آيات من القرآن الكريم

فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا
ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ

النصارى بأبوّة الله عز وجل للمسيح، وتقرير كون ولادته ليست إلّا معجزة ربانية فإنه يصح أن يقال إن ذكر قصة ولادة يحيى قبل قصة ولادة المسيح عليهما السلام هو من قبيل التمهيد والتدليل على أن ولادة المسيح قد سبقت بمعجزة ربانية من نوعها تقريبا، فلا يصح أن ينبني عليها ما قامت عليه العقيدة النصرانية بأبوّة الله للمسيح أو بنوّة المسيح لله بالمعنى الحرفي للأبوة أو البنوّة.
والإعجاز الرباني في ولادة يحيى كان معروفا ومسلّما به من قبل النصارى واليهود. وقد ورد بتفصيل مطابق لما ورد في السلسلة في إنجيل لوقا (الإصحاح الأول) كما ورد في الإصحاح نفسه أن ملاك الله ذكّر به مريم حينما بشرها بحلول روح القدس عليها والحبل بعيسى عليه السلام لأنها قالت له: كيف أحبل وأنا لا أعرف رجلا؟ فقال لها: إن إليصابات نسيبتك وزوجة زكريا حبلت أيضا بابن في شيخوختها مع أنها كانت عاقرا وأنه ليس أمر غير ممكن لدى الله.
وهكذا جاء التمهيد القرآني محكما ومفحما للنصارى الذين هم موضوع الحديث في ولادة عيسى عليه السلام الوارد في الآيات التالية.
ولقد ذكرت ولادة يحيى الإعجازية مرتين أخريين في القرآن. مرة في سورة الأنبياء المكية الآيات [٨٨- ٩١]. ومرة في سورة آل عمران المدنية الآيات [٣٢- ٥١]. وكان خبر الحبل بعيسى وولادته الإعجازية يذكر بعد كل من المرتين مثل ما هو في هذه السورة.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ٣٦]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)

صفحة رقم 144

(١) انتبذت من أهلها: انفردت أو انعزلت عن مكان أهلها.
(٢) اتخذت من دونهم حجابا: احتجبت عنهم وتورات بقصد الاعتكاف والتعبد.
(٣) إن كنت تقيّا: إن كنت ممن يتقون الله.
(٤) زكيّا: طاهرا، وقال ابن عباس أريد بالكلمة نبيّا.
(٥) بغيّا: مومسا.
(٦) وكان أمرا مقضيا: تمّ أمر الله.
(٧) قصيّا: بعيدا.
(٨) أجاءها المخاض: ألجأتها أو اضطرتها أوجاع المخاض.
(٩) سريّا: قيل هو جدول الماء الساري الجاري. وقيل هو الشريف الرفيع،

صفحة رقم 145

والمعنى الأول متسق مع ذكر النخلة والرطب والأكل والشرب في الآية التالية حيث تريد الآيات أن تشير إلى معجزة أكرم الله بها مريم وابنها، فأحيا النخلة فحملت رطبا، وأجرى الماء عندها لتأكل وتشرب.
(١٠) تساقط: تتساقط.
(١١) رطبا جنيّا: تمرا مجنيا صالحا للأكل.
(١٢) نذرت: أوجبت على نفسي.
(١٣) صوما: هنا بمعنى صمتا أو إمساكا عن الكلام والصوم في اللغة هو الامتناع والكفّ عن الشيء.
(١٤) فريّا: شيئا عجيبا وبدعا ومختلقا.
(١٥) يا أخت هرون: كناية عمّا كانت تعرف به مريم من التقوى وتشبيها لها بهارون أخي موسى عليهما السلام الذي كان رئيس كهنة الله.
(١٦) يمترون: يشكون أو يجادلون.
في هذه الآيات أمر رباني للنبي ﷺ بذكر قصة مريم وولادة عيسى عليهما السلام. وعبارتها واضحة حينما يستعان عليها بشرح المفردات المتقدم، ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر.
وهي معطوفة على سابقاتها حيث يصح أن يقال إنها سلسلة متصلة. وقد احتوت الآيات [٣٤- ٣٦] التي جاءت عقب آيات القصة تقريرا تعقيبيا بأن ما جاء في القصة هو الحق والحقيقة في ولادة عيسى عليه السلام، وشخصيته التي يتمارى الناس فيها ويتجادلون، وبأن الله تعالى منزه عن اتخاذ الأولاد لأن ذلك غير لائق بعظمته وصفة ربوبيته، وبأن قدرته كافية لحصول كل ما يريد بمجرد أن تتعلق إرادته به. وقد وجّه الخطاب في الآية الأخيرة منها إلى مخاطبين سامعين أو قريبين هاتفة بهم بأن الله تعالى هو ربّ الجميع وأن عليهم أن يعبدوه وحده لأن ذلك هو الحق الذي يجب أن يتبعوه والصراط المستقيم الذي يجب أن يسيروا عليه.

صفحة رقم 146

ولقد قال أكثر المفسرين «١» إن الآية الأخيرة أي الآية [٣٦] استمرار لحكاية كلام عيسى عليه السلام. وهذا محتمل قياسا على مثل ذلك محكي عنه في آيات أخرى مثل آية سورة المائدة هذه لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) ومثل آيات سورة الزخرف هذه وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) ومع ذلك فمن المحتمل أن تكون الآية خطابا أمر النبي ﷺ بتوجيهه للسامعين أيضا تعقيبا على قصة مريم وعيسى عليهما والسلام التي أمر بذكرها لهم.
وقد ذكر هذا الاحتمال بعض المفسرين أيضا «٢».
تعليق على قصة ولادة عيسى وأهدافها
ولم نطلع على رواية تذكر سبب نزول هذه الآيات ولا التي قبلها. غير أن بدءها بالأمر للنبي ﷺ بذكر مريم وقصة ولادة عيسى عليهما السلام، واحتواء الآية [٣٥] ما يدل على أن قصد إيراد القصة هو تقرير الحق فيما يمتري الناس السامعون فيه، يمكن أن يكون قرينة أو دليلا على نزول الآيات في مناسبة موقف جدلي واقعي بين النبي ﷺ والعرب، أو بينه وبين النصارى، أو في مجلس كان فيه فريق من هؤلاء وفريق من هؤلاء، أو بناء على سؤال ورد على النبي ﷺ عن حقيقة أمر عيسى عليه السلام وولادته، وأن حكمة التنزيل اقتضت ذكر قصة ولادة يحيى عليه السلام كتمهيد أو مقدمة تدعيمية. وقد تكرر مثل هذا ولنفس القصد ونفس التدعيم في فصل طويل جاء في سورة آل عمران الآيات [٣٣- ٦٨]

(١) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والكشاف مثلا.
(٢) انظر تفسير الآية في مجمع البيان للطبرسي.

صفحة رقم 147

روى المفسرون «١» أنه نزل في مناسبة مجلس مناظرة انعقد بين النبي ﷺ ووفد من نصارى نجران بعد الهجرة، مما يمكن أن يستأنس به بأن مثل هذا المجلس قد انعقد بين النبي ﷺ وبين فريق من النصارى في مكة وأن فصل سورة مريم الذي نحن في صدده قد نزل في صدد ذلك.
فآيات سورة مريم وروحها والآيات العديدة الواردة في السور الأخرى في شأن عيسى وولادته وعقيدة النصارى فيه، وموقف العرب من ذلك، تدل على أن عيسى عليه السلام وشخصيته كانا موضع جدل ونقاش وأخذ ورد قبل نزول الآيات. فالعرب كانوا أو كان منهم من ينقدون اختلاف الكتابيين ونزاعهم ويقطعون على أنفسهم العهد أن يكونوا أهدى منهم لو جاءهم نذير، ونزل بلغتهم كتاب على ما حكته آيات سورة فاطر التي سبقت هذه السورة مباشرة. وكانوا أو كان منهم من يرون أن عقيدة النصارى في المسيح قائمة على منطق غير سليم كما حكت ذلك آيات سورة الزخرف هذه: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) واليهود كانوا يرمون مريم بالبهتان ويكفرون بعيسى وينعتونه بالكذب والسحر مما أشارت إليه بعض آيات القرآن مثل آيات سورة النساء هذه: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) ومثله آية سورة المائدة هذه: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ

(١) انظر تفسير هذه الآيات في تفسير ابن كثير مثلا.

صفحة رقم 148

وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠). وكان النصارى فرقا اشتد بينها الخلاف منهم من كان يعتقد أن عيسى ابن الله، أو أنه أحد أقانيم الله الثلاثة، أو أنه هو الله كما حكت آية سورة النساء هذه يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٧١)، وآية سورة المائدة هذه لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)، وآية سورة المائدة أيضا هذه لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣). ومنهم من كان يعتقد أن المسيح ذو طبيعتين أو مشيئتين لاهوتية وناسوتية، وأن طبيعته اللاهوتية مساوية لطبيعة الأب الإله وهو والحالة هذه في زعمهم إله كامل وإنسان كامل. وأنه جاء إلى الدنيا بصفته الثانية. وأن ما كان من مقتضيات إنسانيته من ولادة وحياة وأكل وشرب وموت غير متناف مع صفته الأولى. ومنهم من كان يعتقد أن الطبيعتين اللاهوتية والناسوتية امتزجتا فيه فصار ذا طبيعة واحدة، وليس هو متساويا مع الله مساواة كاملة. ومنهم من لم يكن يعتقد أنه ابن الله وإنما هو بشر حلّ فيه روح الله أو روح القدس فغدا بذلك هيكل الله. وإن مريم إنما حبلت ببشر ولا يجوز أن تسمّى أم الله. ومنهم من كان يعتقد أنه إنسان ولد ولادة طبيعية من مريم ويوسف النجار وكان نبيا. ومنهم من كان يعتقد أنه إنسان ولد بمعجزة من مريم العذراء وكان نبيا وأنه كان يبشر بسيدنا محمد ﷺ وأنه لم يصلب ولم يقتل ولكن شبّه به،

صفحة رقم 149

وهذا ما أشارت إليه بعض آيات القرآن أيضا مثل آية سورة الصف هذه وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ... [٦]، وآية سورة النساء هذه وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ... [١٥٧] ومنهم من كان يرفع مريم إلى درجة الألوهية مما أشارت إليه آيات سورة المائدة هذه وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) «١» فأنزل الله الآيات بمناسبة مجلس جدل أو استفسار في شأن المسيح لتضع الأمور في نصابها. فولادة عيسى عليه السلام تمّت بمعجزة وقد سبقت بمعجزة ربانية مقاربة وهي ولادة يحيى عليه السلام من أب هرم وأم عاقر. واليهود والنصارى يعرفون ذلك فلا يقتضي هذا أن يكون عيسى إلها أو جزءا من الإله أو ابنا لله دون يحيى، ولا أن ترمى مريم بالبهتان ولا أن ترفع إلى درجة اللاهوتية. وعيسى والحالة هذه عبد من عباد الله الصالحين ونبي من أنبيائه أرسله الله ليدعو إليه وحده ويحثّ على مكارم الأخلاق ويحذر من سيئاتها. وله من أجل ذلك حقّ التكريم ولأمّه حقّ التنزيه في نطاق عبوديتهما لله.
وبهذا تهيىء الآيات الطريق أمام غلاة النصارى للرجوع عن غلوّهم وتفتح الباب لهم وللذين تتقارب عقيدتهم إلى هذه التقريرات ليدخلوا منه إلى الإسلام ويتخلصوا مما هم فيه من شكوك وخلاف ونزاع. وتسدّ على كفار العرب طريق

(١) في إنجيل برنابا نصوص كثيرة جدا تتطابق مع ما جاء في القرآن وفي تاريخ سورية للمطران الدبس المجلد ٣ والجزء ٢ ص ٥٥٦- ٦٣٥ والمجلد ٤ الجزء ٢ ص ٨٠- ٩٠ و ٢٣٠- ٢٣٩ و ٢٦١- ٢٧٤ و ٣٧٦- ٤١٦ و ٥٢٦- ٥٢٨ نبذ كثيرة عن المقالات التي ظهرت في صدد المسيح وأصحابها منذ القرن الأول إلى القرن السادس الميلادي، احتوت المذاهب التي أشرنا إليها. انظر أيضا رسالة (الشهداء الحميريون) في الوثائق السريانية نشر بطرك السريان في سورية سنة ١٩٦٦ حيث جاء فيها إشارات إلى معظم هذه الصور عن المسيح وأمه، مما كان يعتقده طوائف النصارى المختلفة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

صفحة رقم 150

الاحتجاج والمماحكة، وتلزم اليهود حدّهم فيما كانوا يرسلونه من مطاعن شنيعة في عيسى وأمه عليهما السلام.
ويلفت النظر إلى أن الآيات لم تكتف بوضع الأمور في نصابها الحقّ، وهي تقرر ما تقرره، بل اشتملت على تعقيب تدعيمي في الدعوة إلى الله وحده التي بعث النبي ﷺ للدعوة إليها سواء أفي الآية الأخيرة من السلسلة أم في ما تلاها من الآيات على ما يأتي شرحه. وهكذا يتسق هدف هذه القصة مع هدف القصص القرآني العام كما هو واضح.
ومن الجدير بالذكر أنه بالإضافة إلى التقارب والتطابق بين ما جاء في القرآن وما جاء في إنجيل لوقا من قصة البشارة بيحيى وعيسى ومعجزة ولادتهما على ما أوردناه قبل قليل فإن في هذا الإنجيل والأناجيل الثلاثة الأخرى المتداولة اليوم والمعترف بها من النصارى، والتي كتبت لتكون ترجمة لحياة عيسى عليه السلام، واحتوت أقوالا وأفعالا كثيرة منسوبة إليه، ونصوصا كثيرة جدا متطابقة متقاربة لما حكي عن لسان عيسى عليه السلام، وأفعالا كثيرة منسوبة إليه ونصوصا تتطابق بصراحة لما حكى القرآن عن لسانه. ومن ذلك قوله أن الله هو الذي أرسله وأنه لا يستطيع أن يقول ويفعل شيئا إلا بأمره وأنه ابن البشر وأن الله ربّ السموات والأرض وأنه كان يصلي الله وحده ويأمر الناس أن يصلوا له وحده، ويقدسوه وحده ويطلبوا منه الغفران وحده وأنه كان يقول إن من يؤمن به فإنه في الحقيقة يؤمن بالذي أرسله. وهذا بالإضافة إلى نصوص كثيرة جدا لا تخرج عن مدى ذلك، ومن ذلك ما كان يوجهه إلى الله من نداءات وأدعية واستغاثات إلخ مما يلهم بأن الذين كانوا لا يعتقدون بألوهية المسيح أو ببنوّته لله أو بجزئيته منه أو الذين يعتقدون بناسوتيته أو ببنوّته على ما ذكرناه قبل، إنما كانوا يستندون إلى هذه الأقوال. ومما يجعل فكرة اختصاص المسيح ببنوّة الله أو ما في نطاقها أو في ألوهيته وربوبيته أو جزئيته الإلهية غير قائمة على أساس وثيق. وفي كل هذا ما فيه من إلزام، ومن إبراز كون الغلوّ في أمر عيسى عليه السلام ليس في الكتب المتداولة وإنما في عدم تأويلها تأويلا سليما، وعدم فهمها فهما صحيحا.

صفحة رقم 151

نقول هذا ونحن نعرف أن النصارى منذ أن استقرت عقائدهم الحاضرة في المسيح نتيجة لقرارات مجمعية متعاقبة أخذت تنعقد منذ القرن الرابع بعد الميلاد بسبب ما كان من خلاف شديد بين رجال الدين النصراني يؤولون الأقوال المروية عن لسان عيسى عليه السلام مما ذكرناه وما لم نذكره تأويلات متّسقة مع عقائدهم.
ولكن التمعن والإنصاف لا يمكن إلا أن يجعل للمدى المستلهم من أقوال عيسى عليه السلام صحته ووجاهته.
وإلى هذا فإن في كتب التاريخ المسيحية القديمة ما يفيد أنه كان في أيدي النصارى الأولين الذين كانوا يعتقدون بعقائد متفقة مع هذا المدى أناجيل يستندون إليها أبيدت. وأنهم كانوا يصفون الأناجيل الأخرى بالتحريف والتزوير «١». وأنه كان في هذه الأناجيل صراحة وتطابق أكثر مع ما جاء القرآن.
والدليل القطعي على ذلك ما حكته بعض آيات القرآن المكية والمدنية من إيمان أهل الكتاب وأهل العلم والنصارى ومنهم قسيسون ورهبان بنبوة النبي ورسالته وصدق القرآن وكونه منزلا من الله عز وجل مما أوردناه في سياق تفسير آية سورة الأعراف [١٥٧]. وقد جاء في بعضها أنهم آمنوا لأنهم سمعوا من النبي ما عرفوا أنه الحق.
ولقد كانت محتويات الأناجيل التي كان النصارى يتداولونها في عصر النبي وما قبله معروفة لدى السامعين العرب أو نبهائهم على الأقل، لأنه كان في مكة جاليات كتابية ونصرانية تتداولها، كما كان الذين يقومون بالرحلات الصيفية والشتوية يتصلون بالكتابيين والنصارى في الأقطار التي كانت النصرانية سائدة فيها مثل بلاد الشام ومصر والعراق واليمن فيعرفونها عن طريقهم أيضا.
وهكذا يتسق أسلوب القصة القرآنية مع أسلوب القرآن العام في إيراد ما هو معروف من الأحداث لتكون الحجة أقوى وألزم. وهذا في فصل سورة مريم الذي نحن في صدده أشد قوة حيث تهيب الآيات التعقيبية الأخيرة بالسامعين إلى وجوب

(١) انظر المجلد ٤ الجزء ٢ من كتاب تاريخ سورية للمطران الدبس.

صفحة رقم 152

تفهم ما هو معروف ومدون تفهما صحيحا وتأويله تأويلا سليما وتنبههم إلى أن ذلك هو الطريق المستقيم إلى الحق والحقيقة.
ومعجزة كلام عيسى عليه السلام في طفولته المبكرة لم ترد في الأناجيل الأربعة المعترف بها. غير أننا نعتقد أنها كانت متداولة مأثورة عند النصارى أو واردة في بعض الأناجيل والقراطيس وغير مجهولة عند العرب أيضا. وليست الأناجيل الأربعة هي كل الأناجيل على ما نبهنا عليه في سياق شرح آية الأعراف [١٥٧]. وقد ذكر بعض الباحثين أنها واردة في بعض الأناجيل «١».
والقرآن كان يتلى علنا ويسمعه النصارى ومنهم من آمن فلا يمكن أن يكون ما جاء فيه إلا واقعا حقا عندهم أيضا. وهذا ما يصح أن يقال فيما يمكن أن يكون من خلاف بين ما ذكره القرآن في سياق ولادة عيسى وبين ما هو وارد في الأناجيل المتداولة. ومن ذلك أقوال المسيح لأمه عقب ولادته، وأقواله لبني إسرائيل حينما حملته أمه وقدمت به عليهم، وأقوالهم لها إلخ.
ولقد أورد المفسرون بيانات وشروحا في سياق هذه الآيات عن ظروف ولادة عيسى عليه السلام ونشأته وكلامه معزوة إلى علماء السير والأخبار، منها ما هو مطابق لما ورد في الأناجيل المتداولة، ومنها ما ليس متطابقا. وليس في إيرادها طائل في صدد القصة وأهدافها «٢». وفيها قسط غير يسير من التزيّه والتخمين. غير أنها تدل على كثرة ما كان متداولا في بيئة النبي ﷺ وعصره وبعده حول هذه القصة.

(١) ذكر ذلك فيليب حتّي في كتابه مختصر تاريخ العرب المترجم الى العربية ص ٩٥ وذكره أيضا طاهر التنير في كتابه العقائد الوثنية في الديانة النصرانية ص ١٤١. ومما ذكره هذا اسم إنجيلين هما إنجيل الطفولة وإنجيل ولادة يسوع. وقال إنهما ذكرا خبر كلام عيسى حين ولادته.
(٢) انظر تفسير الآيات وتفسير مثيلتها في سورة آل عمران في تفسير ابن كثير والطبري والطبرسي والخازن والمنار مثلا.

صفحة رقم 153

ولقد احتوى القرآن آيات عديدة مكية ومدنية نوهت بالذين أوتوا العلم والكتاب، وبتصديقهم بالنبي ﷺ والقرآن واعتناقهم والإسلام وإعلانهم انطباق ما جاء في القرآن على ما عرفوا من الحق أوردناها في سياق تفسير آية سورة الأعراف [١٥٧]. وهذا يسوغ القول إن النصارى الذين كانوا في مكة وفي المدينة أو الذين وفدوا على مكة والمدينة من أنحاء أخرى ليستطلعوا خبر النبي ﷺ ويستمعوا منه ويناظروه قد وجدوا في ما قرره القرآن عن شخصية عيسى عليه السلام تفسيرا معقولا صحيحا متطابقا لما كانوا عليه أو مقاربا، ومنقذا لهم مما هم فيه من بلبلة وخلاف وتشاد، فكان ذلك سببا في استجابتهم للدعوة باندفاع وفرح وخشوع، وتأييدهم لها على ما جاء في الآيات القرآنية. بل إن فيما قيده التاريخ من مسارعة كثير من النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر في أدوار الفتح الإسلامي الأولى إلى اعتناق الإسلام عن طيبة خاطر، واستمرار ذلك بدون انقطاع عبر قرون التاريخ الإسلامي، ما يمكن أن يكون قرينة على هذا أيضا. والثابت تاريخا أن غالبية نصارى بلاد الشام ومصر والعراق من اليعقوبيين والنسطوريين الذين كانوا يعتقدون بأن المسيح ذو طبيعة واحدة مزيجة من الناسوتية واللاهوتية، وأنه غير متساو لذلك مع الله الأب. أو أنه إنسان حلّ فيه اللاهوت، فصار هيكلا لله، وأنه لا يجوز بسبب ذلك أن تسمى مريم أمّا لله إلخ. وكانوا موضع اضطهاد ومطاردة من السلطات الرومانية التي كانت صاحبة الحكم وكانت تدين بعقيدة ثنائية الطبيعة في المسيح. فكان التقارب بين ما يقرره القرآن وما يعتقده غالب النصارى في هذه البلاد مما سهل عليهم التحول إلى الإسلام حيث انضوى إليه أكثريتهم الساحقة خلال القرنين الأول والثاني الهجريين «١».
والدليل على أن ذلك تمّ بطيبة خاطر ورغبة وقناعة هو في احتفاظ من أراد

(١) انظر كتاب الدعوة إلى الإسلام تأليف أرنولد توماس وترجمة حسن إبراهيم وعبد المجيد عابدين طبعة ثانية ص ٦٣- ١٥٣ والصحف التي ذكرناها من المجلدين ٣ و ٤ من تاريخ سورية للمطران الدبس وكتاب فتح مصر لبتر تعريب فريد أبو حديد ص ٣٨٤، ٣٨٥ وتاريخ الجنس العربي للمؤلف الجزء ٢ ص ٣٣٣ وما بعدها والجزء ٤ ص ٣١٦ وما بعدها.

صفحة رقم 154

أن يحتفظ بنصرانيته من أبناء هذه النحلة ثم من أبناء النحلة الأخرى صاحبة عقيدة الطبيعتين، حيث كان لهم ما أرادوا وعاشوا في كتل صغيرة متناثرة هناك وهناك وهنالك عبر القرون العديدة التي كان السلطان الإسلامي فيها قويا وشاملا عملا بالمبدأ القرآني المحكم بأن لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ على ما شرحناه في سياق سورة (الكافرون). وما يزعم المبشرون والمستشرقون من أنهم أسلموا بالسيف أو هربا من الجزية زيف لم يعد يأخذ به أحد أمام تلك الحقائق. وما ذكره المؤرخون المنصفون من النصارى توكيدا لها. ثم أمام حقيقة كبرى أخرى وهي أن الجزية كانت ضئيلة، وكانت تكاليف الإسلام أكثر منها أضعافا مضاعفة.
وفي صدد نعت مريم عليها السلام بصفة (أخت هرون) روى المفسرون عن القرظي وهي من مسلمي اليهود أنها كانت فعلا أخت موسى وهرون «١». وتصيّد المستشرقون هذه الرواية الإسرائيلية وغمزوا النبي، وكانوا سخفاء في غمزهم. لأن المتبادر أن يكونوا أكثر إدراكا لكون النبي صلى الله عليه وسلم- ونقول هذا من قبيل المساجلة- لا يجهل المسافة بين مريم وهرون عليهما السّلام.
وهناك حديث صحيح يضع الأمر في نصاب الحق رواه الترمذي ومسلم جاء فيه «إن النبي ﷺ أرسل المغيرة بن شعبة إلى نجران في أمر، فقال له نصاراها كيف يزعم نبيّك أن مريم أخت هارون. فلمّا رجع أخبر النبي ﷺ بما قالوه فقال له ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم» «٢».
ونقول أخيرا إن من واجب المسلم الإيمان بما ورد في الآيات من أخبار ووقائع سواء منها المتطابق مع ما في الأناجيل المتداولة وغير المتطابق. والإيمان بأن ما فيها من خوارق للعادة هو في نطاق قدرة الله تعالى. وإيكال ما لم يدركه العقل من ذلك إلى علم الله مع الإيمان بأنه لا بد أن يكون لذكره بالأسلوب الذي ورد به من حكمة. ومن الحكمة الملموحة في ذلك وضع الأمر في شأن عيسى

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.
(٢) التاج ج ٤ ص ١٥٤. [.....]

صفحة رقم 155

عليه السلام في نصابه الحق. وهو أن ولادته هي معجزة ربانية لا تقتضي أن يكون بها إلها أو أن يسمى تسمية إلهية ما. وأنه عبد الله ورسوله أرسله للدعوة إليه وحده وإلى مكارم الأخلاق والأعمال الصالحة والتحذير من الانحراف.
وقد انطوى فيما جاء متطابقا بين القرآن وبين ما في أيدي النصارى من أسفار قصد الإفحام والإلزام، وإخراجهم من الانحراف إلى صراط الله المستقيم. أما ما جاء متباينا بين ما في القرآن والأسفار فيكون من جهة النظر الإسلامية تحريفا. والله تعالى أعلم.
ونقطة أخرى يحسن الإلمام بها في هذه الخاتمة وهي ما ذكر في القرآن من نفخ الله تعالى في فرج مريم من روحه ومن أن عيسى عليه السلام كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، كما جاء في آيات النساء [١٧١] والأنبياء [٩١] والتحريم [١٢]. ويتبادر لنا أن هذا تعبير آخر لما جاء في آيات سورة مريم التي نحن في صددها إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
(١٩) وأن العبارات القرآنية من نوع المتشابهات وأنها قد قصدت إلى تقرير كون حبل مريم وهي عذراء بعيسى عليهما السلام هو معجزة ربانية. وعلى المسلم كما قلنا أن يكل تأويل ما لا يدركه عقله إلى ربّه تعالى، ويستشف الحكمة منه وهي ما تبادر لنا ونبهنا عليه، والله تعالى أعلم.
ولقد وقف مبشر سمّى نفسه (الأستاذ حداد) عند الآيات [٣٤- ٣٦] والآيات [٣٧- ٤٠] التي بعدها حينما رأى الرويّ السبكي فيها مختلفا عما قبلها وبعدها فقال إنها مقحمة على السياق. ويستفاد من كتبه أنه يقصد بكلمة مقحمة أحيانا أنها مدنية وضعت في السياق المكي فيما بعد. وأحيانا أنها مزيدة بعد النبي لتدعيم الكلام. وموضوع الآيات تكرر في آيات مكية مثل آيات الزخرف [٦٣- ٦٥] التي أوردناها قبل. وهناك آيات عديدة مكية أخرى تنفي الولد عن الله وتدعو إلى عبادة الله وحده. وتنوع الرويّ في السور المكية ليس بدعا. وقد مرّت أمثلة عديدة منه. ومن ذلك مثلا الفصل الأخير في سورة ص. ولو سلّمنا جدلا أنها آيات مدنية

صفحة رقم 156
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية