
ذكر الطبري من قصصها أنها خرجت فارّة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار كان يخدم معها المسجد وطول في ذلك فاختصرته لضعفه، وهذه القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملا على عرف البشر واستحيت من ذلك ومرت بسببه وهي حامل وهو قول جمهور المتأولين، وروي عن ابن عباس أنه قال ليس إلا أن حملت فوضعت في ساعة واحدة والله أعلم. وظاهر قوله فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ يقتضي أنها كانت على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر ولذلك قيل لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظا لخاصية عيسى عليه السلام وقيل ولدته لسبعة وقيل لستة.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وابن عباس والحسن وزيد بن حبيش ومجاهد والجحدري وجماعة «فناداها من تحتها» على أن «من» فاعل ينادي والمراد ب «من» عيسى، قال أي ناداها المولود قاله مجاهد والحسن وابن جبير وأبي بن كعب، وقال ابن عباس المراد ب «من» جبريل ولم يتكلم حتى أتت به قومها وقاله علقمة والضحاك وقتادة، ففي هذا آية لها وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم لا سيما والمنادي عيسى فإنه يبين به عذر مريم ولا تبقى بها استرابة، فلذلك كان النداء أن لا يقع حزن، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم والبراء بن عازب والضحاك وعمرو بن ميمون وأهل الكوفة وأهل المدينة وابن عباس أيضا والحسن «من تحتها» بكسر الميم على أنها لابتداء الغاية واختلفوا، فقال بعضهم: المراد عيسى، وقالت فرقة: المراد جبريل المحاور لها قبل، قالوا: وكان في سعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها وأبين وأظهر، وعليه كان الحسن بن أبي الحسن يقسم وقرأ علقمة وزر بن حبيش «فخاطبها من تحتها»، وقرأ ابن عباس «فناداها ملك من تحتها». وقوله أَلَّا تَحْزَنِي تفسير النداء ف «أن» مفسرة بمعنى أي، و «السري» من الرجال العظيم الخصال السيد، و «السري» أيضا الجدول من الماء، وبحسب هذا اختلف الناس في هذه الآية فقال قتادة وابن زيد: أراد جعل تحتك عظيما من الرجال له شأن، وقال الجمهور أشار لها إلى الجدول الذي كان قرب جذع النخلة، وروي أن الحسن فسر الآية فقال أجل لقد جعله الله سَرِيًّا كريما، فقال عبيد بن عبد الرحمن الحميري يا أبا سعيد إنما يعني ب «السري» الجدول، وقال الحسن لهذه وأشباهها أحب قربك ولكن غلبنا عليك الأمراء ومن الشاهد في «السري» قول لبيد. [الكامل]
فتوسطا عرض السري فصدعا | مسجورة متجاورا قلّامها |

هو المكلم لها وأن الجذع كان يابسا وعلى هذا تكون آيات تسليها وتسكن إليها. والباء في قوله بِجِذْعِ زائدة مؤكدة قال أبو علي: كما يقال ألقى بيده أي ألقى يده.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا المثال عندي نظر، وأنشد الطبري: [الطويل]
بواد يمان ينبت السدر صدره | وأسفله بالمزج والشبهان |
وقوله عَيْناً نصب على التمييز، والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فينقل ذلك إلى ذي العين وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير، ومثله طبت نفسا وتفقأت شحما وتصببت عرقا، وهذا كثير. وقرأ الجمهور «ترين» وأصله ترءيين حذفت النون للجزم، ثم نقلت حركة الهمزة إلى الراء، ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الألف والياء، فحذفت الألف فجاء ترى وعلى هذا! النحو هو قول الأفوه: [السريع] أما ترى رأسي أزرى به ثم دخلت النون الثقيلة، فكسرت الياء لاجتماع ساكنين منها ومن النون، وإنما دخلت النون هنا صفحة رقم 12