اللغَة: ﴿وَهَنَ﴾ ضعف يقال وَهَن يهنُ فهو وَاهِنٌ والوهنُ ضعفُ القوة ﴿اشتعل﴾ الاشتعال انتشار شعاع النار ﴿عَاقِراً﴾ العاقر: التي لا تلد لكبر سنها ﴿عِتِيّاً﴾ العِتيُّ: النهاية في الكبر واليبس
صفحة رقم 193والجفاف يقال: عتا الشيخ كبر وولّى قال الشاعر:
إنما يُعذر الوليدُ ولا يُعذر | من كان في الزَّمان عِتّياً |
أبَا منذر أفنيت فاسْبتق بعضّنا | حنانَيْك بعضُ الشر أهونُ من بعض |
التفسِير: ﴿كهيعص﴾ حروفٌ مقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وتقرأ: «كافْ، هَا، يَا، عَيْنْ، صَادْ» ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ﴾ أي هذا ذكرُ رحمةِ ربِّك لعبدِهِ زكريا نقصُّه عليك يا محمد ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾ أي حين ناجى ربه ودعاه بصوتٍ خفي لا يكاد يسمع قال المفسرون: لأن الإخفاء في الدعاء أدخلُ في الإخلاص وأبعدُ من الرياء ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ أي دعا في ضراعة فقال يا رب: لقد ضعف عظمي، وذهبتْ قوتي من الكِبر ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ أي انتشر الشيب في رأسي انتشار النار في الهشيم ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ أي لم تخيّب دعائي في وقت من الأوقات بل عودتني الإحسان والجميل فاستجب دعائي الآن كما كنت تستجيبه فيما مضى قال البيضاوي: هذا توسلٌ بما سلف له من الاستجابة، وأنه تعالى عوَّده بالإجابة وأطعمه فيها، ومن حقّ الكريم أن لا يخيَّب من أطمعه ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي﴾ أي خفت بني العم والعشيرة من بعد موتي أن يضيّعوا الدين ولا يُحسنوا وراثة العلم والنبوة ﴿وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً﴾ أي لا تلد لكبر سنها أو لم تلدْ قطُّ ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً﴾ أي فارزقني من محض فضلك ولداً صالحاً يتولاني ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ أي يرثني ويرث أجداده في العلم والنبوة قال البيضاوي: المراد وراثة الشرع والعلم فإن الأنبياء لا يورّثون المال ﴿واجعله رَبِّ رَضِيّاً﴾ أي أجعله يا رب مرضياً عندك قال الرازي: قدًَّم زكريا عليه السلام على طلب الولد أموراً ثلاثة: أحدها: كونه ضعيفاً، والثاني: أن الله ما ردَّ دعاءه البتة، والثالث: كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين ثم صرَّح بسؤال الولد وذلك مما يزيد الدعاء توكيداً لما فيه من الاعتماد على حول الله وقوته والتبري عن الأسباب الظاهرة ﴿يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى﴾ أي نبشرك بواسطة الملائكة بغلامٍ يسمى يحيى كما في آل عمران ﴿فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى﴾
[آل عمران: ٣٩] ﴿لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً﴾ أي لم يسمَّ أحدٌ قبله بيحيى فهو اسم فذٌّ غير مسبوق سمّاه تعالى به ولم يترك تسميته لوالديه وقال مجاهد: ليس له شبيه في الفضل والكمال ﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ أي كيف يكون لي غلام؟ وهو استفهام تعجب وسرور بالأمر العجيب ﴿وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً﴾ أي والحال أن أمرأتي كبيرة السن لم تلد في شبابها فكيف وهو الآن عجوز!! ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً﴾ أي صفحة رقم 194
بلغتُ في الكبر والشيخوخة نهاية العمر قال المفسرون: كان قد بلغ مائةً وعشرين سنة، وامرأتهُ ثمانٍ وتسعين سنة، فأراد أن يطمئنَّ ويعرف الوسيلة التي يرزقه بها هذا الغلام ﴿قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ أي قال الله لزكريا: هكذا الأمر أخلقه من شيخين كبيرين، وخلقه وإيجادُه سهلٌ يسيرٌ عليَّ ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ أي كما خلقتُك من العدم ولم تكُ شيئاً مذكوراً فأنا قادر على خلق يحيى منكما قال المفسرون: ليس في الخلق هينٌ وصعبٌ على الله، فوسيلة الخلق للصغير والكبير، والجليل والحقير واحدةٌ ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ وإنما هو أهونُ في اعتبار الناس، فإن القادر على الخلق من العدم قادرٌ على الخلق من شيخين هرمين ﴿قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً﴾ أي اجعل لي علامة تدل على حمل امرأتي ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ أي علامتك ألا تستطيع تكليم الناس ثلاثة أيام بلياليهن وأنت سويُّ الخلق ليس بك خرسٌ ولا علة قال ابن عباس: اعتُقِل لسانه من غير مرض وقال ابن زيد: حُبس لسانه فكان لا يستطيع أن يكلم أحداً وهو مع ذلك يسبح ويقرأ التوراة لم يكن الإنجيل ظهر بعد لأن هذا قبل ولادة عيسى عليه السلام فإذا أراد الناس لم يستطع أن يكلمهم ﴿فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب﴾ أي أشرف عليهم من المصلّى وهو بتلك الصفة ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ أي أشار إلى قومه بأن سبّحوا الله في أوائل النهار وأواخره، وكان كلامه مع الناس بالإِشارة لقوله تعالى في آل عمران ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً﴾ [آل عمران: ٤١] ﴿يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ﴾ في الكلام حذفٌ والتقدير فلما ولد يحيى وكبر وبلغ السن الذي يؤمر فيه قال الله له: يا يحيى خذ التوراة بجدٍ واجتهاد ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً﴾ أي أعطيناه الحكمة ورجاحة العقل منذ الصغر، روي أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعبُ فقال لهم: ما للَّعب خُلقت، وقيل: أعطي النبوة منذ الصغر والأول أظهر قال الطبري: المعنى أعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه سن الرجال ﴿وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً﴾ أي فعلنا ذلك رحمة منا بأبوية وعطفاً عليه وتزكيةً له من الخصال الذميمة ﴿وَكَانَ تَقِيّاً﴾ أي عبداً صالحاً متقياً لله، لم يهمَّ بمعصيةٍ قط قال ابن عباس: طاهراً لم يعلم بذنب ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً﴾ أي جعلناه باراً بأبيه وأمه محسناً إليهما ولم يكن متكبراً عاصياً لربه ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾ أي سلام عليه من الله من حين مولده إلى حين مبعثه، في يوم ولادته وفي يوم موته ويوم يُبعث من قبره قال ابن عطية: حيَّاه في المواطن التي يكون الإنسان فيها في غاية الضعف، والحاجة، والافتقار إلى الله ﴿واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ﴾ هذه هي القصة الثانية في هذه السورة وهي أعجب من قصة «ميلاد يحيى» لأنها ولادة عذراء من غير بعل، وهي أغرب من ولادة عاقرٍ من بعلها الكبير في السن والمعنى اذكر يا محمد قصة مريم العجيبة الغريبة الدالة على كمال قدرة الله ﴿إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً﴾ أي حين تنحَّتْ واعتزلت أهلها في مكان شرقيَّ بيت المقدس لتتفرع لعبادة الله ﴿فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً﴾ أي جعلت بينها وبين قومها
صفحة رقم 195ستراً وحاجزاً ﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا﴾ أي أرسلنا إليها جبريل عليه السلام ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾ أي تصوَّر لها في صورة البشر التام الخلقة قال ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعْدَ الشعر مستوى الخلقة قال المفسرون: إنما تمثل لها في صورة الإنسان لتسأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرتْ ولم تقدر على السماع لكلامه، ودلَّ على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة في الحسن ﴿قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ أي فلما رأته فزعت وخشيتْ أن يكون إنما أرادها بسوء فقالت: إني أحتمي وألتجئ إلى الله منك، وجواب الشرط محذوفٌ تقديره إن كنت تقياً فاتركني ولا تؤذني ﴿قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً﴾ أي قال لها جبريل مزيلاً لما حصل عندها من الخوف: ما أنا إلا ملَكٌ مرسلٌ من عند الله إليك ليهبَ لك غلاماً طاهراً من الذنوب ﴿قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ أي كيف يكون لي غلام؟ وعلى أيّ صفةٍ يوجد هذا الغلام مني؟ ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾ أي ولستُ بذاتِ زوج حتى يأتيني ولد ولستُ بزانية ﴿قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ أي كذلك الأمر حكم ربُّك بمجيء الغلام منك وإن لم يكن لك زوج، فإنَّ ذلك على الله سهل يسير ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا﴾ أي وليكون مجيئه دلالةّ للناس على قدرتنا العجيبة ورحمة لهم ببعثته نبياً يهتدون بإرشاده ﴿وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً﴾ أي وكان وجوده أمراً مفروغاً منه لا يتغّير ولا يتبدل لأنه في سابق علم الله الأزلي ﴿فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً﴾ انتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء قال المفسرون: إن جبريل نفخ في جيب درعها فدخلت النفخة في جوفها فحملت به وتنحت إلى مكان بعيد ومعنى الآية أنها حملت بالجنين فاعتزلت - وهو في بطنها - مكاناً بعيداً عن أهلها خشية أن يعيرّوها بالولادة من غير زوج ﴿فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة﴾ أي فألجأها ألم الطَّلق وشدة الولادة إلى ساق نخلةٍ يابسة لتعتمد عليه عند الولادة ﴿قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً﴾ أي قالت يا ليتني كنت قد مِتُّ قبل هذا اليوم وكنت شيئاً تافهاً لا يُعرف ولا يُذكر قال ابن كثير: عرفت أنها ستُبتلى وتُمتحن بهذا المولود فتمنت الموت لأنها عرفت أن الناس لا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عاهرة زانية ولذلك قالت ما قالت ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي﴾ أي فناداها الملك من تحت النخلة قائلاً لها: لا تحزني لهذا الأمر ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً﴾ أي جعل لك جدولاً صغيراً يجري أمامك قال ابن عباس: ضرب جبريل برجله الأرض فظهرت عين ماءٍ عذب فجرى جدولاً ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة﴾ أي حركي جذع النخلة اليابسة ﴿تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً﴾ أي يتساقط عليك الرُّطب الشهيُّ الطريُّ قال المفسرون: أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع بعد رؤيتها عين الماء العذب الذي جرى جدولاً، وذلك ليسكن ألمها وتعلم أن ذلك كرامة من الله لها ﴿فَكُلِي واشربي﴾ أي كلي من هذا الرطب الشهي، واشربي من هذا الماء العذب السلسبيل ﴿وَقَرِّي عَيْناً﴾ أي طيبي نفساً بهذا المولود
صفحة رقم 196
ولا تحزني ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً﴾ أي فإن رأيتِ أحداً من الناس وسألك عن شأن المولود ﴿فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً﴾ أي نذرت السكوت والصمت لله تعالى ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾ أي لن أكلّم أحداً من الناس.
. أُمِرت بالكفّ عن الكلام ليكفيها ولدها ذلك فتكون آية باهرة ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ أي أتتْ قومها بعد أن طهرت من النفاس تحمل ولدها عيسى على يديها ﴿قَالُواْ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً﴾ أي فلما وابنها أعظموا أمرها واستنكروه وقالوا لها: لقد جئتِ شيئاً عظيماً مُنكراً ﴿ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ﴾ أي يا شبيهة هارون في الصلاح والعبادة ما كان أبوك رجلاً فاجراً ﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾ أي وما كانت أمكِ زانية فكيف صدر هذا منك وأنت من بيت طاهر معرفٍ بالصلاح والعبادة؟ قال قتادة: كان هارون رجلاً صالحاً في بني إسرائيل مشهوراً بالصلاح فشبهوها به، وليس بهارون أخي موسى لأن بينهما ما يزيد على ألف عام وقال السهيلي: هارون رجل من عُباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تُشبّه به في اجتهادها وليس بهارون أخي موسى بن عمران فإن بينهما دهراً طويلاً ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ أي لم تجبهم وأشارت إلى عيسى ليكلموه ويسألوه ﴿قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً﴾ أي قالوا متعجبين: كيف نكلم طفلاً رضيعاً لا يزال في السرير يغتذي بلبان أمه؟ قال الرازي: روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وكلمهم، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله﴾ أي قال عيسى في كلامه حين كلمهم: أنا عبدٌ لله خلقني بقدرته من دون أب، قدم ذكر العبودية، ليُبطل قول من ادّعى في الربوبية ﴿آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ أي قضى ربي أن يؤتيني الإنجيل ويجعلني نبياً، وإنما جاء بلفظ الماضي لإفادته تحققه فإن ما حكم به الله أزلاً لا بدَّ إلا أن يقع ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ أي جعل فيَّ البركة والخير والنفع للعباد حيثما كنت وأينما حللت ﴿وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً﴾ أي أوصاني بالمحافظة على الصلاة والزكاة مدة حياتي ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِي﴾ أي وجعلني باراً بوالدتي محسناً لها ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾ أي ولم يجعلني متعظماً متكبراً على أحد شقياً في حياتي ﴿والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ أي سلام الله عليَّ في يوم ولادتي، وفي يوم مماتي، وفي يوم خروجي حياً من قبري، هذا ما نطق به المسيح عليه السلام وهو طفل رضيع في المهد.
. وهكذا يعلن عيسى عبوديته لله، فليس هو إلهاً، ولا ابن إله، ولا ثالث ثلاثة كما يزعم النصارى، إنما عبدٌ ورسول، يحيا ويموت كسائر البشر، خلقه الله من أم دون أب ليكون آية على قدرة الله الباهرة، ولهذا جاء التعقيب المباشر ﴿ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ﴾ أي ذلك هو القول الحقُّ في عيسى بن مريم لا ما يصفه النصارى من أنه ابن الله، أو اليهود من أنه ابن زنى ويشكّون في أمره ويمترون ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾ أي ما ينبغي لله ولا يجوز له أن يتخذ ولداً ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أي تنزَّه الله عن الولد والشريك ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ أي إذا أراد شيئاً وحكم به قال له كنْ فكان، ولا يحتاج إلى
معاناةٍ أو تعب، ومن كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ قال المفسرون: وهذا كالدليل لما سبق كأنه قال: إن اتخاذ الولد شأن العاجز الضعيف المحتاج الذي لا يقدر على شيء، وأما القادر الغني الذي يقول للشيء ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ فلا يحتاج في اتخاذ الولد إلى إحبال الأنثى وحيث أوجده بقوله ﴿كُن﴾ لا يسمى ابناً له بل هو عبده، فهو تبكيتٌ وإلزام لهم بالحجج الباهرة ﴿وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ أي وممّا أمرَ به عيسى قومَه وهو في المهد أن أخبرهم أن الله ربه وربهم فليفردوه بالعبادة هذا هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه ﴿فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ﴾ أي اختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى وصاروا أحزاباً متفرقين، فمنهم من يزعم أنه ابن الله، ومنهم من يزعم أنه ابن زنى ﴿فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي ويلٌ لهم من المشهد الهائل ومن شهود هول الحساب والجزاء ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ أي ما أسمعهم وأبصرهم في ذلك اليوم الرهيب ﴿لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي لكنْ الظالمون في هذه الدنيا في بعدٍ وغفلة عن الحق واضح جلي ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة﴾ أي أنذر الخلائق وخوّفهم يوم القيامة يوم يتحسر المسيء إذ لم يُحسن، والمقصر إذ لم يزدد من الخير ﴿إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ أي قُضي أمرُ الله في الناس، فريقٌ في الجنة وفريق في السعير ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ أي وهم اليوم في غفلةٍ سادرون ﴿وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي لا يصدقون بالبعث والنشور ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ أي نحن الوارثون للأرض وما عليها من الكنوز والبشر ﴿وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ أي مرجع الخلائق ومصيرهم إلينا للحساب والجزاء.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - الكناية ﴿وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ كناية عن ذهاب القوة وضعف الجسم.
٢ - الاستعارة ﴿اشتعل الرأس شَيْباً﴾ شبّه انتشار الشيب وكثرته باشتعال النار في الحطب واستعير الاشتعال للانتشار واشتق منه اشتعل بمعنى انتشر ففيه استعارة تبعية.
٣ - الطباق بين ﴿وُلِدَ.. ويَمُوتُ﴾.
٤ - جناس الاشتقاق ﴿نادى.. نِدَآءً﴾.
٥ - الكناية اللطيفة ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ كناية عن المعاشرة الزوجية بالجماع.
٦ - صيغة التعجب ﴿أَسْمِعْ.. وَأَبْصِرْ﴾.
٧ - السجع ﴿سَرِيّاً، بَغِيّاً، صَبِيّاً، نَبِيّاً﴾ وهو من المحسنات البديعة.
تنبيه: في يوم القيامة تشتد الحسرات حتى لكأن اليوم ممحض للحسرة لا شيء فيه سواها، وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «» إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال يا أهل الجنة: هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون - أي يمدون أعناقهم - وينظرون ويقولون نعم هذا الموت، ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت، فيؤمر به فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة..﴾ الآية «.