناء عما وجبت فيه الأسوة دل على أنه غير واجب لا على أنه غير جائز فكان ينبغي عما جازت فيه الأسوة بدل عما وجبت إلخ والآية لا دلالة فيها على الوجوب. والجواب أن جعله مستنكرا ومستثنى يدل على أنه منكر لا الاستثناء عما وجبت فيه فقط وإنما أتى الاستنكار لأنه مستثنى عن الأسوة الحسنة فلو اؤتسي به فيه لكان أسوة قبيحة، وأما الدلالة على الوجوب فبينة من قوله تعالى آخرا لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب: ٢١] كما تقرر في الأصول.
والحاصل أن فعل إبراهيم عليه السّلام يدل على أنه ليس منكرا في نفسه وقوله تعالى «ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا» إلخ يدل على أنه الآن منكر سمعا وأنه كان مستنكرا في زمن إبراهيم عليه السّلام أيضا بعد ما كان غير منكر ولذا تبرأ منه وهو ظاهر إلا أن الزمخشري جعل مدرك الجواز قبل النهي العقل وهي مسألة خلافية وكم قائل إنه السمع لدخوله تحت بر الوالدين والشفقة على أمة الدعوة بل قيل: إن الأول مذهب المعتزلة وهذا مذهب أهل السنة انتهى مع تغيير يسير.
واعترض القول بأنه استنكر في زمن إبراهيم عليه السّلام بعد ما كان غير منكر بأنه لو كان كذلك لم يفعله نبينا صلّى الله عليه وسلّم وقد جاء أنه عليه الصلاة والسّلام فعله لعمه أبي طالب. وأجيب بجواز أنه لم يبلغه إذ فعل عليه الصلاة والسّلام، والتحقيق في هذه المسألة أن الاستغفار للكافر الحي المجهول العاقبة بمعنى طلب هدايته للإيمان مما لا محذور فيه عقلا ونقلا وطلب ذلك للكافر المعلوم أنه قد طبع على قلبه وأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن وعلم أن لا تعليق في أمره أصلا مما لا مساغ له عقلا ونقلا، ومثله طلب المغفرة للكافر مع بقائه على الكفر على ما ذكره بعض المحققين،
وكان ذلك على ما قيل لما فيه من إلغاء أمر الكفر الذي لا شيء يعدله من المعاصي وصيرورة التكليف بالإيمان الذي لا شيء يعدله من الطاعات عبثا مع ما في ذلك مما لا يليق بعظمة الله عز وجل، ويكاد يلحق بذلك فيما ذكر طلب المغفرة لسائر العصاة مع البقاء على المعصية إلا أن يفرق بين الكفر وسائر المعاصي، وأما طلب المغفرة للكافر بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل وإنما يمنعه السمع وفرق بينه وبين طلبها للكافر مع بقائه على الكفر بعدم جريان التعليل السابق فيه ويحتاج ذلك إلى تأمل.
واستدل على جواز ذلك عقلا
بقوله صلّى الله عليه وسلّم لعمه «لا أزال أستغفر لك ما لم أنه»
فنزل قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: ١١٣] الآية، وحمل قوله تعالى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة: ١١٣] على معنى من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا كفارا والتزم القول بنزول قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ١١٦] بعد ذلك وإلا فلا يتسنى استغفاره صلّى الله عليه وسلّم لعمه بعد العلم بموته كافرا وتقدم السماع بأن الله تعالى لا يغفر الكفر، وقيل لا حاجة إلى التزام ذلك لجواز أن يكون عليه الصلاة والسّلام لوفور شفقته وشدة رأفته قد حمل الآية على أنه تعالى لا يغفر الشرك إذا لم يشفع فيه أو الشرك الذي تواطأ فيه القلب وسائر الجوارح وعلم من عمه أنه لم يكن شركه كذلك فطلب المغفرة حتى نهى صلّى الله عليه وسلّم، وقيل غير ذلك فتأمل، فالمقام محتاج بعد إلى كلام والله تعالى الموفق.
إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا بليغا في البر والإكرام يقال حفي به إذا اعتنى بإكرامه، والجملة تعليل لمضمون ما قبلها، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل مع الاهتمام وَأَعْتَزِلُكُمْ الظاهر أنه عطف على سَأَسْتَغْفِرُ والمراد أتباعد عنك وعن قومك وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة بديني حيث لم تؤثر فيكم نصائحي.
يروى أنه عليه السّلام هاجر إلى الشام، وقيل إلى حران وهو قريب من ذلك وكانوا بأرض كوثا. وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر، وجوز حمل الاعتزال على الاعتزال بالقلب والاعتقاد وهو خلاف الظاهر المأثور وَأَدْعُوا رَبِّي أي أعبده سبحانه وحده كما يفهم من اجتناب غيره تعالى من المعبودات وللتغاير بين العبادتين غوير بين العبارتين، وذكر بعضهم أنه عبر بالعبادة أولا لأن ذلك أوفق بقول أبيه أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي مع قوله فيما سبق يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
[مريم: ٤٢] إلخ، وعبر ثانيا بالدعاء لأنه أظهر في الإقبال المقابل للاعتزال.
وجوز أن يراد بذلك الدعاء مطلقا أو ما حكاه سبحانه في سورة [الشعراء: ٨٣] وهو قوله رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وقيل لا يبعد أن يراد استدعاء الولد أيضا بقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:
١٠٠] حسبما يساعده السياق والسباق عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا خائبا ضائع السعي. وفيه تعريض بشقاوتهم في عبادة آلهتهم. وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع ومراعاة حسن الأدب والتنبيه على حقيقة الحق من أن الإثابة والإجابة بطريق التفضل منه عز وجل لا بطريق الوجوب وأن العبرة بالخاتمة وذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة إلى ما تقدم وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ بدل من فارقهم من أبيه وقومه الكفرة لكن لا عقيب المهاجرة. والمشهور أن أول ما وهب له عليه السّلام من الأولاد إسماعيل عليه السّلام لقوله تعالى فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: ١٠١] إثر دعائه بقوله «رب هب لي من الصالحين» وكان من هاجر فغارت سارة فحملت بإسحاق عليه السّلام فلما كبر ولد له يعقوب عليه السّلام.