آيات من القرآن الكريم

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ

عالم العلو وَالْأَرْضِ عالم السفل ولا يخفى أن عنوان الغيبة إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين وإلا فلا غيب بالنسبة إليه جل جلاله ومن هنا قال بعضهم: إنه سبحانه لا يعلم الغيب بمعنى أنه لا غيب بالنسبة إليه تعالى ليتعلق به العلم لكن أنت تعلم أنه لا يجوز التكلم بمثل هذا الكلام وإن أول بما أول لما فيه ظاهرا من مصادمة الآيات.
وإلى الله تعالى نشكو أقواما ألغزوا الحق وفتنوا بذلك الخلق أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي ما أبصره تعالى وما أسمعه لأن صفاته عين ذاته ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ إذ لا فعل لأحد سواه تعالى وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً لكمال قدرته سبحانه وعجز غيره عز شأنه، هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

صفحة رقم 248

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي احبسها وثبتها يقال صبرت زيدا أي حبسته، وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان أي حبسه للرمي، واستعمال ذلك في الثبات على الأمر وتحمله توسع، ومنه الصبر بمعناه المعروف، ولم يجعل هذا منه لتعدي هذا ولزومه مَعَ الَّذِينَ أي مصاحبة مع الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي يعبدونه دائما، وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام وهي نظير قولهم: ضرب زيد الظهر والبطن يريدون به ضرب جميع بدنه، وأبقى غير واحد الغداة والعشي على ظاهرهما ولم يرد عموم الأوقات أي يعبدونه في طرفي النهار، وخصا بالذكر لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور، والمراد بتلك العبادة قيل ذكر الله تعالى وروي ذلك من طريق مغيرة عن إبراهيم، وقيل: قراءة القرآن، وروي ذلك عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي بن الخيار، وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن جبير أن المراد بها المفاوضة في الحلال والحرام.
وعن ابن عمر ومجاهد هي شهود الصلوات الخمس، وعن قتادة شهود صلاة الصبح والعصر، وفيما تقدم ما يؤيد ثاني الأقوال وفيما بعد ما يؤيد ظاهره أولها فتدبر جدا، والمراد بالموصول فقراء الصحابة عمار وصهيب وسلمان

صفحة رقم 249

وابن مسعود وبلال وأضرابهم قال كفار قريش كأمية بن خلف وغيره من صناديد أهل مكة لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك فإن ريح جبابهم تؤذينا فنزلت الآية،
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف جالسناك أو حدثناك وأخذنا عنك فأنزل الله تعالى وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ إلى قوله سبحانه أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً
يتهددهم بالنار،
وروى أبو الشيخ عن سلمان أنها لما نزلت قام رسول الله عليه الصلاة والسلام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي معكم الحياة والممات.
والآية على هذا مدنية وعلى الأول مكية، قال أبو حيان: وهو أصح لأن السورة مكية، وأقول: أكثر الروايات تؤيد الثاني وعليه تكون الآيات مستثناة من حكم السورة وكم مثل ذلك، وقد أخرج ما يؤيد الأول ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولعل الآيات بعد تؤيده أيضا، والتعبير عن أولئك بالموصول لتعليل الأمر بما في حيز الصلة من الخصلة الداعية إلى إدامة الصحبة. وقرأ ابن عامر «بالغدوة» وخرج ذلك على ما ذكره سيبويه والخليل من أن بعض العرب ينكر غدوة فيقول: جاء زيد غدوة بالتنوين، على أن الرضي قال: إنه يجوز استعمالها نكرة اتفاقا، والمشهور أن الأكثر استعمالها علم جنس ممنوعا من الصرف فلا تدخل عليها أل لأنه لا يجتمع في كلمة تعريفان، ومتى أريد إدخالها عليها قصد تنكيرها فأدخلت كما قصد تنكير العلم الشخصي في قوله:

وقد كان منهم صاحب وابن عمه أبو جندل والزيد زيد المعارك
والقراءة المذكورة مخرجة على ذلك، واختار بعض المحققين التخريج الأول وقال: إنه أحسن دراية ورواية لأن التنكير في العلم الشخصي ظاهر وأما في الجنسي ففيه خفاء لأنه شائع في إفراده قبل تنكيره فتنكيره إنما يتصور بترك حضوره في الذهن الفارق بينه وبين النكرة، وهو خفي فلذا أنكره الفناري في حواشيه على التلويح في تنكير رجب علم الشهر انتهى، وللبحث فيه محالّ.
وهذه الآية كما في البحر أبلغ من التي في الأنعام وهي قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ بذلك الدعاء وَجْهَهُ أي رضاه سبحانه وتعالى دون الرياء والسمعة بناء على ما قاله الإمام السهيلي من أن الوجه إذا أضيف إليه تعالى يراد به الرضا والطاعة المرضية مجازا لأن من رضي على شخص يقبل عليه ومن غضب يعرض عنه، وقيل: المراد بالوجه الذات والكلام على حذف مضاف.
وقيل: هو بمعنى التوجه، والمعنى يريدون التوجه إليه تعالى والزلفى لديه سبحانه، والأول أولى، والجملة في موضع الحال من فاعل «يدعون» أي يدعون مريدين ذلك.
وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي لا تصرف عيناك النظر عنهم إلى أبناء الدنيا، والمراد النهي عن احتقارهم وصرف النظر عنهم لرثاثة حالهم إلى غيرهم فعدا بمعنى صرف المتعدي إلى مفعول بنفسه وإلى آخر بعن، قال في القاموس يقال: عداه عن الأمر عدوا وعدوانا صرفه، واختار هذا أبو حيان وهو الذي قدر المفعول كما سمعت وقد تتعدى عدا إلى مفعول واحد بعن كما تتعدى إليه بنفسها فتكون بمعنى جاوز وترك قال في القاموس: يقال عدا الأمر وعنه جاوزه وتركه، وجوز أن يكون معنى الآية على ذلك كأنه قيل لا تتركهم عيناك، وقيل: إن عدا حقيقة معناه تجاوز كما صرح به الراغب والتجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو كما صرحوا به أيضا وهو هنا غير مراد فلا بد من تضمين عدا

صفحة رقم 250

معنى نبا وعلا في قولك: نبت عنه عينه وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به، وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ثم قال: لم يقل ولا تعدهم عيناك أو ولا تعل عيناك عنهم وارتكب التضمين ليعطي الكلام مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم، وتعقبه أبو حيان بأن التضمين لا ينقاس عند البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى، واعترض أيضا ما قيل: بأنه لا يلزم من اتحاد الفعلين في المعنى اتحادهما في التعدية فلا يلزم من كون عدا بمعنى تجاوز أن يتعدى كما يتعدى ليقال: إن التجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو وهو غير مراد، فلا بد من تضمين عدا معنى فعل متعد بعن، ويكفي كلام القاموس مستندا لمن خالف الزمخشري فتدبر ولا تغفل.
وقرأ الحسن «ولا تعد عينيك» بضم التاء وسكون العين وكسر الدال المخففة من أعداه ونصب العينين، وعنه وعن عيسى والأعمش أنهم قرؤوا «ولا تعد عينيك» بضم التاء وفتح العين وتشديد الدال المكسورة من عداه يعديه ونصب العينين أيضا، وجعل الزمخشري، وصاحب اللوامح الهمزة والتضعيف للتعدية.
وتعقب ذلك في البحر بأنه ليس بجيد بل الهمزة والتضعيف في هذه الكلمة لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد وذلك لأنه قد أقر الزمخشري بأنها قبل ذينك الأمرين متعدية بنفسها إلى واحد وعديت بعن للتضمين فمتى كان الأمران للتعدية لزم أن تتعدى إلى اثنين مع أنها لم تتعد في القراءتين المذكورتين إليهما.
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلب مجالسة من لم يكن مثلهم من الأغنياء وأصحاب الدنيا، والجملة على القراءة المتواترة حال من كاف عَيْناكَ وجازت الحال منه لأنه جزء المضاف إليه، والعامل على ما قيل معنى الإضافة وليس بشيء.
وقال في الكشف: العامل الفعل السابق كما تقرر في قوله تعالى بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [البقرة: ١٣٥] ولك أن تقول: هاهنا خاصة العين مقحمة للتأكيد ولا يبعد أن يجعل حالا من الفاعل، وتوحيد الضمير إما لاتحاد الإحساس أو للتنبيه على مكان الإقحام أو للاكتفاء بأحدهما عن الآخر أو لأنهما عضو واحد في الحقيقة، واستبشاع إسناد الإرادة إلى العين مندفع بأن إرادتها كناية عن إرادة صاحبها ألا ترى إلى ما شاع من نحو قولهم: يستلذه العين أو السمع وإنما المستلذ الشخص على أن الإرادة يمكن جعلها مجازا عن النظر للهو لا للعبر اه.
ولا يخفى أن فيه عدولا عن الظاهر من غير داع، وقول بعضهم: إنه لا يجوز مجيء الحال من المضاف إليه في مثل هذا الموضع لاختلاف العامل في الحال وذيها لا يصلح داعيا لظهور ضعفه، ثم الظاهر أنه لا فرق في جواز كون الجملة حالا من المضاف إليه أو المضاف على تقدير أن يفسر تَعْدُ بتجاوز وتقدير أن تفسر بتصرف.
وخص بعضهم كونها حالا من المضاف إليه على التقدير الأول وكونها حالا من المضاف على التقدير الثاني ولعله أمر استحساني، وذلك لأن في أول الكلام على التقدير الثاني إسناد ما هو من الأفعال الاختيارية ليس إلا وهو الصرف إلى العين فناسب إسناد الإرادة إليها في آخره ليكون أول الكلام وآخره على طرز واحد مع رعاية ما هو الأكثر في أحوال الأحوال من مجيئها من المضاف دون المضاف إليه، وتضمن ذلك عدم مواجهة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم بإسناد إرادة الحياة الدنيا إليه صريحا وإن كانت مصب النهي، وليس في أول الكلام ذلك على التقدير الأول إذ الظاهر أن التجاوز ليس من الأفعال الاختيارية لا غير بل يتصف به المختار وغيره، مع أن في جعل الجملة حالا من الفاعل على هذا التقدير مع قول بعض المحققين إن المتجاوز في الحقيقة هو النظر احتياجا إلى اعتبار الشيء وتركه في كلام واحد، وليس لك أن تجعله استخداما بأن تريد من العينين أولا النظر مجازا وتريد عند عود ضمير تُرِيدُ منهما الحقيقة لأن

صفحة رقم 251

التثنية تأبى ذلك، وإن اعتبر ذلك أولا وآخرا ولم يترك احتيج إلى مؤن لا تخفى على المتأمل فتأمل وتدبر، وهي على القراءتين الشاذتين حال من فاعل الفعل المستتر أي لا تعد أو لا تعد عينيك عنهم مريدا ذلك وَلا تُطِعْ في تنحية الفقراء عن مجلسك مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي جعلنا قلبه غافلا عَنْ ذِكْرِنا لبطلان استعداده للذكر بالمرة كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه أولئك الفقراء من الدعاء في الغداة والعشي، وفيه تنبيه على أن الباعث لهم إلى استدعاء الطرد غفلة قلوبهم عن جناب الله تعالى شأنه وملاحظة المعقولات وانهما كه (١) في الحسيات حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد. ومعنى الذكر ظاهر وفسره المفضل بالقرآن.
والآية ظاهرة في مذهب أهل السنة، وأولها المعتزلة فقيل المراد أغفلنا قلبه بالخذلان وهذا هو التأويل المشهور عندهم في أمثال ذلك وحاله معلوم عندك، وقيل: المراد صادفناه غافلا كما في قولهم: سألناكم فما أفحمناكم وقاتلناكم فما أجبناكم. وتعقب بأنه لا ينبغي أن يتجرأ على تفسير فعل أسنده الله تعالى إليه بالمصادفة التي تفهم وجدان الشيء بغتة عن جهل سابق وعدم علم، وقيل: المراد نسبناه إلى الغفلة كما في قول الكميت:

وطائفة قد أكفروني بحبكم وطائفة قالوا مسيء ومذنب
وهو كما ترى، وقال الرماني: (٢) المراد لم نسم قلبه بالذكر ولم نجعله من القلوب التي كتبنا فيها الإيمان كقلوب المؤمنين من قولهم: أغفل فلان أبله إذا تركها غفلا من غير سمة وعلامة بكى ونحوه، ومنه إغفال الخط لعدم إعجامه فالإغفال المذكور استعارة لجعل ذكر الله تعالى الدال على الإيمان به كالسمة لأنه علامة للسعادة كما جعل ثبوت الإيمان في القلب بمنزلة الكتابة، وهو تأويل رقيق الحاشية لطيف المعنى وإن كان خلاف الظاهر فهو مما لا بأس به لمن لم يكن غرضه منه الهرب من مذهب أهل السنة، واحتج بعضهم على أنه ليس المراد ظاهر الآية بقوله سبحانه:
وَاتَّبَعَ هَواهُ في طلب الشهوات حيث أسند اتباع الهوى إلى العبد فيدل على أنه فعله لا فعل الله تعالى ولو كان ذلك فعل الله سبحانه والإسناد مجازي لقيل فاتبع بالفاء السببية لتفرعه عليه.
وأجيب بأن فعل العبد لكونه بكسبه وقدرته، وخلق الله تعالى يجوز إسناده إليه بالاعتبار الأول وإلى الله تعالى بالثاني، والتنصيص على التفريع ليس بلازم فقد يترك لنكتة كالقصد إلى الإخبار به استقلالا لأنه أدخل في الذم وتفويضا إلى السامع في فهمه ولا حاجة إلى تقدير فقيل واتبع هواه.
وقرأ عمر بن فائد وموسى الاسواري وعمرو بن عبيد «أغفلنا» بفتح الفاء واللام «قلبه» بالرفع على أنه فاعل أغفلنا، وهو على هذه القراءة من أغفله إذا وجده غافلا، والمراد ظننا وحسبنا غافلين عن ذكرنا له ولصنيعه بالمؤاخذة بجعل ذكر الله تعالى له كناية عن مجازاته سبحانه، واستشكل النهي عن إطاعة أولئك الغافلين في طرد أولئك المؤمنين بأنه ورد أنهم أرادوا طردهم ليؤمنوا فكان ينبغي تحصيل إيمانهم بذلك، وغاية ما يلزم ترتب نفع كثير وهو إيمان أولئك الكفرة على ضرر قليل وهو سقوط حرمة أولئك البررة وفي عدم طردهم لزم ترتب ضرر عظيم وهو بقاء أولئك الكفرة على كفرهم على نفع قليل.
(١) قوله وانهما كه إلى قوله حتى خفي عليه كذا بإفراد الضمير في خط المؤلف وفي أبي السعود ضمير انهما كه راجع إلى قوله الباعث له فغير المصنف له بلهم فحصل ما حصل.
(٢) وقد كان معتزليا فليحفظ اه منه.

صفحة رقم 252

ومن قواعد الشرع المقررة تدفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى، وأجيب بأنه سبحانه علم أن أولئك الكفرة لا يؤمنون إيمانا حقيقيا بل إن يؤمنوا يؤمنوا إيمانا ظاهريا ومثله لا يرتكب له إسقاط حرمة أولئك الفقراء الأبرار فلذا جاء النهي عن الإطاعة.
وقد يقال: يحتمل أن يكون الله تعالى قد علم أن طرد أولئك الفقراء السابقين إلى الإيمان المنقطعين لعبادة الرحمن وكسر قلوبهم وإسقاط حرمتهم لجلب الأغنياء وتطييب خواطرهم يوجب نفرة القلوب وإساءة الظن برسوله صلّى الله عليه وسلّم فربما يرتد من هو قريب عهد بإسلام ويقل الداخلون في دينه بعد ذلك عليه الصلاة والسلام. وذلك ضرر عظيم فوق ضرر بقاء شرذمة من الكفار على الكفر فلذا نهى جل وعلا عن إطاعة من أغفل قلبه واتبع هواه وَكانَ أَمْرُهُ في اتباع الهوى وترك الإيمان فُرُطاً أي ضياعا وهلاكا، قاله مجاهد أو متقدما على الحق والصواب نابذا له وراء ظهره من قولهم: فرس فرط أي متقدم للخيل وهو في معنى ما قاله ابن زيد مخالفا للحق، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون الفرط بمعنى التفريط والتضييع أي كان أمره الذي يجب أن يلزم ويهتم به من الدين تفريطا، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف أي كان أمره وهواه الذي هو سبيله إفراطا وإسرافا، وبالإسراف فسره مقاتل، والتعبير عن صناديد قريش المستدعين طرد فقراء المؤمنين بالموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للنهي عن الإطاعة وَقُلِ لأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن الذكر واتبعوا هواهم الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي أوحي إليّ الحق ومِنْ رَبِّكُمْ حال مؤكدة أو خبر بعد خبر والأول أولى، والظاهر أن قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ من تمام القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد أي عقيب تحقيق أن ذلك حق لا ريب فيه لازم الاتباع من شاء أن يؤمن به ويتبعه فليفعل كسائر المؤمنين ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل ومن شاء أن يكفر به وينبذه وراء ظهره فليفعل، وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم التي وعدوها في طرد المؤمنين وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم وجودا وعدما ما لا يخفى.
وجوز أن يكون الْحَقُّ مبتدأ خبره مِنْ رَبِّكُمْ واختار الزمخشري هنا الأول، قال في الكشف: ووجه إيثار الحذف أن المعنى عليه أتم التئاما لأنه لما أمره سبحانه بالمداومة على تلاوة هذا الكتاب العظيم الشأن في جملة التالين له حق التلاوة المريدين وجهه تبارك وتعالى غير ملتفت إلى زخارف الدنيا فمن أوتي هذه النعمة العظمى فله بشكرها اشتغال عن كل شاغل ذيله لإزاحة الأعذار والعلل بقوله سبحانه وَقُلِ إلخ أي هذا الذي أوحي هو الحق فمن شاء فليدخل في سلك الفائزين بهذه السعادة ومن شاء فليكن في الهالكين انهماكا في الضلالة، أما لو جعل مبتدأ فالتعريف إن كان للعهد رجع إلى الأول مع فوات المبالغة وإن كان للجنس على معنى جميع الحق من ربكم لا من غيره ويشمل الكتاب شمولا أوليا لم يطبق المفصل إذ ليس ما سيق له الكلام كونه منه تعالى لا غير بل كونه حقا لازم الاتباع لا غير اه.
وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ويشعر ظاهره بحمل الدعاء على ثاني الأقوال فيه وكون المشار إليه الكتاب مطلقا لا المتضمن الأمر بصبر النفس مع المؤمنين وترك الطاعة للغافلين كما جوزه ابن عطية، وعلى تقدير أن يكون الحق مبتدأ قيل المراد أنه القرآن كما كان المراد من المشار إليه على تقدير كونه خبرا وهو المروي عن مقاتل، وقال الضحاك: هو التوحيد، وقال الكرماني: الإسلام والقرآن.
وقال مكي: المراد به التوفيق والخذلان أي قل التوفيق والخذلان من عند الله تعالى يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إليّ من ذلك شيء وليس بشيء كما لا يخفى.

صفحة رقم 253

وجوز أن يكون قوله سبحانه فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ إلخ تهديدا من جهته تعالى غير داخل تحت القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على نفس الأمر أي قل لهم ذلك وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليفعل ومن شاء أن يكفر به أو أن يكذبك فيه فليفعل، وعلى الوجهين ليس المراد حقيقة الأمر والتخيير وهو ظاهر.
وذكر الخفاجي أن الأمر بالكفر غير مراد وهو استعارة للخذلان والتخلية بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء، وهذا كقول كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة واستدل المعتزلة بالآية على أن العبد مستقل في أفعاله موجد لها لأنه علق فيها تحقق الإيمان والكفر على محض مشيئته لأن المتبادر من الشرط أنه علة تامة للجزاء فدل على أنه مستقل في إيجادهما ولا فرق بين فعل وفعل فهو الموجد لكل أفعاله. وأجيب بأنا لو فرضنا أن مشيئة العبد مؤثرة وموجدة للأفعال لا يتم المقصود لأن العقل والنقل يدلان على توقفها على مشيئة الله تعالى وإرادته، أما الأول فلأنهم قالوا: لو لم تتوقف على ذلك لزم الدور أو التسلسل، وأما الثاني فلأنه سبحانه يقول وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: ٣٠، التكوير: ٢٩] ومع هذا التوقف لا يتم أمر الاستقلال ويثبت أن العبد مضطر في صورة مختار وهو مذهب الأشاعرة، وفي الاحياء لحجة الإسلام فإن قلت: إني أجد في نفسي وجدانا ضروريا أني إن شئت الفعل قدرت عليه وإن شئت الترك قدرت عليه فالفعل والترك بي لا بغيري قلت: هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة أو لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل لأن العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا لسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضا أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى انتهى. وبعضهم يكتفي في إثبات عدم الاستقلال بثبوت توقف مشيئة العبد على مشيئة الله تعالى وتمكينه سبحانه بالنص ولا يذكر حديث لزوم الدور أو التسلسل لما فيه من البحث، وتمام الكلام في ذلك في كتب الكلام، وستذكر إن شاء الله تعالى طرفا لائقا منه في الموضع اللائق به، وقال السدي: هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ولعله أراد أن لا يراد المتبادر منها للآية المذكورة وإلا فهو قول باطل، وحكى ابن عطية عن فرقة أن فاعل شاءَ في الشرطيتين ضميره تعالى، واحتج له بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: من شاء الله تعالى له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر.
والحق أن الفاعل ضمير مِنْ والرواية عن الحبر أخرجها ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات فإذا صحت يحتمل أن يكون ذلك القول لبيان أن من شاء الإيمان هو من شاء الله تعالى له الإيمان ومن شاء الكفر هو من شاء الله سبحانه له ذلك لا لبيان مدلول الآية وتحقيق مرجع الضمير، ويؤيد ذلك قوله في آخر الخبر الذي أخرجه الجماعة وهو قوله تعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير: ٢٩] والله تعالى أعلم وقرأ أبو السمال قعنب وَقُلِ الْحَقُّ بفتح اللام حيث وقع، قال أبو حاتم: وذلك رديء في العربية، وعنه أيضا ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف، وقرأ أيضا الْحَقُّ بالنصب وخرجه صاحب اللوامح على تقدير قل القول الحق ومِنْ رَبِّكُمْ قيل حال أي كائنا من ربكم، وقيل: صفة أي الكائن من ربكم وفيه بحث.
وقرأ الحسن وعيسى الثقفي «فليؤمن» و «ليكفر» بكسر لام الأمر فيهما إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه، والجملة تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديدي، وجعلها من جعل فَمَنْ شاءَ إلخ تهديدا من قبله تعالى تأكيدا للتهديد وتعليلا لما يفيده من الزجر عن الكفر. وجوز كونها تعليلا لما يفهم من ظاهر التخيير من

صفحة رقم 254

عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بشأنهم، وأَعْتَدْنا من العتاد وهو في الأصل ادخار الشيء قبل الحاجة إليه، وقيل: أصله أعددنا فأبدل من إحدى الدالين تاء والمعنى واحد أي هيأنا لهم ناراً عظيمة عجيبة أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي فسطاطها، شبه به ما يحيط بهم من لهبها المنتشر منها في الجهات ثم استعير له استعارة مصرحة والإضافة قرينة والإحاطة ترشيح، وقيل: السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط تمنع من الوصول إليه، ويطلق على الدخان المرتفع المحيط بالشيء وحمل عليه بعضهم ما في الآية وهو أيضا مجاز كإطلاقه على اللهب، وكلام القاموس يوهم أنه حقيقة، والمروي عن قتادة تفسيره بمجموع الأمرين اللهب والدخان.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه حائط من نار، وحكى الكلبي أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار، وحكى القاضي الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا يكون يوم القيامة نارا ويحيط بهم، واحتج له
بما أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ وابن أبي حاتم وصححه والبيهقي في البعث وآخرون عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن البحر هو من جهنم ثم تلا ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها
والسرادق قال الراغب: فارسي معرب وليس من كلامهم اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان انتهى، وقد أصاب في دعوى التعريب فإن عامة اللغويين على ذلك، وأما قوله: وليس من كلامهم إلخ فيكذبه ورود علابط وقرامص وجنادف وحلاحل وكلها بزنة سرادق ومثل ذلك كثير والغفلة مع تلك الكثرة من هذا الفاضل بعيدة فلينظر ما مراده، ثم إنه معرب سرايرده أي ستر الديوان، وقيل: سراطاق أي طاق الديوان وهو أقرب لفظا إلا أن الطاق معرب أيضا وأصله تا أو تاك، وقال أبو حيان وغيره: معرب سرادر وهو الدهليز ووقع في بيت الفرزدق:

تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم تركت لهم قبل الضراب السرادقا
ويجمع كما قال سيبويه بالألف والتاء وإن كان مذكرا فيقال سرادقات، وفسره في النهاية بكل ما أحاط بموضع من حائط أو مضرب أو خباء، وأمر إطلاقه على اللهب أو الدخان أو غيرهما مما ذكر على هذا ظاهر.
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من العطش بقرينة قوله تعالى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ وقيل: مما حل بهم من أنواع العذاب، والمهل على ما أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن جبير ماء غليظ كدردي الزيت، وفيه حديث مرفوع فقد أخرج أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم وصحصحه والبيهقي وآخرون
عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: كَالْمُهْلِ قال: كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه
، وقال غير واحد: هو ما أذيب من جواهر الأرض، وقيل: ما أذيب من النحاس، وأخرج الطبراني وابن المنذر وابن جرير عن ابن مسعود أنه سئل عنه فدعا بذهب وفضة فإذا به فلما ذاب قال: هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار لونه لون السماء غير أن شراب أهل النار أشد حرا من هذا.
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد أنه القيح والدم الأسود، وقيل: هو ضرب من القطران، وقوله سبحانه:
يُغاثُوا إلخ خارج مخرج التهكم بهم كقول بشر بن أبي حازم:
غضبت تميم (١) أن تقتل عامرا يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
يَشْوِي الْوُجُوهَ ينضجها إذا قدم ليشرب من فرط حرارته حتى أنه يسقط جلودها كما سمعت في الحديث، فالوجوه جمع وجه وهو العضو المعروف، والظاهر أنه المراد لا غير، وقيل: عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم والجملة صفة ثانية لماء والأولى كَالْمُهْلِ أو حال منه كما في البحر لأنه قد وصف أو حال من المهل كما قال أبو البقاء.
(١) في نسخة حنيفة اه منه.

صفحة رقم 255

وظاهر كلام بعضهم جواز كونها في موضع الحال من الضمير المستتر في الكاف لأنها اسم بمعنى مشابه فيستتر الضمير فيها كما يستتر فيه وفيه ما لا يخفى من التكلف لأنها ليست صفة مشتقة حتى يستتر فيها ولم يعهد مشتق على حرف واحد قاله الخفاجي.
وذكر أن أبا علي الفارسي منع في شرح الشواهد جعل ذؤابتي في قول الشاعر: رأتني كأفحوص القطاة ذؤابتي.
مرفوعا بالكاف لكونها بمنزل مثل وقال: إن ذلك ليس بالسهل لأن الكاف ليست على ألفاظ الصفات.
وجوز أن تكون في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، وقيل: يجوز أن يكون مراد ذلك البعض إلا أنه تسامح بِئْسَ الشَّرابُ ذلك الماء الذي يغاثون به وَساءَتْ النار مُرْتَفَقاً أي متكأ كما قال أبو عبيدة وروي عن السدي، وأصل الارتفاق كما قيل الاتكاء على مرفق اليد. قال في الصحاح يقال: بات فلان مرتفقا أي متكئا على مرفق يده، وقيل: نصب المرفق تحت الخد فمرتفقا اسم مكان ونصبه على التمييز، قال الزمخشري:
وهذا لمشاكلة قوله تعالى: «وحسنت مرتفقا» وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء إلا أن يكون من قوله:

إني أرقت فبتّ الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح
أي فحينئذ لا يكون من المشاكلة ويكون الكلام على حقيقته بأن يكون لأهل النار ارتفاق فيها أي اتكاء على مرافق أيديهم كما يفعله المتحزن المتحسر، وقد ذكر في الكشف أن الاتكاء على الحقيقة كما يكون للتنعم يكون للتحزن.
وتعقب بأن ذلك وإن أمكن عقلا إلا أن الظاهر أن العذاب أشغلهم عنه فلا يتأتى منهم حتى يكون الكلام حقيقة لا مشاكلة. وجوز أن يكون ذلك تهكما أو كناية عن عدم استراحتهم.
وروي عن ابن عباس أن المرتفق المنزل. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن قتادة، وفي معناه قول ابن عطاء: المقر وقول العتبي: المجلس، وقيل موضع الترافق أي ساءت موضعا للترافق والتصاحب، وكأنه مراد مجاهد في تفسيره بالمجتمع فإنكار الطبري أن يكون له معنى مكابرة.
وقال ابن الأنباري: المعنى ساءت مطلبا للرفق لأن من طلب رفقا من جهنم عدمه، وجوز بعضهم أن يكون المرتفق مصدرا ميميا بمعنى الارتفاق والاتكاء إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا في محل التعليل للحث على الإيمان المنفهم من التخيير كأنه قيل وللذين آمنوا، ولعل تغيير السبك للإيذان بكمال تنافي حالي الفريقين أي إن الذين آمنوا بالحق الذي يوحى إليك وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ حسبما بين في تضاعيفه.
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وقرأ عيسى الثقفي «لا نضّيّع» بالتضعيف، وعلى القراءتين الجملة خبر إن الثانية وخبر إن الأولى الثانية بما في حيزها والرابط ضمير محذوف تقديره من أحسن عملا منهم، ولا يرد أنه يقتضي أن منهم من أحسن ومنهم من لم يحسن لأن ذلك على تقدير كون من تبعيضية وليس بمتعين لجواز كونها بيانية ولو سلم فلا بأس به فإن الإحسان زيادة الإخلاص الوارد في حديث الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، لكن يبقى على هذا حكم من لم يحسن بهذا المعنى منهم أو الرابط الاسم الظاهر الذي هو المبتدأ في المعنى على ما ذهب إليه الأخفش من جعله رابطا فإن من أحسن عملا في الحقيقة هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات. واعترض بأنه يأباه تنكير عَمَلًا لأنه للتقليل. وأجيب بأنه غير متعين لذلك إذ النكرة قد تعم في الإثبات ومقام المدح شاهد صدق أو الرابط عموم من بناء على أن العموم قد يكون رابطا كما في زيد نعم الرجل على قول وفيه مناقشة ظاهرة.

صفحة رقم 256

ولعل الأولى كون الخبر جملة قوله تعالى أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وجملة إِنَّا إلخ معترضة، ونحو هذا من الاعتراض كما قال ابن عطية وغيره قوله:
إن الخليفة إن الله ألبسه... سربال ملك به ترجى الخواتيم
وأنت تعلم أن الاعتراض فيه غير متعين أيضا، وعلى الاحتمال السابق يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة لبيان الأجر ويحتمل أن تكون خبرا بعد خبر على مذهب من لا يشترط في تعدد الأخبار كونها في معنى خبر واحد وهو الحق أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة لهم جنات إقامة على أن العدن بمعنى الإقامة والاستقرار يقال عدن بالمكان إذا قام فيه واستقر ومنه المعدن لاستقرار الجواهر فيه.
وعن ابن مسعود عدن جنة من الجنان وهي بطنانها، ووجه إضافة الجنان إليها بأنها لسعتها كأن كل ناحية منها جنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وهم في الغرفات آمنون يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ من الأولى للابتداء والثانية للبيان، والجار والمجرور في موضع صفة لأساور، وهذا ما اختاره الزمخشري وغيره.
وجوز أبو البقاء في الأولى أن تكون زائدة في المفعول على قول الأخفش، ويدل عليه قوله تعالى وَحُلُّوا أَساوِرَ [الإنسان: ٢١] وأن تكون بيانية أي شيئا أو حليا من أساور.
وجوز غيره فيها أن تكون تبعيضية واقعة موقع المفعول كما جوز هو وغيره ذلك في الثانية، وجوز فيها أيضا أن تتعلق بيحلون وهو كما ترى، والأساور جمع أسورة جمع سوار بالكسر والضم وهو ما في الذراع من الحلي وهو عربي، وقال الراغب: معرب دستواره، وقيل جمع أسوار جمع سوار وأصله أساوير فخفف بحذف يائه فهو على القولين جمع الجمع، ولم يجعلوه من أول الأمر جمع سوار لما رأوا أن فعالا لا يجمع على أفاعل في القياس، وعن عمرو بن العلاء أن الواحد أسوار، وأنشد ابن الأنباري:
والله لولا صبية صغار... كأنما وجوههم أقمار
تضمهم من العتيك دار... أخاف أن يصيبهم إقتار
أو لاطم ليس له أسوار... لما رآني ملك جبار
ببابه ما وضح النهار وفي القاموس السوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار والجمع أسورة وأساور وأساورة وسور وسؤور وهو موافق لما نقل عن أبي العلاء.
ونقل ذلك أيضا عن قطرب وأبي عبيدة، ونكرت لتعظيم حسنها من الإحاطة،
وقد أخرج ابن مردويه عن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدت أساوره لطمس ضوءه ضوء الشمس كما تطمس ضوء النجوم»
وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في البعث عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحليته أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله تعالى به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا»
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: «إن أهل الجنة يحلون أسورة من ذهب ولؤلؤ وفضة هي أخف عليهم من كل شيء إنما هي نور»
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الضوء»
وأخرج أبو الشيخ، وغيره عن كعب الأحبار قال «إن لله تعالى ملكا- وفي رواية- في الجنة ملك لو شئت أن أسميه أسميته يصوغ حلي أهل الجنة من يوم خلق إلى أن تقوم الساعة ولو أن حليا منها أخرج لرد شعاع الشمس»
والسؤال بأن لبس الرجال الأساور عيب في الدنيا فكيف يحلونها في الآخرة مندفع بأن كونه عيبا إنما هو بين قوم لم يعتادوه لا

صفحة رقم 257

مطلقا ولا أظنك في مرية من أن الشيء قد يكون عيبا بين قوم ولا يكون عيبا بين آخرين، وليس فيما نحن فيه أمر عقلي يحكم بكونه عيبا في كل وقت وفي كل مكان وبين كل قوم، وإن التزمت أن فيه ذلك فقد حليت نفسك بحلية الجهل وخرجت من ربقة العقل، هذا وقرأ أبان عن عاصم «من أسورة» بحذف ألف وزيادة هاء وهو أحد الجموع لسوار كما سمعت وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً لأن الخضرة أحسن الألوان والنفس تنبسط بها أكثر من غيرها، وروي في أثر أنها تزيد في ضوء البصر، وقيل:
ثلاثة مذهبة للحزن الماء والخضرة والوجه الحسن، والظاهر أن لباسهم غير منحصر فيما ذكر إذ لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأخرج ابن أبي حاتم عن سليم بن عامر أن الرجل يكسى في الساعة الواحدة سبعين ثوبا وأن أدناها مثل شقيق النعمان، وقيل يحتمل الانحصار ولهم فيها ما تشتهي الأنفس لا يأباه لجواز أنهم لا يشتهون ولا تلذ أعينهم سوى ذلك من الألوان، والتنكير لتعريف أنها لا يكاد يوصف حسنها.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال: لو أن ثوبا من ثياب أهل الجنة نشر اليوم في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم.
وقرأ أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر «ويلبسون» بكسر الباء مِنْ سُنْدُسٍ قال الجواليقي: هو رقيق الديباج بالفارسية فهو معرب، وفي القاموس هو ضرب من البزيون أو ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف، وقال الليث: لم يختلف أهل اللغة والمفسرون في أنه معرب، وأنت تعلم أن فيه خلاف الشافعي عليه الرحمة، والقول بأنه ليس من أهل اللغة والمفسرين في النفس منه شيء، وقال شيد له: هو رقيق الديباج بالهندية، وواحدة على ما نقل عن ثعلب سندسة.
وزعم بعضهم: أن أصله سندي وكان هذا النوع من الديباج يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما فعل في سادي فقيل سادس، وهو كلام لا يروج إلا على سندي أو هندي. ويحكى أن جماعة من أهل الهند من بلد يقال له بروج بالجيم الفارسية، وكانوا يتكلمون بلغة تسمى سنسكريت جاؤوا إلى الإسكندر الثاني بهدية من جملتها هذا الديباج ولم يكن رآه فقال: ما هذا؟ فقالوا: سندون بالنون في آخره فغيرته الروم إلى سندوس ثم العرب إلى سندس فهو معرب قطعا من ذلك اللفظ الذي أطلقته أولئك الجماعة عليه، لكن لا جرم في أنه اسم له في الأصل بلغتهم أو اسم للبلدة المجلوب هو منها أطلق عليه كما في أسماء كثير من الأمتعة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وَإِسْتَبْرَقٍ أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة وعكرمة أنه غليظ الديباج، وقال ابن بحر: هو ديباج منسوج بذهب وفي القاموس هو الديباج الغليظ أو ديباج يعمل بالذهب أو ثياب حرير صفاق نحو الديباج أو قدة حمراء كأنها قطع الأوتار اه، والذي عليه الأكثرون من المفسرين واللغويين الأول، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك معرب استبره وهي كلمة عجمية ومعناها الغليظ، والمشهور أنه يقال للغليظ بالفارسية استبر بلا هاء، وقال ابن قتيبة: هو رومي عرب وأصله استبره فأبدلوا الهاء قافا، ووقع في شعر المرقش قال:

تراهن يلبسن المشاعر مرة وإستبرق الديباج طورا لباسها
وقال ابن دريد: هو سرياني عرب وذكر من أصله ما ذكروا، وقيل: أصله استفره بحرف بعد التاء بين الفاء والباء الموحدة، وادعى بعضهم أن الإستبرق الديباج الغليظ الحسن في اللغة العربية والفارسية ففيه توافق اللغتين، ونقل عن الأزهري أنه استصوب هذا، ويجمع على أباريق ويصغر كما في القاموس وغيره على أبيرق، وقرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الهمزة وفتح القاف حيث وقع جعله كما يقتضيه ظاهر كلام ابن خالويه فعلا ماضيا على وزن استفعل

صفحة رقم 258

من البريق إلا أن استفعل فيه موافق للمجرد الذي هو برق، وظاهر كلام الأهوازي في الإقناع أنه وحده قرأ كذلك وجعله اسما ممنوعا من الصرف ولم يجعله فعلا ماضيا.
وقال صاحب اللوامح: قرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الهمزة في جميع القرآن مع التنوين فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس، ويجوز أنه جعله كلمة عربية من برق الثوب يبرق بريقا إذا تلألأ بجدته ونضارته فيكون وزنه استفعل من ذلك فلما سمي به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ومعاملة المتمكن من الأسماء في الصرف والتنوين، وأكثر التفاسير على أنه عربي وليس بمستعرب انتهى، ولا يخفى أنه مخالف للنقلين السابقين، ويمكن أن يقال:
إن لابن محيصن قراءتين فيه الصرف والمنع منه فنقل بعض قراءة وبعض آخر أخرى لكن ذكر ابن جني أن قراءة فتح القاف سهو أو كالسهو، قال أبو حيان: وإنما قال ذلك لأن جعله اسما ومنعه من الصرف لا يجوز أنه غير علم فتكون سهوا وقد أمكن جعله فعلا ماضيا فلا تكون سهوا انتهى.
وفي الجمع بين السندس والإستبرق إشعار ما بأن لأولئك القوم في الجنة ما يشتهون، ونكرا لتعظيم شأنهما وكيف لا وهما وراء ما يشاهد من سندس الدنيا وإستبرقها بل وما يتخيل من ذلك،
وقد أخرج البيهقي عن أبي الخير مرثد بن عبد الله قال: في الجنة شجرة تنبت السندس منه تكون ثياب أهل الجنة.
وأخرج الطيالسي والبخاري في التاريخ والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال: قال رجل: يا رسول الله أخبرنا عن ثياب أهل الجنة أخلقا تخلق أم نسجا تنسج؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: بل يتشقق عنها ثمر الجنة
، وظاهره أنها من سندس كانت أو من إستبرق كذلك، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب وفي القيمة أغلى وفي العين أحلى، وبنى فعله للمفعول إشعارا بأنهم لا يتعاطون ذلك بأنفسهم وإنما يفعله الخدم كما قال الشاعر:

غرائر في كن وصون ونعمة يحلين ياقوتا وشذرا مفقرا
وكذلك سائر الملوك في الدنيا يلبسهم التيجان ونحوها من العلامات المرصعة بالجواهر خدمهم، وأسند اللبس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصا إذا كان فيه ستر العورة، وقيل: بني الأول للمفعول والثاني للفاعل إشارة إلى أن التحلية تفضل من الله تعالى واللبس استحقاقهم، وتعقب بأن فيه نزغة اعتزالية ويدفع بالعناية مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة كما قال غير واحد وهو السرير في الحجلة فإن لم يكن فيها فلا يسمى أريكة.
وأخرج ذلك البيهقي عن ابن عباس، وقال الراغب: الأريكة حجلة على سرير وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر معروف أو لكونها مكانا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات، وروي تفسيرها بذلك عن عكرمة.
وقال الزجاج: الأرائك الفرش في الحجال والظاهر أنها على سائر الأقوال عربية، وحكى ابن الجوزي في فنون الأفنان أنها السرر بالحبشية، وأيّا ما كان فالكلام على ما قاله بعض المحققين كناية عن تنعمهم وترفههم فإن الاتكاء على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين، والآثار ناطقة بأنهم يتكئون ويتنعمون،
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول منه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه»
وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أن على الأرائك فرشا منضودة في السماء مقدار فرسخ.
وقرأ ابن محيصن «علرائك» بنقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام عَلَى فيها فيحذف ألف عَلَى لتوهم سكون لام التعريف، ومثله قول الشاعر: فما أصبحت عارض نفسي برية يريد على الأرض.

صفحة رقم 259

نِعْمَ الثَّوابُ ذلك الذي وعدوا به من الجنة ونعيمها وَحَسُنَتْ أي الأرائك أو الجنات مُرْتَفَقاً متكأ، وقد تقدم آنفا الكلام فيه وَاضْرِبْ لَهُمْ للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي والكفرة الذين طلبوا طردهم مَثَلًا رَجُلَيْنِ مفعولان لأضرب ثانيهما أولهما لأنه المحتاج إلى التفصيل والبيان قاله بعضهم، وقد مر تحقيق هذا المقام فتذكر، والمراد بالرجلين إما رجلان مقدران على ما قيل وضرب المثل لا يقتضي وجودهما وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه، فقيل هما إخوان من بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه فرطوس، وقيل اسمه قطفير والآخر مؤمن اسمه يهوذا في قول ابن عباس.
وقال مقاتل: اسمه يمليخا، وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل الله تعالى وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله، وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالا وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر أرضا بألف فقال المؤمن: اللهم أنا أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه دارا بألف فقال: اللهم إني أشتري منك دارا في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال:
اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور فتصدق به ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف فقال: اللهم إني أشتري منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله، وقيل: هما أخوان من بني مخزوم كافر هو الأسود بن الأسد ومؤمن هو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا من أن للمؤمنين في الآخرة كذا وللكافرين فيها كذا بل من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم في نعم الله تعالى وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر أي اضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة والطاعة مع الفقر حال رجلين جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو الكافر جَنَّتَيْنِ بستانين لم يعين سبحانه مكانهما إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة.
وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين فجرى ما جرى ففرقهما الله تعالى في ليلة واحدة، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه قول آخر، والجملة بتمامها تفسير للمثل فلا موضع لها من الإعراب، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لرجلين فموضعها النصب مِنْ أَعْنابٍ من كروم متنوعة فالكلام على ما قيل إما على تقدير مضاف وإما الأعناب فيه مجاز عن الكروم وهي أشجار العنب، والمفهوم من ظاهر كلام الراغب أن العنب مشترك بين الثمرة والكرم وعليه فيراد الكروم من غير حاجة إلى التقدير أو ارتكاب المجاز، والداعي إلى إرادة ذلك أن الجنة لا تكون من ثمر بل من شجر وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي جعلنا النخل محيطة بهما مطيفة بحفافيهما أي جانبيهما مؤزرا بها كرومهما يقال حفه القوم إذا طافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولا آخر كقولك غشيته به وَجَعَلْنا بَيْنَهُما وسطهما زَرْعاً لتكونا جامعتين للأقوات والفواكه متواصلتي العمارة على الهيئة الرائقة والوضع الأنيق.
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ثمرها وبلغ مبلغا صالحا للأكل، وكِلْتَا اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين وهو المذهب المشهور ومثنى لفظا ومعنى عند البغداديين وتاؤه منقلبة عن واو عند سيبويه فأصله كلوي فالألف فيه للتأنيث. ويشكل على هذا إعرابه بالحروف بشرطه، ويجاب بما أجيب به عن الإشكال في الأسماء الخمسة. وعند الجرمي الألف لام منقلبة عن أصلها والتاء زائدة للتأنيث. ويرد عليه أنه لا يعرف فعتل وأن التاء لا تقع حشوا ولا بعد ساكن صحيح وعلى المشهور يجوز في ضميره مراعاة لفظه ومراعاة معناه وقد روعي الأول هنا والثاني فيما بعد. وفي مصحف عبد الله «كلا الجنتين آتي» بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي ثم قرأ «آتت» فأنث لأنه

صفحة رقم 260

ضمير مؤنث، ولا فرق بين حقيقيه ومجازيه فالتركيب نظير قولك: طلع الشمس وأشرقت وقال: إن عبد الله قرأ «كل الجنتين آتي أكله» فذكر وأعاد الضمير على كل.
وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ أي لم تنقص من أكلها شَيْئاً من النقص على خلاف ما يعهد في سائر البساتين فإن الثمار غالبا تكثر في عام وتقل في عام وكذا بعض الأشجار تأتي بالثمار في بعض الأعوام دون بعض، وجوز أن يكون تَظْلِمْ متعديا وشَيْئاً مفعوله والمآل واحد وَفَجَّرْنا خِلالَهُما أي فيما بين كلتا الجنتين نَهَراً ليدوم شربهما ويزيد بهاؤهما، قال يحيى بن أبي عمرو الشيباني: وهذا النهر هو النهر هو المسمى بنهر أبي فرطس وهو على ما قال ابن أبي حاتم نهر مشهور في الرملة، وقيل المعنى فجرنا فيما بين كل من الجنتين نهرا على حدة فيكون هناك نهران على هذا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وتشديد فجر قيل للمبالغة في سعة التفجير، وقال الفراء: لأن النهر ممتد فكأنه أنهار.
وقرأ الأعمش وسلام ويعقوب وعيسى بن عمر «فجرنا» بالتخفيف على الأصل، وقرأ أبو السمال والعياض بن غزوان وطلحة بن سليمان «نهرا» بسكون الهاء وهو لغة جارية فيه وفي نظائره، ولعل تأخير ذكر التفجير عن ذكر الإيتاء مع أن الترتيب الخارجي على العكس للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين كما في قصة البقرة ونحوها ولو عكس لا نفهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مترتب على بعض فإن إيتاء الأكل متفرع على السقي عادة، وفيه إيماء إلى أن إيتاء الأكل لا يتوقف على السقي كقوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النور: ٣٥] قاله شيخ الإسلام وَكانَ لَهُ أي للأحد المذكور وهو صاحب الجنتين ثَمَرٌ أنواع المال كما في القاموس. وغيره ويقال: ثمر إذا تمول، وحمله على حمل الشجر كما فعل أبو حيان وغيره غير مناسب للنظم.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير ونافع وقراء المدينة «ثمر» بضم الثاء والميم، وكذا في «بثمره» الآتي وهو جمع ثمار بكسر الثاء جمع ثمر بفتحتين فهو جمع الجمع ومعناه على نحو ما تقدم أي أموال كثيرة من الذهب والفضة والحيوان وغيرها، وبذلك فسره ابن عباس وقتادة وغيرهما، وقال مجاهد يراد به الذهب والفضة خاصة، وقرأ الأعمش وأبو رجاء وأبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم تخفيفا هنا وفيما بعد والمعنى على ما سمعت، وقرأ أبو رجاء في رواية «ثمر» بالفتح والسكون.
وفي مصحف أبي وحمل على التفسير «وآتيناه ثمرا كثيرا» فَقالَ لِصاحِبِهِ المؤمن، والمراد بالصاحب المعنى اللغوي فلا ينافي هذا العنوان القول بأنهما كانا أخوين خلافا لمن وهم وَهُوَ أي القائل يُحاوِرُهُ أي يحاور صاحبه فالجملة في موضع الحال من القائل، والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع أي يراجعه الكلام في إنكاره البعث وإشراكه بالله تعالى، وجوز أن تكون الجملة حالا من صاحبه فضمير هُوَ عائد عليه وضمير صاحبه عائد على القائل أي والصاحب المؤمن يراجع بالوعظ والدعوة إلى الله عز وجل ذلك الكافر القائل له أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً حشما وأعوانا، وقيل: أولادا ذكورا، وروي ذلك عن قتادة ومقاتل، وأيد بمقابلته- بأقل منك مالا وولدا- وتخصيص الذكور لأنهم الذين ينفرون معه لمصالحه ومعاونته، وقيل: عشيرة ومن شأنهم أنهم ينفرون مع من هو منهم، واستدل بذلك على أنه لم يكن أخاه لأن العشيرة مشتركة بينهما وملتزم الأخوة لا يفسر بذلك، ونصب مالًا ونَفَراً على التمييز وهو على ما قيل محول عن المبتدأ، والظاهر أن المراد من أفعل التفضيل معناه الحقيقي وحينئذ يرد بذلك ما في بعض الروايات من أن الأخ المؤمن بقي بعد التصدق بماله فقيرا محتاجا فسأل أخاه الكافر ولم يعطه ووبخه على التصدق وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أي كل ما هو جنة له يتمتع بها بناء على أن الإضافة للاستغراق والعموم فتفيد ما أفادته التثنية مع زيادة وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير ذلك ولا حظ له في الجنة التي وعد المتقون وإلى هذا ذهب

صفحة رقم 261

الزمخشري وهو معنى لطيف دق تصوره على أبي حيان فتعقبه بما تعقبه. واختار الإفراد لأن الدخول لا يمكن أن يكون في الجنتين معا في وقت واحد وإنما يكون في واحدة واحدة وهو خال عما أشير إليه من النكتة.
وكذا ما قيل إن الافراد لاتصال إحداهما بالأخرى، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال في قوله تعالى:
جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ إلخ الجنة البستان فكان له بستان واحد وجدار واحد وكان بينهما نهر فلذلك كان جنتين وسماه سبحانه جنة من قبل الجدار المحيط به وهو كما ترى، والذي يدل عليه السياق والمحاورة أن المراد ودخل جنته مع صاحبه وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ جملة حالية أي وهو ضار لنفسه بكفره حيث عرضها للهلاك وعرض نعمتها للزوال أو واضع الشيء في غير موضعه حيث كان اللائق به الشكر والتواضع لا ما حكي عنه.
قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من ذكر دخول جنته حال ظلمه لنفسه كأنه قيل فماذا قال إذ ذاك؟ فقيل قال: ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أي تهلك وتفنى يقال باد يبيد بيدا وبيودا وبيدودة إذا هلك هذِهِ أي الجنة أَبَداً أي طول الحياة فالمراد بالتأبيد طول المكث لا معناه المتبادر، وقيل يجوز أن يكون أراد ذلك لأنه لجهله وإنكاره قيام الساعة ظن عدم فناء نوعها وإن فني كل شخص من أشجارها نحو ما يقوله الفلاسفة القائلون بقدم العالم في الحركات الفلكية وليس بشيء، وقيل ما قصد إلا أن هذه الجنة المشاهدة بشخصها لا تفنى على ما يقوله الفلاسفة على المشهور في الأفلاك أنفسها وكأن حب الدنيا والعجب بها غشي على عقله فقال ذلك وإلا فهو مما لا يقوله عاقل وهو مما لا يرتضيه فاضل، وقيل هذِهِ إشارة إلى الأجرام العلوية والأجسام السفلية من السموات والأرض وأنواع المخلوقات أو إشارة إلى الدنيا والمآل واحد والظاهر ما تقدم، وأيّا ما كان فلعل هذا القول كان منه بمقابلة موعظة صاحبه وتذكيره بفناء جنتيه ونهيه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الصالحات الباقيات، ولعله خوفه أيضا بالساعة فقال له: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي كائنة فيما سيأتي فالقيام الذي هو من صفات الأجسام مجاز عن الكون والتحقق لكنه جار في العرف مجرى الحقيقة وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي بالبعث عند قيامها كما زعمت لَأَجِدَنَّ حينئذ خَيْراً مِنْها أي من هذه الجنة.
وقرأ ابن الزبير وزيد بن علي وأبو بحرية وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد وابن مناذر ونافع وابن كثير وابن عامر «منهما» بضمير التثنية وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام أي من الجنتين مُنْقَلَباً أي مرجعا وعاقبة لفناء الأولى وبقاء الأخرى على زعمك، وهو تمييز محول من المبتدأ على ما نص عليه أبو حيان، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامته عليه سبحانه وهذا كقوله تعالى حكاية وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت: ٥٠] ولم يدر أن ذلك استدراج، وكأنه لسبق ما يشق عليه فراقه وهي الجنة التي ظن أنها لا تبيد جاء هنا رُدِدْتُ ولعدمه فيما سيأتي بعد إن شاء الله تعالى من آية حم المذكورة جاء رُجِعْتُ فليتأمل.
قالَ لَهُ صاحِبُهُ استئناف كما سبق وَهُوَ يُحاوِرُهُ جملة حالية كالسابقة، وفائدتها التنبيه من أول الأمر على أن ما يتلوها كلام معتنى بشأنه مسوق للمحاورة.
وقرأ أبي وحمل ذلك على التفسير «وهو يخاصمه» أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي في ضمن خلق أصلك منه وهو آدم عليه السلام لما أن خلق كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرته الشريفة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فإسناد الخلق من تراب إلى ذلك الكافر حقيقة باعتبار أنه مادة أصله، وكون ذلك مبنيا على صحة قياس

صفحة رقم 262

المساواة خيال واه، وقيل خلقك منه لأنه أصل مادتك إذ ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب فالإسناد مجاز من إسناد ما للسبب إلى المسبب فتدبر.
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ هي مادتك القريبة فالمخلوق واحد والمبدأ متعدد، ونقل أنه ما من نطفة قدر الله تعالى أن يخلق منها بشرا إلا وملك موكل بها يلقي فيها قليلا من تراب ثم يخلق الله تعالى منها ما شاء من ذكر أو أنثى.
وتعقبه في البحر بأنه يحتاج إلى ثبوت صحته، وأنا أقول: غالب ظني أني وقفت على تصحيحه لكن في تخريج الآية عليه كلام لا يخفى ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا عدلك وكملك إنسانا ذكرا وأصل معنى التسوية جعل الشيء سواء أي مستويا كما فيما تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النساء: ٤٢] ثم إنه يستعمل تارة بمعنى الخلق والإيجاد كما في قوله تعالى وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشمس: ٦] فإذا قرن بالخلق والإيجاد كما هنا فالمراد به الخلق على أتم حال وأعدله حسبما تقتضيه الحكمة بدون إفراط ولا تفريط، ونصب رَجُلًا على ما قال أبو حيان على الحال وهو محوج إلى التأويل.
وقال الحوفي: نصب على أنه مفعول ثان لسوى، والمراد ثم جعلك رجلا، وفيه على ما قيل تذكير بنعمة الرجولية أي جعلك ذكرا ولم يجعلك أنثى.
والظاهر أن نسبة الكفر بالله تعالى إليه لشكه في البعث وقوله ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً والشاك في البعث كما في الكشف كافر من أوجه الشك في قدرته تعالى وفي أخباره سبحانه الصدق وفي حكمته ألا ترى إلى قوله عز وجل أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: ١١٥] وهذا هو الذي يقتضيه السياق لأن قوله أَكَفَرْتَ إلخ وقع ردا لقوله ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ولذلك رتب الإنكار بخلقه من تراب ثم من نطفة الملوح بدليل البعث وعليه أكثر المفسرين ونوقشوا فيه.
وقال بعضهم: الظاهر أنه كان مشركا كما يدل عليه قول صاحبه تعريضا به لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وقوله يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وليس في قوله لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي ما ينافيه لأنه على زعم صاحبه كما مر مع أن الإقرار بالربوبية لا ينافي الإشراك فعبدة الأصنام مقرون بها وهم مشركون فالمراد بقوله أَكَفَرْتَ أأشركت اه، وسيأتي إن شاء الله تعالى بعض ما يتعلق به.
وقرأ ثابت البناني وحمل ذلك على التفسير كنظائره المتقدمة ويلك أكفرت لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي أصله لكن أنا وقد قرأ به أبي والحسن، وحكى ابن عطية ذلك عن ابن مسعود فنقل حركة همزة أنا إلى نون لكن فحذفت الهمزة ثم حذفت الحركة ثم أدغمت النون في النون، وقيل حذفت الهمزة مع حركتها ثم أدغم أحد المثلين في الآخر وهو أقرب مسافة إلا أن الحذف المذكور على خلاف القياس، وقد جاء الحذف والإدغام في قوله:

وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكنّ إياك لا أقلي
فإنه أراد لكن أنا لا أقليك، وهو أولى من جعلهم التقدير لكنه إياك على حذف ضمير الشأن، وأبعد منه جعل الأصل لكنني إياك على حذف اسم لكن كما في قوله:
فلو كنت ضبيّا عرفت قرابتي ولكن زنجيّ عظيم المشافر
أي لكنك مع نون الوقاية، وبإثبات الألف آخرا في الوقف وحذفها في الوصل كما هو الأصل في أنا وقفا ووصلا قرأ الكوفيون وأبو عمرو وابن كثير ونافع في رواية ورش وقالون، وأبدلها هاء في الوقف أبو عمرو في رواية فقال «لكنه» ذكره ابن خالويه، وقال ابن عطية: روى هارون عن أبي عمرو «لكنه هو الله ربي» بضمير لحق لكن.
وقرأ ابن عامر وزيد بن علي والحسن والزهري بإثبات الألف وقفا ووصلا وهو رواية عن نافع ويعقوب وأبي

صفحة رقم 263

عمرو وورش وأبي جعفر وأبي بحرية، وجاء ذلك على لغة بني تميم فإنهم يثبتون ألف أنا في الأصل اختيارا وأما غيرهم فيثبتها فيه اضطرارا، وقال بعضهم: إن إثباتها في الوصل غير فصيح لكنه حسن هنا لمشابهة أنا بعد حذف همزته لضميرنا المتصل ولأن الألف جعل عوضا عن الهمزة المحذوفة فيه. وقيل أثبتت إجراء للوصل مجرى الوقف وفي إثباتها دفع اللبس بلكن المشددة، ومن إثباتها وصلا قول الشاعر:

أنا شيخ العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما
وفي رواية الهاشمي عن أبي جعفر حذفها وصلا ووقفا، وروي ذلك أيضا عن أبي عبلة وأبي حيوة وأبي بحرية، وقرأ «لكننا» بحذف الهمزة وتخفيف النونين، و «لكن» في جميع هذه القراءات حرف استدراك لا عمل له وأنا مبتدأ أول وهُوَ ضمير الشأن مبتدأ ثان واللَّهُ رَبِّي مبتدأ وخبر، والجملة خبر ضمير الشأن وهي غنية عن الرابط وجملة ضمير الشأن وخبره خبر المبتدأ الأول والرابط ضمير المتكلم المضاف إليه، والتركيب نظير قولك: هند هو زيد ضاربها، وجوز أن يكون هُوَ مبتدأ ثانيا والاسم الجليل بدلا منه ورَبِّي خبره والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الياء أيضا. وفي البحر أن هُوَ ضمير الشأن وثم قول محذوف أي لكن أنا أقول هو الله ربي، ويجوز أن يعود على الذي خَلَقَكَ أي لكن أنا أقول الذي خلقك الله ربي فخبره الاسم الجليل ورَبِّي نعت أو عطف بيان أو بدل انتهى، ثم جوز عدم تقدير القول واقتصر على جعل هُوَ ضمير الشأن حينئذ حسبما سمعت، ولا يخفى أن احتمال تقدير القول بعيد في هذه القراءة ولعل احتمال كون الاسم الجليل بدلا أقرب معنى من كونه خبرا وعود الضمير على الذي خلقك، وجوز أبو علي كون- نا- ضمير الجماعة كالتي في خرجنا وضربنا ووقع الإدغام لاجتماع المثلين إلا أنه أريد بها ضمير المعظم نفسه فوحد رَبِّي على المعنى ولو اتبع اللفظ لقيل ربنا ولا يخفى ما فيه من البعد، وقال ابن عطية في الآية: يجوز أن تكون لكن هي العاملة من أخوات إن واسمها محذوف وحذفه فصيح إذا دل عليه الكلام والتقدير لكن قولي هو الله ربي، لكن ذلك إنما يتم لو قرىء بحذف الألف وقفا ووصلا وأنا لا أعرف أحدا قرأ بذلك انتهى، وأنت قد عرفت من قرأ به، وقد ذكر غيرهم قرؤوا أيضا أبو القاسم يوسف بن علي الهذلي في كتابه الكامل في القراءات لكن لا أظنك تستحسن التخريج على ذلك وقرأ عيسى الثقفي «لكن هو الله» بسكون نون لكن، وحكاه ابن خالويه عن ابن مسعود والأهوازي عن الحسن وإعرابه ظاهر جدا.
وقرىء «لكن أنا هو الله لا إله إلا هو ربي» ويعلم إعرابه مما مر، وخرج أبو حيان قراءة أبي عمرو على رواية هارون على أن يكون «هو» تأكيدا لضمير النصب في «لكنه» وجعله عائدا على «الذي خلقك» ثم قال: ويجوز أن يكون فصلا لوقوعه بين معرفتين، ولا يجوز أن يكون ضمير شأن لأنه لا عائد حينئذ على اسم لكن من الجملة الواقعة خبرا انتهى، ويا ليت شعري ما الذي منعه من تجويز أن يكون ضمير لكنه للشأن ويكون هُوَ مبتدأ عائدا على الذي خَلَقَكَ والاسم الجليل خبره ورَبِّي نعتا أو عطف بيان أو بدل والجملة خبر ضمير الشأن المنصوب بلكن أو يكون هُوَ مبتدأ والاسم الجليل بدلا منه ورَبِّي خبرا والجملة خبر الضمير.
هذا وقوله وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً عطف على إحدى الجملتين والاستدراك على أَكَفَرْتَ وملخص المعنى لمكان الاستفهام الذي هو للتقرير على سبيل الإنكار أنت كافر بالله تعالى لكني مؤمن موحد.
وللتغاير الظاهر بين الجملتين وقعت لكن موقعها فقد قالوا: إنها تقع بين كلامين متغايرين نحو زيد حاضر لكن عمرو غائب، وإلى كون المعنى ما ذكر ذهب الزمخشري وغيره، وذكر في الكشف أن فيه إشارة إلى أن الكفر بالله تعالى يقابله الإيمان والتوحيد فجاز أن يستدرك بكل منهما وبهما معا أي كما هنا فإن الإيمان مفاد أنا هو الله ربي

صفحة رقم 264

والتوحيد مفاد لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وأنت تعلم أيضا أن الشرك كثيرا ما يطلق على مطلق الكفر وجعلوا منه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ٤٨، ١١٦] وإنه يمكن أن يكون الغرض من مجموع الكلام إثبات الإيمان على الوجه الأكيد، ولعل شرك صاحبه الذي عرض به في الجملة الثانية كما صرح به غير واحد بهذا المعنى.
وقيل الشرك فيه بالمعنى المتبادر وإثباته لصاحبه تعريضا باعتبار أنه لما أنكر البعث فقد عجز الباري جل جلاله ومن عجزه سبحانه وتعالى فقد سواه بخلقه تعالى في العجز وهو شرك، وقيل باعتبار أنه لما اغتر بدنياه وزعم الاستحقاق الذاتي وأضاف ما أضاف لنفسه كان كأنه أشرك فعرض به المؤمن بما عرض فكأنه قال: لكن أنا مؤمن ولا أرى الغنى والفقر إلا من الله تعالى يفقر من يشاء ويغني من يشاء ولا أرى الاستحقاق الذاتي على خلاف ما أنت عليه والإنصاف أن كلا من القولين تكلف، وقيل في الكلام تعريض بشرك صاحبه ولا يلزم أن يكون مدلولا عليه بكلامه السابق بل يكفيه ثبوت كونه مشركا في نفس الأمر وفيما بعد ما هو ظاهر فيه فتأمل، ثم اعلم أن ما تضمنته الآية ذكر جليل.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت عميس قالت: علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلمات أقولهن عند الكرب الله ربي لا أشرك به شيئا.
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ حض على القول وتوبيخ على تركه، وتقديم الظرف على المحضض عليه للإيذان بتحتم القول في آن الدخول من غير ريث للقصر، وجاز تقديمه لذلك وجعله فاصلا بين لَوْلا وفعلها لتوسعهم في الظروف أي هلا قلت عند ما دخلتها ما شاءَ اللَّهُ أي الأمر ما شاء الله أو ما شاء الله تعالى كائن على أن ما موصولة مرفوعة المحل إما على أنها خبر مبتدأ محذوف أو على أنها مبتدأ محذوف الخبر.
ويجوز أن تكون شرطية في محل نصب بشاء والجواب محذوف أي أي شيء شاء الله تعالى كان، وأيّا ما كان فالمراد تحضيضه على الاعتراف بأن جنته وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أبادها، ودلالة الجملة على العموم الداخل فيه ما ذكر دخولا أوليا على التقدير الأول لأن تعريف الأمر للاستغراق، والجملة على هذا تفيد الحصر وأما على غيره فقيل لأن ما شرطية أو موصولة وهي في معنى الشرط والشرط وما في معناه يفيد توقف وجود الجزاء على ما في حيزه فيفيد عدمه عند عدمه فيكون المعنى ما شاء كان وإن لم يشأ لم يكن، ولا غبار على ذلك عند من يقول بمفهوم الشرط، وقدر بعضهم في الثاني من احتمالي الموصولة ما شاء الله هو الكائن حتى تفيد الجملة ما ذكر وليس بشيء كما لا يخفى.
وزعم القفال من المعتزلة أن التقدير هذا ما شاءه الله تعالى والإشارة إلى ما في الجنة من الثمار ونحوها، وهذا كقول الإنسان إذا نظر إلى كتاب مثلا: هذا خط زيد، ومراده نفي دلالة الآية على العموم ليسلم له مذهب الاعتزال، وكذلك فعل الكعبي والجبائي حيث قالا: الآية خاصة فيما تولى الله تعالى فعله ولا تشمل ما هو من فعل العباد ولا يمتنع أن يحصل في سلطانه سبحانه ما لا يريد كما يحصل فيه ما ينهى عنه، ولا يخفى على من له ذوق سليم وذهن مستقيم أن المنساق إلى الفهم العموم وكم للمعتزلة عدول عن ذلك لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ من مقول القول أيضا أي هلا قلت ذلك اعترافا بعجزك وإقرارا بأن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته تعالى وإقداره جل جلاله، وقد تضمنت هذه الآية ذكرا جليلا أيضا،
فقد أخرج أحمد عن أبي هريرة قال: «قال لي نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ قلت: نعم قال: أن تقول لا قوة إلا بالله
قال عمرو بن ميمون قلت لأبي هريرة: لا حول ولا قوة إلا بالله فقال: لا إنها في سورة الكهف ولولا إذ دخلت»
الآية.

صفحة رقم 265

وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال: «إن من أفضل الدعاء قول الرجل ما شاء الله»
وأخرج أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما أنعم الله تعالى على عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله إلا دفع الله تعالى عنه كل آفة حتى تأتيه منيته وقرأ ولولا إذ دخلت»
إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أنس قال: من رأى شيئا من ماله فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يصب ذلك المال آفة أبدا وقرأ الآية، وأخرجه البيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مطرف قال: كان مالك إذا دخل بيته يقول: ما شاء الله قلت لمالك: لم تقول هذا؟
قال: ألا تسمع الله تعالى يقول وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ ونقل عن ابن العربي أن مالكا يستدل بالآية على استحباب ما تضمنته من الذكر لكل من دخل منزله.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عروة أنه كان إذا رأى من ماله شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله ويتأول قول الله تعالى وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ الآية، ويفهم من بعض الروايات استحباب قول ذلك عند رؤية ما يعجب مطلقا سواء كان له أو لغيره وأنه إذا قال ذلك لم تصبه عين الإعجاب إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً إلخ أَنَا توكيد للضمير المنصوب على المفعولية في تَرَنِ وقد أقيم ضمير الرفع مقام ضمير النصب، والرؤية إن كانت علمية فأقل مفعول ثان وإن كانت بصرية فهو حال من المفعول، ويجوز أن يكون أَنَا فصلا وحينئذ يتعين أن تكون الرؤية علمية لأن الفصل إنما يقع بين مبتدأ وخبر في الحال أو في الأصل.
وقرأ عيسى بن عمر «أقلّ» بالرفع فيكون أَنَا مبتدأ وأَقَلَّ خبره والجملة في موضع المفعول الثاني على الأول من احتمالي الرؤية أو الحال على الثاني منهما ومالًا وَوَلَداً تمييز على القراءتين وما فيهما من الاحتمال، وقوله: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ قائم مقام جواب الشرط أي إن ترن كذلك فلا بأس عسى ربي إلخ، وقال كثير: هو جواب الشرط، والمعنى إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صنيع الله تعالى أن يقلب ما بي وما بك من الفقر والغنى فيرزقني لإيماني جنة خيرا من جنتك ويسلبك بكفرك نعمته ويخرب جنتك، وقيد بعضهم هذا الإيتاء بقوله:
في الآخرة، وقال آخر: في الدنيا أو في الآخرة، وظاهر ما ذكر أنه في الدنيا كالإرسال في قوله وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ أي عذابا كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس.
وأخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: حُسْباناً فقال: نارا وأنشد له قول حسان:

بقية معشر صبت عليهم شآبيب من الحسبان شهب
وأخرج ذلك ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضا، وقال الزمخشري: هو مصدر كالبطلان والغفران بمعنى الحساب والمراد به المحسوب والمقدر أي مقدرا قدره الله تعالى وحسبه وهو الحكم بتخريبها، والظاهر أن إطلاقه على الحكم المذكور مجاز والزجاج جعل الحسبان بمعنى الحساب أيضا إلا أنه قدر مضافا أي عذاب حساب وهو حساب ما كسبت يداه، ولا يخفى أنه يجوز أن يراد من الحسبان بهذا المعنى العذاب مجازا فلا يحتاج إلى تقدير مضاف.
وظاهر عبارة القاموس وكذا ما روي أولا عن ابن عباس أن إطلاق الحسبان على العذاب حقيقة، ويمكن على ما

صفحة رقم 266

قيل أن يكون إطلاقه على النار باعتبار أنها من العذاب أو من المقدر، ونقل الزمخشري أن حُسْباناً جمع حسبانة وهي المرماة أي ما يرمى به كالسهم والصاعقة وأريد بها هنا الصواعق، وقيل أعم من ذلك أي يرسل عليها مرامي من عذابه إما بردا وإما حجارة وإما غيرهما مما يشاء فَتُصْبِحَ لذلك صَعِيداً أي أرضا زَلَقاً ليس فيها نبات قاله الحسن وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي قيل وأصل معنى الزلق الزلل في المشي لوحل ونحوه لكن لما كان ذلك فيما لا يكون فيه نبت ونحوه مما يمنع منه تجوز به أو كني عنه، وعبر بالمصدر عن المزلقة مبالغة، وقيل الزلق من زلق رأسه بمعنى حلقه والكلام على التشبيه أي فتصبح أرضا ملساء ليس فيها شجر ولا نبات كالرأس الذي حلق وفيه بعد، وقيل المراد بالزلق المزلقة بالمعنى الحقيقي الظاهر، والمعنى فتصبح أرضا لا نبات فيها ولا يثبت فيها قدم، وحاصله فتصبح مسلوبة المنافع حتى منفعة المشي عليها فتكون وحلا لا تنبت ولا يثبت عليها قدم، وظاهر صنيع أبي حيان اختياره، وقال مجاهد: أي فتصبح رملا هائلا أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أي غائرا في الأرض، والتعبير بالمصدر للمبالغة نظير ما مر.
فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ أي للماء الغائر طَلَباً تحركا وعملا في رده وإخراجه، والمراد نفي استطاعة الوصول إليه فعبر عنه بنفي الطلب إشارة إلى أنه غير ممكن والعاقل لا يطلب مثله، وقيل ضمير لَهُ للماء مطلقا لا للماء المخصوص أي فلن تستطيع لماء لها بدل ذلك الماء الغائر طلبا، وهو الذي يقتضيه كلام الماوردي إلا أنه خلاف الظاهر.
والظاهر أن يُصْبِحَ عطف على (تصبح) وحينئذ لا بد أن يراد بالحسبان ما يصلح ترتب الأمرين عليه عادة كالحكم الإلهي بالتخريب إذ ليس كل آفة سماوية يترتب عليها إصباح الجنة صعيدا زلقا يترتب عليها وا صباح مائها غورا، وجوز أن يكون العطف على يُرْسِلَ وحينئذ يجوز أن يراد بالحسبان أي معنى كان من المعاني السابقة، وعلى هذا يكون المؤمن قد ترجى هلاك جنة صاحبه الكافر إما بآفة سماوية أو بآفة أرضية وهو غور مائها فيتلف كل ما فيها من الشجر والزرع لكنه لم يصرح بما يترتب على الغور من الضرر والخراب، ولعل ذلك لظهوره والاكتفاء بالإشارة إليه بقوله فَلَنْ إلخ. وتعقب بأنه لا يخفى أنه لا فساد في هذا العطف لا لفظا ولا معنى إلا أنه كان الظاهر أن يقال:
أو يجعل ماءها غورا أو نحو ذلك مما فيه إسناد الفعل إلى الله تعالى ولا يظهر للعدول إلى ما في النظم الكريم وجه فتأمل، ثم إن أكثر العلماء على أن قوله إِنْ تَرَنِ إلخ في مقابلة قول الكافر أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا إلخ وكأنهم عنوا المقابلة في الجملة لا المقابلة التامة أما إذا لم يتحد المراد بالنفر والولد فظاهر، وأما إذا اتحد بأن فسر النفر بالولد فلأن هناك أمرين أكثرية وأعزية ولم يذكر هنا إلا مقابل أحدهما وهو الأقلية المنسوبة في المعنى إلى المال والولد، نعم قيل:
إن أقلية الولد قد تستلزم الأذلية والأكثرية قد تستلزم الأعزية كما يشاهد في عرب البادية. هذا وكان الظاهر أن يتعرض في الجزاء لأمر الولد كما تعرض لأمر المال بأن يقال وعسى أن يؤتيني خيرا من ولدك ويصيبهم ببلاء فيصبحوا هلكى أو نحو ذلك. وأجيب بأنه إنما لم يتعرض لذلك إشارة إلى استيلاء حب المال على قلب ذلك الكافر وأنه يكفي في نكايته وإغاظته تلف جنته وإعطاء صاحبه المؤمن خيرا منها.
وقيل: إنما لم يتعرض لذلك لما فيه من ترجي هلاك من لم يصدر منه مكالمة ومحاورة ولم ينقل عنه مقاومة ومفاخرة لمجرد إغاظة كافر حاور وكاثر وفاخر وتركه أفضل للكامل وأكمل للفاضل، والدعاء على الكفرة وذراريهم الصادر من بعض الأنبياء عليهم السلام ليس من قبيل هذا الترجي كما لا يخفى على المتأمل وحيث أراد ترك هذا الترجي ترك ترجي الولد لنفسه تبعا له أو لكونه غير مهم له، وقيل: إنه ترجاه في قوله: خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ لأن المراد

صفحة رقم 267

شيئا خيرا من جنتك والنكرة قد تعم بمعونة المقام فيندرج الولد وليس بشيء.
وقيل: أراد ما هو الظاهر أي جنة خيرا من جنتك إلا أن الخيرية لا تتم من دون الولد إذ لا تكمل لذة بالمال لمن لا ولد له فترجى جنة خير من تلك الجنة متضمن لترجي ولد خير من أولئك الولد ولم يترج هلاك ولده ليكون بقاؤهم بعد هلاك جنته حملا عليه، ولا يخفى أنه لا يتبادر إلى الذهن من خيرية الجنة إلا خيريتها فيما يعود إلى كونها جنة من كثرة الأشجار وزيادة الثمار وغزارة مياه الأنهار ونحو ذلك، وفي قوله: ليكون إلخ منع ظاهر، وقيل: لم يترج الولد اكتفاء بما عنده منهم فإن كثرة الأولاد ليس مما يرغب فيه الكاملون وفيه نظر، وقيل: إنه لم يقرن ترجي إيتاء الولد مع ترجي إيتاء الجنة لأن ذلك الإيتاء المترجى في الآخرة وهي ليست محلا لإيتاء الولد لانقطاع التولد هناك، ولا يخفى أن هذا بعد تسليم أنه لا يؤتى الولد لمن شاءه في الآخرة ليس بشيء، وقيل: يمكن أن يكون ترجي الولد في قوله:
خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ بناء على أنه أراد من جنته جميع ما متع به من الدنيا وتكون الضمائر بعدها عائدة عليها بمعنى البستان على سبيل الاستخدام وهو كما ترى فتدبر، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وأخبر.
وقرأت فرقة «غؤورا» بضم الغين وهمزة بعدها وواو بعدهما وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أهلك أمواله المعهودة من جنتيه وما فيهما، وهو مأخوذ من إحاطة العدو وهي استدارته به من جميع جوانبه استعملت في الاستيلاء والغلبة ثم استعملت في كل هلاك، وذكر الخفاجي أن في الكلام استعارة تمثيلية شبه إهلاك جنتيه بما فيهما بإهلاك قوم حاط بهم عدو وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم، ويحتمل أن تكون الاستعارة تبعية، وبعض يجوز كونها تمثيلية تبعية انتهى. وجعل ذلك من باب الكناية أظهر والعطف على مقدر كأنه قيل: فوقع بعض ما ترجى وأحيط إلخ وحذف لدلالة السباق والسياق عليه، واستظهر أن الإهلاك كان ليلا لقوله تعالى فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ويحتمل أن تكون أصبح بمعنى صار فلا تدل على تقييد الخبر بالصباح، ويجري هذان الأمران في تصبح ويصبح السابقين، ومعنى تقليب الكفين على ما استظهره أبو حيان أن يبدي بطن كل منهما ثم يعوج يده حتى يبدو ظهر كل يفعل ذلك مرارا، وقال غير واحد: هو أن يضع باطن إحداهما على ظهر الأخرى ثم يعكس الأمر ويكرر ذلك، وأيّا ما كان فهو كناية عن الندم والتحسر وليس ذلك من قولهم: قلبت الأمر ظهرا لبطن كما في قول عمرو بن ربيعة:

وضربنا الحديث ظهرا لبطن وأتينا من أمرنا ما اشتهينا
فإن ذلك مجاز عن الانتقال من بعض الأحاديث إلى بعض، ولكونه كناية عن الندم عدي بعلى في قوله تعالى:
عَلى ما أَنْفَقَ فِيها فالجار والمجرور ظرف لغو متعلق بيقاب كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق، ومنه يعلم أنه يجوز في الكناية إن تعدى بصلة المعنى الحقيقي كما في قولهم: بنى عليها وبصلة المعنى الكنائي كما هنا فيجوز بنى بها ويكون القول بأنه غلط غلط.
ويجوز أن يكون الجار والمجرور ظرفا مستقرا متعلقه خاص وهو حال من ضمير «يقلب» أي متحسرا على ما أنفق وهو نظرا إلى المعنى الكنائي حال مؤكدة على ما قيل لأن التحسر والندم بمعنى، وقال بعضهم: إن التحسر الحزن وهو أخص من الندم فليراجع، وأيّا ما كان فلا تضمين في الآية كما توهم. وقرىء «تقلب كفاه» أي تتقلب، ولا يخفى عليك أمر الجار والمجرور على هذا، وما إما مصدرية أي على إنفاقه في عمارتها، وإما موصولة أي على الذي أنفقه في عمارتها من المال، ويقدر على هذا مضاف إلى الموصول من الأفعال الاختيارية إذا كان متعلق الجار يُقَلِّبُ مرادا منه يندم لأن الندم إنما يكون على الأفعال الاختيارية، ويعلم من هذا وجه تخصيص الندم على ما أنفق بالذكر دون

صفحة رقم 268

هلاك الجنة، وقيل: لعل التخصيص لذلك ولأن ما أنفق في عمارتها كان ما يمكن صيانته عن طوارق الحدثان وقد صرفه إلى مصالحها رجاء أن يتمتع بها أكثر مما يتمتع به وكان يرى أنه لا تنالها أيدي الردى ولذلك قال ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً [الكهف: ٣٥] فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك ندم على ما صنع بناء على الزعم الفاسد من إنفاق ما يمكن ادخاره في مثل هذا الشيء السريع الزوال انتهى، والظاهر أن إهلاكها واستئصال نباتها وأشجارها كان دفعيا بآفة سماوية ولم يكن تدريجيا بإذهاب ما به النماء وهو الماء، فقد قال الخفاجي: إن الآية تدل على وقوع استئصال نباتها وأشجارها عاجلا بآفة سماوية صريحا لقوله تعالى فَأَصْبَحَ بالفاء التعقيبية والتحسر إنما يكون لما وقع بغتة فتأمل وَهِيَ أي الجنة من الأعناب المحفوفة بنخل خاوِيَةٌ أي ساقطة، وأصل الخواء كما قيل الخلاء يقال خوى بطنه من الطعام يخوي خوى وخواء إذا خلا. وفي القاموس خوت الدار تهدمت وخوت وخويت خيا وخويا وخواء وخواية خلت من أهلها، وأريد السقوط هنا لتعلق قوله تعالى: عَلى عُرُوشِها بذلك، والعروش جمع عرش وهو هنا ما يصنع من الأعمدة لتوضع عليه الكروم، وسقوط الجنة على العروش لسقوطها قبلها، ولعل ذلك لأنه قد أصاب الجنة من العذاب ما جعلها صعيدا زلقا لا يثبت فيها قائم، ولعل تخصيص حال الكروم بالذكر دون النخل والزرع إما لأنها العمدة وهما من متمماتها وإما لأن ذكر هلاكها على ما قيل مغن عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت وهي مسندة بعروشها فهلاك ما عداها بالطريق الأولى وإما لأن الإنفاق في عمارتها أكثر، ثم هذه الجملة تبعد ما روي من أن الله تعالى أرسل عليها نارا فأحرقتها وغار ماؤها إلا أن يراد منها مطلق الخراب، وحينئذ يجوز أن يراد من هِيَ الجنة بجميع ما اشتملت عليه وَيَقُولُ عطف على يُقَلِّبُ وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون حالا من الضمير المستتر فيه بتقدير وهو يقول لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو الحالية إلا شذوذا.
يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه إنما أتى من قبل شركه فتمنى لو لم يكن مشركا فلم يصبه ما أصابه، قيل ويحتمل أن يكون توبة من الشرك وندما عليه فيكون تجديدا للإيمان لأن ندمه على شركه فيما مضى يشعر بأنه آمن في الحال فكأنه قال: آمنت بالله تعالى الآن وليت ذلك كان أولا، لكن لا يخفى أن مجرد الندم على الكفر لا يكون إيمانا وإن كان الندم على المعصية قد يكون توبة إذا عزم على أن لا يعود وكان الندم عليها من حيث كونها معصية كما صرح به في المواقف، وعلى فرض صحة قياسه بها لم يتحقق هنا من الكافر ندم عليه من حيث هو كفر بل بسبب هلاك جنتيه، والآية فيما بعد ظاهرة أيضا في أنه لم يتب عما كفر به وهو إنكار البعث، والقول بأنه إنما لم تقبل توبته عن ذلك لأنها كانت عند مشاهدة البأس والإيمان إذ ذاك غير مقبول غير مقبول إذ غاية ما في الباب أنه إيمان بعد مشاهدة إهلاك ماله وليس في ذلك سلب الاختيار الذي هو مناط التكليف لا سيما إذا كان ذلك الإهلاك للإنذار، نعم إذا قيل إن هذا حكاية لما يقوله الكافر يوم القيامة كما ذهب إليه بعض المفسرين كان وجه عدم القبول ظاهرا إذ لا ينفع تجديد الإيمان هناك بالاتفاق وَلَمْ تَكُنْ لَهُ وقرأ الاخوان ومجاهد وابن وثاب والأعمش وطلحة وأيوب وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير «يكن» بالياء التحتية لأن المرفوع به أعني قوله تعالى فِئَةٌ غير حقيقي التأنيث والفعل مقدم عليه وقد فصل بينهما بالمنصوب، وقد روعي في قوله سبحانه يَنْصُرُونَهُ المعنى فأتى بضمير الجمع.
وقرأ ابن أبي عبلة «ولم تكن له فئة تنصره» مراعاة للفظ فقط، والمراد من النصرة لازمها وهو القدرة عليها أي لم تكن له فئة تقدر على نصره إما بدفع الهلاك قبل وقوعه أو برد المهلك بعينه على القول بجواز إعادة المعدوم بعينه أو برد مثله على القول بعدم جواز ذلك مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنه سبحانه وتعالى القادر على نصره وحده، وارتكب المجاز لأنه لو أبقى ذلك على ظاهره لاقتضى نصرة الله تعالى إياه لأنه إذا قيل: لا ينصر زيدا أحد دون بكر فهم منه نصرة بكر

صفحة رقم 269

له في العرف وليس ذلك بمراد بل المراد ما سمعت، وحاصله لا يقدرون على نصره إلا الله تعالى القدير وَما كانَ في نفسه مُنْتَصِراً ممتنعا بقوته عن انتقام الله تعالى منه هُنالِكَ أي في ذلك المقام وتلك الحال التي وقع فيها الإهلاك الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أي النصرة له تعالى وحده لا يقدر عليها أحد فالجملة تقرير وتأكيد لقوله تعالى وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ إلخ، أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة كما نصر سبحانه بما فعل بالكافر أخاه المؤمن فالولاية بمعنى النصرة على الوجهين إلا أنها على الأول مطلقة أو مقيدة بالمضطر ومن وقع به الهلاك وعلى هذا مقيدة بغير المضطر وهم المؤمنون، ويعضد أن المراد نصرتهم قوله تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أي عاقبة لأوليائه، ووجه ذلك أن الآية ختمت بحال الأولياء فيناسب أن يكون ابتداؤها كذلك.
وقرأ الأخوان والأعمش وابن وثاب وشيبة وابن غزوان عن طلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير «الولاية» بكسر الواو وهي والولاية بالفتح بمعنى واحد عند بعض أهل اللغة كالو كالة والوكالة والوصاية والوصاية، وقال الزمخشري: هي بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك أي هنالك السلطان له عز وجل لا يغلب ولا يمتنع منه ولا يعبد غيره كقوله تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: ٦٥] فتكون الجملة تنبيها على أن قوله يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ إلخ كان عن اضطرار وجزع عما دهاه ولم يكن عن ندم وتوبة، وحكي عن أبي عمرو والأصمعي أنهما قالا: إن كسر الواو لحن هنا لأن فعالة إنما تجيء فيما كان صنعة ومعنى متقلدا كالكتابة والإمارة والخلافة وليس هنا تولي أمر إنما هي الولاية بالفتح بمعنى الدين بالكسر ولا يعول على ذلك.
واستظهر أبو حيان كون هُنالِكَ إشارة إلى الدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله الحق ويناسب قوله تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً ويكون كقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: ١٦] والظاهر على جميع ذلك أن الوقف على مُنْتَصِراً وقوله تعالى: هُنالِكَ إلخ ابتداء كلام، وحينئذ فالولاية مبتدأ ولِلَّهِ الخبر والظرف معمول الاستقرار والجملة مفيدة للحصر لتعريف المسند إليه واقتران الخبر بلام الاختصاص كما قرر في «الحمد لله رب العالمين» وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون «هنالك» خبر «الولاية» أو الولاية مرفوعة به و «لله» يتعلق بالظرف أو بالعامل فيه أو بالولاية، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا منها.
وقال بعضهم: إن الظرف متعلق بمنتصرا والإشارة إلى الدار الآخرة، والمراد الإخبار بنفي أن ينتصر في الآخرة بعد نفي أن تكون له فئة تنصره في الدنيا. والزجاج جعله متعلقا بمنتصرا أيضا إلا أنه قال: وما كان منتصرا في تلك الحالة، والْحَقِّ نعت للاسم الجليل.
وقرأ الاخوان وحميد والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني الحق بالرفع على أنه صفة الْوَلايَةُ وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو الحق وأن يكون مبتدأ وهو خبره وقرأ أبي «هنالك الولاية الحق لله» بتقديم الْحَقِّ ورفعه وهو يرجح كون الْحَقِّ نعتا للولاية في القراءة السابقة.
وقرأ أبو حيوة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو «الحق» بالنصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة والناصب له عامل مقدر كما في قولك: هذا عبد الله حقا، ويحتمل أنه نعت مقطوع.
وقرأ الحسن والأعمش وحمزة وعاصم وخلف «عقبا» بسكون القاف والتنوين، وعن عاصم «عقبى» بألف التأنيث المقصور على وزن رجعى، والجمهور بضم القاف والتنوين والمعنى في الكل ما تقدم.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي اذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يغتروا بها ولا يضربوا عن الآخرة صفحا بالمرة أو اذكر لهم صفتها العجيبة التي هي في الغرابة كالمثل وبينها لهم.

صفحة رقم 270

كَماءٍ استئناف لبيان المثل أي هي كماء أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ وجوزوا أن يكون مفعولا ثانيا لا ضرب على أنه بمعنى صير. وتعقب بأن الكاف تنبو عنه إلا أن تكون مقحمة. ورد بأنه مما لا وجه لأن المعنى صير المثل هذا اللفظ فالمثل بمعنى الكلام الواقع فيه التمثل. وقال الحوفي: الكاف متعلقة بمحذوف صفة لمصدر محذوف أي ضربا كماء وليس بشيء.
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي فاشتبك وخالط بعضه بعضا لكثرته وتكاثفه بسبب كثرة سقي الماء إياه أو المراد فدخل الماء في النبات حتى روي ورف، وكان الظاهر في هذا المعنى فاختلط بنبات الأرض لأن المعروف في عرف اللغة والاستعمال دخول الباء على الكثير الغير الطارئ وإن صدق بحسب الوضع على كل من المتداخلين أنه مختلط ومختلط به إلا أنه اختير ما في النظم الكريم للمبالغة في كثرة الماء حتى كأنه الأصل الكثير ففي الكلام قلب مقبول فَأَصْبَحَ ذلك النبات الملتف إثر بهجته ونضارته هَشِيماً أي يابسا متفتتا، وهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل جمع هشيمة وأصبح بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح كما في قوله:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
وقيل هي على ظاهرها مفيدة لتقييد الخبر بذلك لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلا. وتعقب بأنه ليس في الآية ما يدل على أن اتصافه بكونه هشيما لآفة سماوية بل المراد بيان ما يؤول إليه بعد النضارة من اليبس والتفتت كقوله تعالى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [الأعلى: ٤، ٥] تَذْرُوهُ الرِّياحُ أي تفرقه كما قال أبو عبيدة، وقال الأخفش: ترفعه، وقال ابن كيسان: تجيء به وتذهب، وقرأ ابن مسعود «تذريه» من أذرى رباعيا وهو لغة في ذرى وقرأ زيد بن علي والحسن والنخعي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن محيصن وخلف وابن عيسى وابن جرير «تذروه الريح» بالإفراد، وليس المشبه به نفس الماء بل هو الهيئة المنتزعة من الجملة وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر مهتزا ثم يصير يابسا تطيره الرياح حتى كأنه لم يكن، وعبر بالفاء في الآية للإشعار بسرعة زواله وصيرورته بتلك الصفة فليست فصيحية، وقيل هي فصيحية والتقدير فزها ومكث مدة فأصبح هشيما وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها الإنشاء والإفناء مُقْتَدِراً كامل القدرة.
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا بيان لشأن ما كانوا يفتخرون به من محسنات الحياة الدنيا كما افتخر الأخ الكافر بما افتخر به من ذلك إثر بيان شأن نفسها بما مر من المثل، وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه عند أكثر الناس لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد وغير ذلك.
وعمومه بالنسبة إلى الإفراد والأوقات فإنه زينة وممد لكل أحد من الآباء والبنين في كل وقت وحين وأما البنون فزينتهم وإمدادهم إنما يكون بالنسبة إلى من بلغ الأبوة ولأن المال مناط لبقاء النفس والبنون لبقاء النوع ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم ولأنه أقدم منهم في الوجود ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بلا مال فهو في أضيق حال ونكال كذا في إرشاد العقل السليم، والزينة مصدر وأطلق على ما يتزين به للمبالغة ولذلك أخبر به عن أمرين وإضافتها إلى الحياة الدنيا اختصاصية، وجوز أن تكون على معنى في والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شيء يتزين به في الحياة الدنيا وقد علم شأنها في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال فما الظن بما هو من أوصافها التي شأنها أن تزول قبل زوالها. وذكر أن هذا إشارة إلى ما يرد افتخارهم بالمال والبنين كأنه قيل: المال والبنون زينة الحياة الدنيا وكل ما كان زينة الحياة الدنيا فهو سريع الزوال ينتج المال والبنون سريعا الزوال، أما الصغرى فبديهية وأما الكبرى فدليلها يعلم مما مر من بيان شأن نفس الحياة الدنيا ثم يقال: المال والبنون سريعا الزوال وكل ما كان سريع الزوال يقبح بالعاقل أن يفتخر به ينتج المال والبنون يقبح بالعاقل أن يفتخر بهما وكلتا المتقدمين لا خفاء فيها.

صفحة رقم 271

وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ
أخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما هي يا رسول الله، قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله»
وأخرج الطبراني وابن شاهين في الترغيب وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله هن الباقيات الصالحات وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها وهن من. كنوز الجنة،
وجاء تفسيرها بما ذكر في غير ذلك من الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخرج وابن المنذر وابن أبي شيبة عن ابن عباس تفسيرهما بما ذكر أيضا لكن بدون الذكر الأخير.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر في رواية أخرى عنه تفسيرها بالصلوات الخمس
وأخرج ابن مردويه وابن المنذر وابن أبي حاتم في رواية أخرى عنه أيضا تفسيرها بجميع أعمال الحسنات
، وفي معناه ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن قتادة أنها كل ما أريد به وجه الله تعالى، وعن الحسن وابن عطاء أنها النيات الصالحة واختار الطبري وغيره ما في الرواية الأخيرة عن ابن عباس ويندرج فيها ما جاء في ما ذكر من الروايات وغيرها.
وادعى الخفاجي أن كل ما ذكر في تفسيرها غير العام ذكر على طريق التمثيل، ويبعد ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم وهن الباقيات المفيد للحصر بعد التنصيص على ما لا عموم فيه فتأمل، وأيّا ما كان فالباقيات صفة لمقدر كالكلمات أو الأعمال وإسناد الباقيات إلى ذلك مجاز أي الباقي ثمرتها وثوابها بقرينة ما بعد فهي صفة جرت على غير ما هي له بحسب الأصل أو هناك مقدر مرفوع بالوصف مضاف إلى ضمير الموصوف استتر الضمير المجرور وارتفع بعد حذفه وكذا تدخل أعمال فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه دخولا أوليا فإن لهم من كل نوع من أنواع الخيرات الحظ الأوفر، والكلام متضمن للتنويه بشأنهم وحط قدر شانئهم فكأنه قيل ما افتخر به أولئك الكفرة من المال والبنين سريع الزوال لا ينبغي أن يفتخر به وما جاء به أولئك المؤمنون خَيْرٌ من ذلك عِنْدَ رَبِّكَ أي في الآخرة، وهو بيان لما يظهر فيه آثار خيريتها بمنزلة إضافة الزينة إلى الحياة الدنيا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركة الكل في الأصل إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة، وقيل: معنى عند ربك في حكمه سبحانه وتعالى:
ثَواباً جزاء وأجرا، وقيل: نفعا.
وَخَيْرٌ أَمَلًا حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما يؤمله بها في الدنيا وأما المال والبنون فليس لصاحبهما ذلك، وتكرير خَيْرٌ للمبالغة، وقيل: لها وللإشعار باختلاف جهتي الخيرية وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ منصوب باذكر مضمرا أي اذكر يوم نقلع الجبال من أماكنها ونسيرها في الجو كالسحاب كما ينبىء عنه قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: ٨٨]، وقيل: نسير أجزاءها بعد أن يجعلها هباء منبثا والكلام على هذا على حذف مضاف، وجوز أن يكون التسيير مجازا عن الإذهاب والإفناء بذكر السبب وإرادة المسبب أي واذكر يوم نذهب بها وننسفها نسفا فيكون كقوله تعالى: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: ٥، ٦] واعترض كلا الأمرين بأن صيرورة الجبال هباء منبثا وإذهابها بعد تسييرها فقد ذكر بعض المحققين أخذا من الآيات أنه أولا تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيبا مهيلا ثم هباء منبثا، والظاهر هنا أول أحوال الجبال ولا مقتضى للصرف عن الظاهر، ثم المراد بذكر ذلك تحذير المشركين ما فيه من الدواهي التي هي أعظم من ثالثة الأثافي، وجوز أبو حيان وغيره كون يَوْمَ ظرفا للفعل المضمر عند قوله تعالى: قَدْ جِئْتُمُونا
إلخ أي قلنا يوم كذا لقد جئتمونا، وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى هناك، وغير واحد كونه معطوفا على ما قبله من قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكَ فهو معمول خَيْرٌ أي الباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة وحينئذ يتعين أن يكون المراد من عند

صفحة رقم 272

ربك في حكمه تعالى كما قيل به، وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب «تسير الجبال» برفع الجبال وبناء تسير بالتاء ثالثة الحروف للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعينه، وعن الحسن أنه قرأ كذلك إلا أنه جاء بالياء آخر الحروف بدل التاء، وقرأ أبي سيرت الجبال بالماضي المبني للمفعول ورفع الجبال، وقرأ ابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو «تسير الجبال» بالمضارع المفتتح بالتاء المثناة من فوق المبني للفاعل ورفع الجبال وَتَرَى الْأَرْضَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية أي وترى جميع جوانب الأرض بارِزَةً بادية ظاهرة أما ظهور ما كان منها تحت الجبال فظاهر، وأما ما عداه فكانت الجبال تحول بينه وبين الناظر قبل ذلك أو تراها بارزة لذهاب جميع ما عليها من الجبال والبحار والعمران والأشجار وإنما اقتصر على زوال الجبال لأنه يعلم منه زوال ذلك بطريق الأولى، وقيل: إسناد البروز إلى الأرض مجاز، والمراد ترى أهل الأرض بارزين من بطنها وهو خلاف الظاهر.
وقرأ عيسى «وترى الأرض» ببناء الفعل للمفعول ورفع الأرض وَحَشَرْناهُمْ أي جمعناهم إلى الموقف من كل أوب بعد أن أقمناهم من قبورهم ولم يذكر لظهور إرادته، وعلى ما قيل يكون ذلك مذكورا، وإيثار الماضي بعد «نسير» و «ترى» للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المنكرون وعليه يدور أمر الجزاء وكذا الكلام فيما عطف عليه منفيا وموجبا، وقال الزمخشري: هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك اه. واعترض بأن في بعض الآيات مع الأخبار ما يدل على أن التسيير والبروز عند النفخة الأولى وفساد نظام العالم والحشر وما عطف عليه عند النفخة الثانية فلا ينبغي حمل الآية على معنى وحشرناهم قبل ذلك لئلا تخالف غيرها فليتأمل، ثم لا يخفى أن التعبير بالماضي على الأول مجاز وعلى هذا حقيقة لأن المضي والاستقبال بالنظر إلى الحكم المقارن له لا بالنسبة لزمان التكلم، والجملة عليه كما في الكشف وغيره تحتمل العطف والحالية من فاعل نُسَيِّرُ. وقال أبو حيان: الأولى جعلها حالا على هذا القول، وأوجبه بعضهم وعلله بأنها لو كانت معطوفة لم يكن مضى بالنسبة إلى التسيير والبروز بل إلى زمان التكلم فيحتاج إلى التأويل الأول، ثم قال: وتحقيقه أن صيغ الأفعال موضوعة لأزمنة التكلم إذا كانت مطلقة فإذا جعلت قيودا لما يدل على زمان كان مضيها وغيره بالنسبة إلى زمانه اه وليس بشيء، والحق عدم الوجوب، وتحقيق ذلك أن الجمل التي ظاهرها التعاطف يجوز فيها التوافق والتخالف في الزمان فإذا كان في الواقع كذلك فلا خفاء فيه وإن لم يكن فلا بد للعدول من وجه، فإن كان أحدهما قيدا للآخر وهو ماض بالنسبة إليه فهو حقيقة ووجهه ما ذكر ولا تكون الجملة معطوفة حينئذ، فإن عطفت وجعل المضي بالنسبة لأحد المتعاطفين فلا مانع منه وهل هو حقيقة أو مجاز محل تردد، والذي يحكم به الإنصاف اختيار قول أبي حيان من أولوية الحالية على ذلك، والقول بأنه لا وجه له لا وجه له، وحينئذ يقدر قد عند الأكثرين أي وقد حشرناهم فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً أي لم نترك، يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر الذي هو ترك الوفاء، والغدير الذي هو ماء يتركه السيل في الأرض. وقرىء «يغادر» بالياء التحتية على أن الضمير لله تعالى على طريق الالتفات.
وقرأ قتادة «تغادر» بالتاء الفوقية على أن الضمير للأرض كما في قوله تعالى: وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ [الانشقاق: ٤] وجوز أبو حيان كونه للقدرة، وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنيا للمفعول ورفع «أحد» على النيابة عن الفاعل، وقرأ الضحاك «نغدر» بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ
أحضروا محل حكمه وقضائه عز وجل فيهم فًّا
مصطفين أو مصفوفين.
فقد أخرج ابن منده في التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى ينادي يوم القيامة يا عبادي

صفحة رقم 273

أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسؤولون محاسبون يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب»
وفي الحديث الصحيح «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر» الحديث بطوله،
وقيل تقام كل أمة وزمرة صفا.
وفي بعض الأخبار أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون، وقيل لا عرض بالمعنى المعروض ولا اصطفاف والكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية شبهت حالهم في حشرهم بحال جند عرضوا على السلطان ليأمر فيهم بما يأمر، وقيل إن فيه استعارة تبعية بتشبيه حشرهم بعرض هؤلاء، ومعنى فًّا
سواء كان داخلا في الاستعارة التمثيلية أو كان ترشيحا غير متفرقين ولا مختلطين فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده.
ولا حاجة إلى أن يقال: إنه مفرد أريد به الجمع لكونه مصدرا أي صفوفا أو يقال: إن الأصل صفاصفا، على أن هذا مع بعده يرد عليه أن ما يدل على التعدد بالتكرار كبابا بابا وصفا صفا لا يجوز حذفه، هذا والحق أن إنكار الاصطفاف مما لا وجه له بعد إمكانه وصحة الإخبار فيه، ولعل ما فسرنا به الآية مما لا غبار عليه، وفي الالتفات إلى الغيبة وبناء الفعل للمفعول مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم من تربية المهابة والجري على سنن الكبرياء وإظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى، وقيل في قوله تعالى: لى رَبِّكَ
إشارة إلى غضب الله تعالى عليهم وطردهم عن ديوان القبول بعدم جريهم على معرفتهم لربوبيته عز وجل قَدْ جِئْتُمُونا
خطاب للكفار المنكرين للبعث على إضمار القول، ويكون حالا مما تقدم فيقدر قائلين أو نقول إن كان حالا من فاعل (حشرنا) أو قائلا أو يقول إن كان من بِّكَ
أو مقولا لهم أو يقال لهم إن كان من ضعيررِضُوا.
وقد يقدر فعلا كقلنا أو نقول لا محل لجملته، وجوز تعلق «يوم» السابق به على هذا التقدير دون تقدير الحالية.
قال الخفاجي: لأنه يصير كغلام زيد ضاربا على أن ضاربا حال من زيد ناصبا لغلام ومثله تعقيد غير جائز لا لأن ذلك قبل الحشر وهذا بعده ولا لأن معمول الحال لا يتقدم عليها كما يتوهم، ثم قال: وأما ما أورد على تعلقه بالفعل في التقدير الثاني من أنه يلزم منه أن هذا القول هو المقصود أصالة فتخيل أغنى عن الرد أنه لا محذور فيه اه، والحق أن تعلقه بالقول المقدر حالا أو غيره مما لا يرتضيه الطبع السليم والذهن المستقيم، ولا يكاد يجوز مثل هذا التركيب على تقدير الحالية وإن قلنا بجواز تقدم معمول الحال عليها فتدبر، والمراد من مجيئهم إليه تعالى مجيئهم إلى حيث لا حكم لأحد غيره سبحانه من المعبودات الباطلة التي تزعم فيها عبدتها النفع والضر وغير ذلك نظير ما قالوا في قوله تعالى «ملك يوم الدين» ما خَلَقْناكُمْ
نعت لمصدر محذوف أي مجيئا كائنا كمجيئكم عند خلقنا لكم وَّلَ مَرَّةٍ
أو حال من الضمير المرفوع في ئْتُمُونا
أي كائنين كما خلقناكم أول مرة حفاة عراة غرلا أو ما معكم شيء مما تفتخرون به من الأموال والأنصار لقوله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام: ٩٤].
وجوز أن يكون المراد أحياء كخلقتكم الأولى، والكلام عليه إعرابا كما تقدم لكن يخالفه في وجه التشبيه وذاك كما قيل أوفق بما قبل وهذا بقوله تعالى: لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
وهو إضراب وانتقال من كلام إلى كلام كلاهما للتوبيخ والتقريع، والموعد اسم زمان وأن مخففة من المثقلة فصل بينها وبين خبرها بحرف النفي لكونه جملة فعلية فعلها متصرف غير دعاء وفي ذلك يجب الفصل بأحد الفواصل المعلومة إلا فيما شذ، والجعل إما بمعنى التصيير فالجار والمجرور مفعوله الثاني ووْعِداً
مفعوله الأول، وإما بمعنى الخلق والإيجاد فالجار والمجرور في

صفحة رقم 274

موضع الحال من مفعوله وهووْعِداً
أي زعمتم في الدنيا أنه لن نجعل لكم وقتا ينجز فيه ما وعدنا من البعث وما يتبعه.
وَوُضِعَ الْكِتابُ عطف على رِضُوا
داخل تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكر وقتها تحذير المشركين كما مر، وإيراد صيغة الماضي للدلالة على التقرر والمراد من الكتاب كتب الأعمال فأل فيه للاستغراق، ومن وضعه إما جعل كل كتاب في يد صاحبه اليمين أو الشمال وإما جعل كل في الميزان، وجوز أن يكون المراد جعل الملائكة تلك الكتب في البين ليحاسبوا المكلفين بما فيها، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد بالكتاب كتابا واحدا بأن تجمع الملائكة عليهم السلام صحائف الأعمال كلها في كتاب وتضعه في البين للمحاسبة ولكن لم أجد في ذلك أثرا، نعم قال اللقاني في شرح قوله في جوهرة التوحيد:

وواجب أخذ العباد الصحفا كما من القرآن نصا عرفا
جزم الغزالي بما قيل إن صحف العباد ينسخ ما في جميعها في صحيفة واحدة انتهى، والظاهر أن جزم الغزالي وأضرابه بذلك لا يكون إلا عن أثر لأن مثله لا يقال من قبل الرأي كما هو الظاهر، وقيل: وضع الكتاب كناية عن إبراز محاسبة الخلق وسؤالهم فإنه إذ أريد محاسبة العمال جيء بالدفاتر ووضعت بين أيديهم ثم حوسبوا فأطلق الملزوم وأريد لازمه، ولا يخفى أنه لا داعي إلى ذلك عندنا وربما يدعو إليه إنكار وزن الأعمال.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَوُضِعَ الْكِتابُ ببناء وضع للفاعل وإسناده إلى ضميره تعالى على طريق الالتفات ونصب الكتاب على المفعولية أي ووضع الله الكتاب فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ قاطبة فيدخل فيهم الكفرة المنكرون للبعث دخولا أوليا، والخطاب نظير ما مر مُشْفِقِينَ خائفين مِمَّا فِيهِ أي الكتاب من الجرائم والذنوب لتحققهم ما يترتب عليها من العذاب وَيَقُولُونَ عند وقوفهم على ما في تضاعيفه نقيرا وقطميرا يا وَيْلَتَنا نداء لهلكتهم التي هلكوها من بين الهلكات فإن الويلة كالويل الهلاك ونداؤها على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل يا هلاك أقبل فهذا أوانك ففيه استعارة مكنية تخييلية وفيه تقريع لهم وإشارة إلى أنه لا صاحب لهم غير الهلاك وقد طلبوه ليهلكوا ولا يروا العذاب الأليم.
وقيل: المراد نداء من بحضرتهم كأنه قيل: يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا، وفيه تقدير يفوت به تلك النكتة.
مالِ هذَا الْكِتابِ أي أي شيء له؟ والاستفهام مجاز عن التعجب من شأن الكتاب، ولام الجر رسمت في الإمام مفصولة، وزعم الطبرسي أنه لا وجه لذلك، وقال البقاعي: إن في رسمها كذلك إشارة إلى أن المجرمين لشدة الكرب يقفون على بعض الكلمة، وفي لطائف الإشارات وقف على ما أبو عمرو والكسائي ويعقوب والباقون على اللام والأصح الوقف على ما لأنها كلمة مستقلة، وأكثرهم لم يذكر فيها شيئا اه. وأنت تعلم أن الرسم العثماني متبع ولا يقاس عليه ولا يكاد يعرف وجهه وفي حسن الوقف على ما أو اللام توقف عندي. وقوله تعالى: لا يُغادِرُ أي لا يترك صَغِيرَةً أي هنة صغيرة وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها أي إلا عدها وهو كناية عن الإحاطة جملة حالية محققة لما في الجملة الاستفهامية من التعجب أو استئنافية مبنية على سؤال نشأ من التعجب كأنه قيل ما شأن هذا الكتاب حتى يتعجب منه؟ فقيل: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً إلخ.
وعن ابن جبير تفسير الصغيرة بالمسيس والكبيرة بالزنا، وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمنين والكبيرة القهقهة بذلك، وعلى هذا يحمل إطلاق ابن

صفحة رقم 275

مردويه في الرواية عنه رضي الله تعالى عنه تفسير الصغيرة بالتبسم والكبيرة بالضحك ويندفع استشكال بعض الفضلاء ذلك ويعلم منه أن الضحك على الناس من الذنوب.
وعن عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب ويعظهم في ضحكهم من الريح الخارج بصوت وقال: علام يضحك أحدكم مما يفعل؟
بل ذكر بعض علمائنا أن من الضحك ما يكفر به الضاحك كالضحك على كلمة كفر، وقيده بعضهم بما إذا قدر على أن يملك نفسه وإلا فلا يكفر، وتمام الكلام في ذلك في محله، وكان الظاهر لا يغادر كبيرة ولا صغيرة بناء على ما قالوا من أن الترقي في الإثبات يكون من الأدنى إلى الأعلى وفي النفي على عكس ذلك إذ لا يلزم من فعل الأدنى فعل الأعلى بخلاف النفي لكن قال المحققون: هذا إذا كان على ظاهره فإن كان كناية عن العموم كما هنا وقولك ما أعطاني قليلا ولا كثيرا جاز تقديم الأدنى على الأعلى في النفي كما فصله ابن الأثير في المثل السائر، وفي البحر قدمت الصغيرة اهتماما بها، وروي عن الفضيل أنه كان إذا قرأ الآية قال:
ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية: اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء ولم يشتك أحد ظلما فإياكم والمحقرات من الذنوب فإنها تجمع على صاحبها حتى تهلكه.
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا في الدنيا من السيئات أو جزاء ذلك حاضِراً مسطورا في كتاب كل منهم أو عتيدا بين أيديهم نقدا غير مؤجل، واختير المعنى الأخير وإن كان فيه ارتكاب خلاف الظاهر لأن الكلام عليه تأسيس محض وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً بما لم يعمله أي منهم أو منهم ومن غيرهم، والمراد أنه عز وجل لا يتجاوز الحد الذي حده في الثواب والعقاب وإن لم يجب ذلك عليه تعالى عقلا، وتحقيقه أنه تعالى وعد بإثابة المطيع والزيادة في ثوابه وبتعذيب العاصي بمقدار جرمه من غير زيادة وأنه قد يغفر له ما سوى الكفر وأنه لا يعذب بغير جناية فهو سبحانه وتعالى لا يجاوز الحد الذي حده ولا يخالف ما جرت عليه سنته الإلهية فلا يعذب أحدا بما لم يعمله ولا ينقص ثواب ما عمله مما أمر به وارتضاه ولا يزيد في عقابه الملائم لعمله الذي نهي عنه ولم يرتضه، وهذا مما أجمع عليه المسلمون وإن اختلفوا في أن امتناع وقوع ما نفي هل هو سمعي أو عقلي فذهب إلى الأول أهل السنة وإلى الثاني المعتزلة، وهل تسمية تلك المجاوزة ظلما حقيقة أم لا؟ قال الخفاجي: الظاهر أنها حقيقة، وعليه لا حاجة إلى أن يقال: المراد بالآية أنه سبحانه لا يفعل بأحد ما يكون ظلما لو صدر من العباد كالتعذيب بلا ذنب فإنه لو صدر من العباد يكون ظلما ولو صدر منه سبحانه لا يكون كذلك لأن جل شأنه مالك الملك متصرف في ملكه كيف يشاء فلا يتصور في شأنه تعالى شأنه ظلم أصلا بوجه من الوجوه عند أهل السنة، وأنت تعلم أن هذا هو المشهور لدى الجمهور لا ما اقتضاه التحقيق فتأمل والله تعالى ولي التوفيق. واستدل بعموم الآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وهو القول المنصور وقد أسلفنا ولله تعالى الحمد ما يؤيده من الأخبار وَإِذْ قُلْنا أي اذكر وقت قولنا لِلْمَلائِكَةِ كلهم كما هو الظاهر، واستثنى بعض الصوفية الملائكة المهيمين، وبعض آخر ملائكة السماء مطلقا وزعم أن المقول له ملائكة الأرض.
اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحية وإكرام أو اسجدوا لجهته على معنى اتخذوه قبلة لسجودكم لله تعالى، وقد مر تمام الكلام في ذلك فَسَجَدُوا كلهم أجمعون امتثالا للأمر إِلَّا إِبْلِيسَ لم يكن من الساجدين بل أبى واستكبر، وقوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ كلام مستأنف سيق مساق التعليل لما يفيده استثناء اللعين من الساجدين، وقيل: حال من المستثنى وقد مقدرة والرابط الضمير وهو اختيار أبي البقاء، والأول ألصق بالقلب فكأنه قيل ما له لم يسجد؟ فقيل كان أصله جنيا، وهذا ظاهر في أنه ليس من الملائكة نعم كان معهم ومعدودا في عدادهم،
فقد أخرج ابن جرير عن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة فتعبد بالسجود معهم.

صفحة رقم 276

وأخرج نحوه عن شهر بن حوشب
، وهو قول كثير من العلماء حتى قال الحسن فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم: قاتل الله تعالى أقواما زعموا أن إبليس من الملائكة والله تعالى يقول: كانَ مِنَ الْجِنِّ وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ في العظمة أنه قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وإنه لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس، وفيه دلالة على أنه لم يكن قبله جن كما لم يكن قبل آدم عليه السلام إنس، وفي القلب من صحته ما فيه. وأقرب منه إلى الصحة ما قاله جماعة من أنه كان قبله جن إلا أنهم هلكوا ولم يكن لهم عقب سواه فالجن والشياطين اليوم كلهم من ذريته فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس على ما هو المشهور، وقيل: كان من الملائكة والجن قبيلة منهم، وقد أخرج هذا ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس،
وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنهما أن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان السماء الدنيا وكان له مجمع البحرين بحر الروم وبحر فارس وسلطان الأرض فرأى أن له بذلك عظمة وشرفا على أهل السماء فوقع في نفسه كبر لم يعلم به أحد إلا الله تعالى قلما أمر بالسجود ظهر كبره الذي في نفسه فلعنه الله تعالى إلى يوم القيامة
، وكان على ما رواه عنه قتادة يقول:
لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود وأجيب عن هذا بما أشرنا إليه آنفا وبغيره مما لا يخفى، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وقد روى عنه جماعة أنه قال: الجن في الآية حي من الملائكة لم يزالوا يصوغون حلي أهل الجنة حتى تقوم الساعة، وفي رواية أخرى عنه أن معنى كانَ مِنَ الْجِنِّ كان من خزنة الجنان وهو تأويل عجيب، ومثله ما أخرجه أبو الشيخ في العظمة عن قتادة أن معنى كونه من الجن أنه أجن عن طاعة الله تعالى أي ستر ومنع، ورواية الكثير عنه أنه قائل بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: هو من الملائكة ومعنى كانَ مِنَ الْجِنِّ صار منهم بالمسخ، وقيل: معنى ذلك أنه عد منهم لموافقته إياهم في المعصية حيث إنهم كانوا من قبل عاصين فبعثت طائفة من الملائكة عليهم السلام لقتالهم، وأنت تعلم أنه يشق الجواب على من ادعى أن إبليس من الملائكة مع دعواه عصمتهم، ولا بد أن يرتكب خلاف الظاهر في هذه الآية، نعم مسألة عصمتهم عليهم السلام خلافية ولا قاطع في العصمة كما قال العلامة التفتازاني. وقد ذكر القاضي عياض أن طائفة ذهبوا إلى عصمة الرسل منهم والمقربين عليهم السلام ولم يقولوا بعصمة غيرهم، وإذا ذهب مدعي كون إبليس من الملائكة إلى هذا لم يتخلص من الاعتراض إلا بزعم أنه لم يكن من المقربين ولا تساعده الآثار على ذلك، ويبقى عليه أيضا أن الآية تأبى مدعاه، وكذا لو ذهب إلى ما نقل عن بعض الصوفية من أن ملائكة الأرض لم يكونوا معصومين وكان إبليس عليه اللعنة منهم فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي فخرج عن طاعته سبحانه كما قال الفراء، وأصله من فسق الرطب إذا خرج عن قشره، وسموا الفأرة فاسقة لخروجها من جحرها من البابين ولهذا عدي بعن كما في قول رؤبة:

يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا
والظاهر أن الفسق بهذا المعنى مما تكلمت به العرب من قبل، وقال أبو عبيدة: لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكم به العرب بعد نزول القرآن، ووافقه المبرد على ذلك فقال: الأمر على ما ذكره أبو عبيدة، وهي كلمة فصيحة على ألسنة العرب، وكأن ما ذكره الفراء بيان لحاصل المعنى إذ ليس الأمر بمعنى الطاعة أصلا بل هو إما بمعنى المأمور به وهو السجود وخروجه عنه بمعنى عدم اتصافه به، وإما قوله تعالى: اسْجُدُوا وخروجه عنه مخالفته له، وكون حاصل المعنى ذلك على المعنيين ظاهر، وقيل: عَنْ للسببية كما في قولهم كسوته عن عري وأطعمته عن جوع أي فصار فاسقا كافرا بسبب أمر الله تعالى الملائكة المعدود هو في عدادهم إذ لولا ذلك الأمر ما

صفحة رقم 277

تحقق إباء. وإلى ذلك ذهب قطرب إلا أنه قال: أي ففسق عن رده أمر ربه، ويحتمل أن يكون تقدير معنى وأن يكون تقدير إعراب وجوز على تقدير السببية أن يراد بالأمر المشيئة أي ففسق بسبب مشيئة الله تعالى فسقه ولولا ذلك لأطاع. والأظهر ما ذكر أولا، والفاء سببية عطفت ما بعدها على قوله تعالى «كان من الجن» وأفادت تسبب فسقه عن كونه من الجن إذ شأنهم التمرد لكدورة مادتهم وخباثة ذاتهم والذي خبث لا يخرج إلا نكدا وإن كان منهم من أطاع وآمن، وجوز أن يكون العطف على ما يفهم من الاستثناء كأنه قيل: فسجدوا إلا إبليس أبى عن السجود ففسق، وتفيد حينئذ تسبب فسقه عن إبائه وتركه السجود. وقيل: إنها هنا غير عاطفة إذ لا يصح تعليل ترك السجود وإبائه عنه بفسقه عن أمر ربه تعالى. قول الرضي: والفاء التي لغير العطف وهي التي تسمى فاء السببية لا تخلو أيضا من معنى الترتيب وتختص بالجمل وتدخل على ما هو جزاء مع تقدم كلمة الشرط وبدونها انتهى. وليس بشيء لأنه يكفي لصحة ترتب الثاني تسببه كما في فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [القصص: ١٥] كما صرح به في التسهيل وهنا كذلك، والتعرض لعنوان الربوبية المنافية للفسق لبيان قبح ما فعله، والمراد من الأمر بذكر وقت القصة ذكر القصة نفسها لما فيها من تشديد النكير على المتكبرين المفتخرين بأنسابهم وأموالهم المستنكفين عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين ببيان أن ذلك من صنع إبليس وأنهم في ذلك تابعون لتسويله كما ينبىء عنه ما يأتي إن شاء الله تعالى، ومنه يعلم وجه الربط، وجوز أن يكون وجهه أنه تعالى لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان زهدهم سبحانه أولا بزخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال وشيكة الانتقال والباقيات الصالحات خير ثوابا وأحسن أملا من أنفسها وأعلاها ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة، واختار أبو حيان في وجهه أنه سبحانه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المجرمين مما سطر في كتبهم وكان إبليس اللعين هو الذي حملهم على المعاصي واتخاذ الشركاء ناسب ذكر إبليس والتنفير عنه تبعيدا عن المعاصي وعن امتثال ما يوسوس به ويدعو إليه. وأيّا ما كان فلا يعد ذكر هذه القصة هنا مع ذكرها قبل تكرارا لأن ذكرها هنا لفائدة غير الفائدة التي ذكرت لها فيما قبل وهكذا ذكرها في كل موضع ذكرت فيه من الكتاب الجليل. ومثل هذا يقال في كل ما هو تكرار بحسب الظاهر فيه.
ولا يخفى أن أكثر المكررات ظاهرا مختلفة الأساليب متفاوتة الألفاظ والعبارات وفي ذلك من الأسرار الإلهية ما فيه فلا يستزلنك الشيطان.
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي الهمزة للإنكار والتعجيب والفاء للتعقيب، والمراد إما إنكار أن يعقب اتخاذه وذريته أولياء العلم بصدور ما صدر منه مع التعجب من ذلك، وإما تعقيب إنكار الاتخاذ المذكور والتعجيب منه إعلام الله تعالى بقبح صنيع اللعين فتأمل، والظاهر أن المراد من الذرية الأولاد فتكون الآية دالة على أن له أولادا وبذلك قال جماعة،
وقد روي عن ابن زيد أن الله تعالى قال لإبليس: إني لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها فليس يولد لآدم ولد إلا ولد معه شيطان يقرن به
، وعن قتادة أنه قال: إنه ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم. وذكر في البحر أن من القائلين بذلك أيضا الضحاك والأعمش والشعبي.
ونقل عن الشعبي أنه قال: لا تكون ذرية إلا من زوجة فيكون قائلا بالزوجة، والذي في الدر المنثور برواية ابن المنذر عنه أنه سئل عن إبليس هل له زوجة؟ فقال: إن ذلك لعرس ما سمعت به، وأخرج ابن أبي الدنيا في المكائد وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: ولد إبليس خمسة ثبر وهو صاحب المصائب والأعور وداسم لا أدري ما يعملان ومسوط وهو صاحب الصخب وزلبنور وهو الذي يفرق بين الناس ويبصر الرجل عيوب أهله.
وفي رواية أخرى عنه أن الأعور صاحب الزنا ومسوط صاحب أخبار الكذب يلقيها على أفواه الناس ولا يجدون

صفحة رقم 278

لها أصلا وراسم صاحب البيوت إذا دخل الرجل بيته ولم يسم دخل معه وإذا أكل ولم يسم أكل معه وزلبنور صاحب الأسواق وكان هؤلاء الخمسة من خمس بيضات باضها اللعين، وقيل إنه عليه اللعنة يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن جميع ذريته من خمس بيضات باضها قال:
وبلغني أنه يجتمع على مؤمن واحد أكثر من ربيعة ومضر والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار، وقال بعضهم: لا ولد له، والمراد من الذرية الأتباع من الشياطين، وعبر عنهم بذلك مجازا تشبيها لهم بالأولاد، وقيل ولعله الحق إن له أولادا وأتباعا، ويجوز أن يراد من الذرية مجموعها معا على التغليب أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يراه أو عموم المجاز.
وقد جاء في بعض الأخبار أن ممن ينسب إليه بالولاد من آمن بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو هامة رضي الله تعالى عنه وسبحان من يخرج الحي من الميت، ولا يلزمنا أن نعلم كيفية ولادته فكثير من الأشياء مجهول الكيفية عندنا ونقول به فليكن من هذا القبيل إذا صح الخبر فيه.
واستدل ما في ملكيته بظاهر الآية حيث أفادت أنه له ذرية والملائكة ليس لهم ذلك. ولمدعيها أن يقول: بعد تسليم حمل الذرية على الأولاد. إنه بعد أن عصى مسخ وخرج عن الملكية فصار له أولاد ولم تفد الآية أن له أولادا قبل العصيان والاستدلال بها لا يتم إلا بذلك، وقوله تعالى: مِنْ دُونِي في موضع الحال أي أفتتخذونهم أولياء مجاوزين عني إليهم وتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي وَهُمْ أي والحال أن إبليس وذريته لَكُمْ عَدُوٌّ أي أعداء كما في قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء: ٧٧] وقوله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون:
٤] وإنما فعل به ذلك تشبيها بالمصادر نحو القبول والولوع، وتقييد الاتخاذ بالجملة الحالية لتأكيد الإنكار وتشديده فإن مضمونها مانع من وقوع الاتخاذ ومناف له قطعا:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بد
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ الواضعين للشيء في غير موضعه بَدَلًا أي من الله سبحانه، وهو نصب على التمييز وفاعل بِئْسَ ضمير مستتر يفسره هو والمخصوص بالذم محذوف أي بئس البدل من الله تعالى للظالمين إبليس وذريته، وفي الالتفات إلى الغيبة مع وضع الظالمين موضع ضمير المخاطبين من الإيذان بكمال السخط والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح ما لا يخفى.
ما أَشْهَدْتُهُمْ استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق إبليس وذريته للاتخاذ المذكور في أنفسهم بعد بيان الصوارف عن ذلك من خباثة الأصل والفسق والعداوة أي ما أحضرت إبليس وذريته.
خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حيث خلقتهما قبل خلقهم وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩] فكلا ضميري الجمع المنصوب والمجرور عائد على إبليس وذريته وهم المراد بالمضلين في قوله تعالى: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وإنما وضع ذلك موضع ضميرهم ذما لهم وتسجيلا عليهم بالإضلال وتأكيدا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء، والعضد في الأصل ما بين المرفق إلى الكتف ويستعار للمعين كاليد وهو المراد هنا ولكونه نكرة في سياق النفي عم، وفسر بالجمع والإفراد لرؤوس الآي، وقيل إنما لم يجمع لأن الجميع في حكم الواحد في عدم الصلاحية للاعتضاد أي وما كنت متخذهم أعوانا في شأن الخلق أو في شأن من شؤوني حتى يتوهم شركتهم في التولي فضلا عن الاستبدال الذي لزم فعلهم بناء على الشركة في بعض أحكام الربوبية، وإرجاع ضمير أَنْفُسِهِمْ إلى إبليس وذريته قد قال به كل من ذهب إلى إرجاع ضمير

صفحة رقم 279

أَشْهَدْتُهُمْ إليهم، وعلل ذلك العلامة شيخ الإسلام بقوله حذرا من تفكيك الضميرين ومحافظة على ظاهر لفظ الأنفس ثم قال: ولك أن ترجع الضمير الثاني إلى الظالمين ويلتزم التفكيك بناء على عود المعنى إليه فإن نفي إشهاد الشياطين الذين يتولونهم هو الذي يدور عليه إنكار اتخاذهم أولياء بناء على أن أدنى ما يصحح التولي حضور الولي خلق المتولي وحيث لا حصول لا مصحح للتولي قطعا، وأما إشهاد بعض الشياطين خلق بعض منهم فليس من مداراته الإنكار المذكور في شيء على أن إشهاد بعضهم خلق بعض إن كان مصححا لتولي الشاهد بناء على دلالته على كماله باعتبار أن له مدخلا في خلق المشهود في الجملة فهو مخل بتولي المشهود بناء على قصوره عمن شهد خلقه فلا يكون نفي الإشهاد المذكور متمحضا في نفي الكمال المصحح للتولي عن الكل وهو المناط للإنكار المذكور.
وفي الآية تهكم بالكفار وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على البله والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به، وإيثار نفي الإشهاد على نفي شهودهم ونفي اتخاذهم أعوانا على نفي كونهم كذلك للإشعار بأنهم مقهورون تحت قدرته تعالى تابعون لمشيئته سبحانه وإرادته عز وجل بمعزل من استحقاق الشهود والمعونة من تلقاء أنفسهم من غير إحضار واتخاذ وإنما قصارى ما يتوهم فيهم أن يبلغوا ذلك المبلغ بأمر الله جل جلاله ولم يكد ذلك يكون اه.
وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق لكن قيل عليه يجوز أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلها وكثيرا ما يراد منهما ذلك فيدخل فيه الكفار فتفيد الآية نفي إشهاد الشياطين خلقهم الذي من مداراته الإنكار المذكور من غير حاجة إلى التزام التفكيك الذي هو خلاف المتبادر، وظاهر كلامه وكذا كلام كثير حمل الإشهاد المنفي على حقيقته.
وجوز أن يراد به المشاورة مجازا وهو الذي يقتضيه ظاهر ما في البحر ولا مانع على هذا أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلهما فكأنه قيل ما شاورتهم في خلق أحد لا الكفار ولا غيرهم فما بال هؤلاء الكفار يتولونهم وأدنى ما يصحح التولي كون الولي ممن يشاور في أمر المتولي أو أمر غيره ويكون نفي اتخاذهم أعوانا مطلقا في شيء من الأشياء بعد نفي مشاورتهم في الخلق ليؤدي الكلام ظاهرا عموم نفي مدخليتهم بوجه من الوجوه رأيا وإيجادا وغير ذلك في شيء من الأشياء، ولعل الآية حينئذ نظير قوله تعالى: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها من وجه، وقيل قد يراد من نفي الإشهاد في جانب المعطوف نفي المشاورة ومنه نفي أن يكونوا خلقوا حسب مشيئتهم ومنه نفي أن يكونوا خلقوا كاملين فإنه يقال خلق كما شاء بمعنى خلق كاملا قال الشاعر:

خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
وعلى هذا يكون في الخلق من أشهد خلق نفسه بمعنى أنه خلق كاملا، ولا يخفى ما فيه، وقد يكتفى بدلالة ذلك على أن نفي الكمال بأقل من هذه المئونة فافهم. وزعم أن الكاملين شهدوا حقيقة خلق أنفسهم بمعنى أنهم رأوا وهم أعيان ثابتة خلقهم أي إفاضة الوجود الخارجي الذي لا يتصف به المعدوم عليهم لا أرى أن كاملا يقدم عليه أو يصغي إليه، وقال الإمام بعد حكاية القول برجوع الضميرين إلى الشياطين: الأقرب عندي عودهما على الكفار الذين قالوا للرسول صلّى الله عليه وسلّم إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟، ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له لست بسلطان البلد حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها، والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات وهو في الآية- أولئك الكفار- لأنهم

صفحة رقم 280

المراد بالظالمين في قوله تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا انتهى.
وقيل المعنى على تقدير عود الضميرين على أولئك الكفرة إن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله تعالى وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء، وقيل المعنى عليه ما أشهدتهم خلق ذلك وما أطلعتهم على أسرار التكوين وما خصصتهم بخصائص لا يحويها غيرهم حتى يكونوا قدوة للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعمون فلا تلتفت إلى قولهم طمعا في نصرتهم للدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلين، ويعضده قراءة أبي جعفر والجحدري والحسن وشيبة وَما كُنْتُ بفتح التاء خطابا له صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى ما صح لك الاعتضاد بهم، ولعل وصف أولئك الظالمين بالإضلال لما أن قصدهم بطرد الفقراء تنفير الناس عنه صلّى الله عليه وسلّم وهو إضلال ظاهر وقيل كل ضال مضل لأن الإضلال إما بلسان القال أو بلسان الحال والثاني لا يخلو عنه ضال، وقيل الضميران للملائكة، والمعنى ما أشهدتهم ذلك ولا استعنت بهم في شيء بل خلقتهم ليعبدوني فكيف يعبدون، ويرده وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً إلا أن يقال: هو نفي لاتخاذ الشياطين أعوانا فيستفاد من الجملتين نفي صحة عبادة الفريقين، وقال ابن عطية:
الضميران عائدان على الكفار وعلى الناس بالجملة فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والأطباء ومن سواهم ممن يخوض خوضهم، وإلى هذا ذهب عبد الحق الصقلي وذكره بعض الأصوليين انتهى. ويقال عليه في الجملة الأخيرة نحو ما قيل فيها آنفا.
واستدل بها على أنه لا ينبغي الاستعانة بالكافر وهو في أمور الدين كجهاد الكفار وقتال أهل البغي مما ذهب إليه بعض الأئمة ولبعضهم في ذلك تفصيل، وأما الاستعانة بهم في أمور الدنيا فالذي يظهر أنه لا بأس بها سواء كانت في أمر ممتهن كنزح الكنائف أو في غيره كعمل المنابر والمحاريب والخياطة ونحوها، ولعل أفرض اليهودي أو الكلب قد مات في كلام الفاروق رضي الله تعالى عنه لعد ما استخدم فيه من الأمور الدينية أو هو مبني على اختيار تفصيل في الأمور الدنيوية أيضا.
وقد حكى الشيعة أن عليا كرم الله تعالى وجهه قال حين صمم على عزل معاوية وأشار عليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإبقائه على عمله إلى أن يستفحل أمر الخلافة: يمنعني من ذلك قوله تعالى: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً فلا أتخذ معاوية عضدا أبدا، وهو كذب لا يعتقده إلا ضال مضل.
وقرأ أبو جعفر وشيبة والسختياني وعون العقيلي وابن مقسم «ما أشهدناهم» بنون العظمة:
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «متخذا المضلين»
على اعمال اسم الفاعل وقرأ الحسن وعكرمة «عضدا» بسكون الضاد ونقل حركتها إلى العين وقرأ عيسى «عضدا» بسكون الضاد للتخفيف كما قالوا في رجل وسبع رجل وسبع بالسكون وهي لغة عن تميم، وعنه أيضا أنه قرأ بفتحتين.
وقرأ شيبة وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة والخفاف وأبي زيد «عضدا» بضمتين، وروي ذلك عن الحسن أيضا، وكذا روي عنه أيضا أنه قرأ بفتحتين، وهو على هذا إما لغة في العضد كما في البحر ولم يذكره في القاموس وإما جمع عاضد كخدم جمع خادم من عضده بمعنى قواه وأعانه فحينئذ لا استعارة. وقرأ الضحاك «عضدا» بكسر العين وفتح الضاد ولم نجد ذلك من لغاته، نعم في القاموس عد عضد ككتف منها وهو عكس هذه القراءة وَيَوْمَ يَقُولُ أي الله تعالى للكفار توبيخا وتعجيزا بواسطة أو بدونها. وقرأ الأعمش وطلحة ويحيى وابن أبي ليلى وحمزة وابن مقسم «نقول» بنون العظمة، والكلام على معنى اذكر أيضا أي واذكر يوم يقول نادُوا للشفاعة لكم شُرَكائِيَ الَّذِينَ

صفحة رقم 281

زَعَمْتُمْ
أي زعمتموهم شفعاء، والإضافة باعتبار ما كانوا يزعمون أيضا فإنهم كانوا يزعمون أنهم شركاء كما يزعمون أنهم شفعاء، وقد جوز غير واحد هنا أن يكون الكلام بتقدير زعمتموهم شركاء، والمراد بهم إبليس وذريته، وجعلهم بدلا فيما تقدم مبني على ما لزم من فعل عبدتهم المطيعين لهم فيما وسوسوا به أو كل ما عبد من دون الله تعالى.
وقرأ ابن كثير «شركاي» مقصورا مضافا إلى الياء فَدَعَوْهُمْ أي نادوهم للإغاثة، وفيه بيان بكمال اعتنائهم بإغاثتهم على طريق الشفاعة إذ معلوم أن لا طريق إلى المدافعة فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ فلم يغيثوهم إذ لا إمكان لذلك قيل وفي إيراده مع ظهوره تهكم بهم وإيذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به.
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي بين الداعين والمدعوين مَوْبِقاً اسم مكان من وبق وبوقا كوثب وثوبا أو وبق وبقا كفرح فرحا إذا هلك أي مهلكا يشتركون فيه وهو النار، وجاء عن ابن عمر وأنس ومجاهد أنه واد في جهنم يجري بدم وصديد، وعن عكرمة أنه نهر في النار يسيل نارا على حافتيه حيات أمثال البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها، وتفسير الموبق بالمهلك مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن مجاهد وغيرهما، وعن الحسن تفسيره بالعداوة فهو مصدر أطلق على سبب الهلاك وهو العداوة كما أطلق التلف على البغض المؤدي إليه في قول عمر رضي الله تعالى عنه: لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا.
وعن الربيع بن أنس تفسيره بالمحبس، ومعنى كون الموبق على سائر تفاسيره بينهم شموله لهم وكونهم مشتركين فيه كما يقال جعلت المال بين زيد وعمرو فكأنه ضمن جَعَلْنا معنى قسمنا وحينئذ لا يمكن إدخال عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام ونحوهم في الشركاء على القول الثاني.
وقال بعضهم: معنى كون الموبق أي المهلك أو المحبس بينهم أنه حاجز واقع في البين، وجعل ذلك بينهم حسما لأطماع الكفرة في أن يصل إليهم ممن دعوه للشفاعة. وجاء عن بعض من فسره بالوادي أنه يفرق الله تعالى به بين أهل الهدى وأهل الضلالة، وعلى هذا لا مانع من شمول المعنى الثاني للشركاء لأولئك الأجلة.
وقال الثعالبي في فقه اللغة: الموبق بمعنى البرزخ البعيد على أن وبق بمعنى هلك أيضا أي جعلنا بينهم أمدا بعيدا يهلك فيه الأشواط لفرط بعده، وعليه أيضا يجوز الشمول المذكور لأن أولئك الكرام عليهم السلام في أعلى الجنان وهؤلاء اللئام في قعر النيران، ولا يخفى على من له أدنى تأمل الحال فيما إذا أريد بالموبق العداوة.
وبَيْنَهُمْ على جميع ما ذكر ظرف وهو مفعول ثان لجعل إن جعل بمعنى صير ومَوْبِقاً مفعوله الأول، وإن جعل بمعنى خلق كان الظرف متعلقا به أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله قدم عليه لرعاية الفواصل فتحول حالا.
وقال الفراء والسيرافي: البين هنا بمعنى الوصل فإنه يكون بمعناه كما يكون بمعنى الفراق وهو مفعول أول لجعلنا ومَوْبِقاً بمعنى هلاكا مفعوله الثاني، والمعنى جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة.
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ وضع المظهر في مقام المضمر تصريحا بإجرامهم وذما لهم بذلك. والرؤية بصرية،
وجاء عن أبي سعيد الخدري كما أخرجه عنه أحمد وابن جرير والحاكم وصححه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الكافر ليرى جهنم من مسير أربعين سنة
فَظَنُّوا أي علموا كما أخرجه عبد الرزاق، وجماعة عن قتادة، وهو الظاهر من حالهم بعد قول الله تعالى ذلك واستغاثتهم بشركائهم وعدم استجابتهم لهم وجعل الموبق بينهم.
وقيل الظن على ظاهره وهم لم يتيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي مخالطوها واقعون فيها لعدم يأسهم من رحمة الله تعالى قبل دخولهم فيها، وقيل إنهم لما رأوها من بعيد كما سمعت في الحديث ظنوا أنها تخطفهم في الحال فإن اسم

صفحة رقم 282

الفاعل موضوع للحال فالمتيقن أصل الدخول والمظنون الدخول حالا وفي مصحف عبد الله «ملاقوها» وكذلك قرأ الأعمش وابن غزوان عن طلحة، واختير جعلها تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف، وعن علقمة أنه قرأ «ملافّوها» بالفاء مشددة من لف الشيء وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي مكانا ينصرفون إليها.
قال أبو كبير الهذلي:

أزهير هل عن شيبة بن مصرف أم لا خلود لباذل متكلف
فهو اسم مكان، وجوز أن يكون اسم زمان، وكذا جوز أبو البقاء وتبعه غيره أن يكون مصدرا أي انصرافا، وفي الدر المصون أنه سهو فإنه جعل مفعل بكسر العين مصدرا من صحيح مضارعه يفعل بالكسر وقد نصوا على أن مصدره مفتوح العين لا غير واسم زمانه ومكان مكسورها، نعم إن القول بأنه مصدر مقبول في قراءة زيد بن على رضي الله تعالى عنهما «مصرفا» بفتح الراء وَلَقَدْ صَرَّفْنا كررنا وأوردنا على وجوه كثيرة من النظم فِي هذَا الْقُرْآنِ الجليل الشأن لِلنَّاسِ لمصلحتهم ومنفعتهم مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي كل مثل على أن- من- سيف خطيب على رأي الأخفش والمجرور مفعول صَرَّفْنا أو مثلا من كل مثل على أن من أصلية والمفعول موصوف الجار والمجرور المحذوف، وقيل المفعول مضمون مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي بعض كل جنس مثل، وأيّا ما كان فالمراد من المثل إما معناه المشهور أو الصفة الغريبة التي هي في الحسن واستجلاب النفس كالمثل، والمراد أنه تعالى نوع ضرب الأمثال وذكر الصفات الغريبة وذكر من كل جنس محتاج إليه داع إلى الإيمان نافع لهم مثلا لا أنه سبحانه ذكر جميع أفراد الأمثال، وكأن في الآية حذفا أو هي على معنى ولقد فعلنا ذلك ليقبلوا فلم يفعلوا.
وَكانَ الْإِنْسانُ بحسب جبلته أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل، وهو كما قال الراغب وغيره المنازعة بمفاوضة القول، والأليق بالمقام أن يراد به هنا الخصومة بالباطل والمماراة وهو الأكثر في الاستعمال. وذكر غير واحد أنه مأخوذ من الجدل وهو الفتل والمجادلة الملاواة لأن كلا من المتجادلين يلتوي على صاحبه، وانتصابه على التمييز، والمعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل وعلل بسعة مضطربه فإنه بين أوج الملكية وحضيض البهيمية فليس له في جانبي التصاعد والتسفل مقام معلوم.
والظاهر أنه ليس المراد إنسانا معينا، وقيل المراد به النضر بن الحارث، وقيل ابن الزبعرى، وقال ابن السائب:
أبي بن خلف وكان جداله في البعث حين أتي بعظم قد رم فقال: أيقدر الله تعالى على إعادة هذا وفته بيده؟ والأول أولى، ويؤيده ما
أخرجه الشيخان وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طرقه وفاطمة ليلا فقال: ألا تصليان فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله تعالى إن شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا ثم سمعته يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا
فإنه ظاهر في حمل الإنسان على العموم، ولا شبهة في صحة الحديث إلا أن فيه إشكالا يعرف بالتأمل، ولا يدفعه ما ذكره النووي حيث قال: المختار في معناه أنه صلّى الله عليه وسلّم تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا ولهذا ضرب فخذه، وقيل قال صلّى الله عليه وسلّم ذلك تسليما لعذرهما وإنه لا عتب اه فتأمل وَما مَنَعَ النَّاسَ قال ابن عطية وغيره: المراد بهم كفار قريش الذين حكيت أباطيلهم، وما نافية.
وزعم بعضهم وهو من الغرابة بمكان أنها استفهامية أي أي شيء منعهم أَنْ يُؤْمِنُوا أي من إيمانهم بالله تعالى وترك ما هم فيه من الإشراك إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي القرآن العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبة له أو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإطلاق الهدى على كل للمبالغة وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ بالتوبة عما فرط منهم من أنواع الذنوب التي من جملتها مجادلتهم الحق بالباطل، وفائدة ذكر هذا بعد الإيمان التعميم على ما قيل.

صفحة رقم 283

واستدل به من زعم أن الإيمان إذا لم ينضم إليه الاستغفار لا يجب ما قبله وهو خلاف ما اقتضته الظواهر.
وقال بعضهم: لا شك أن الإيمان مع الاستغفار أكمل من الإيمان وحده فذكر معه لتفيد الآية ما منعهم من الاتصاف بأكمل ما يراد منهم، ولا يخفى أنه ليس بشيء، وقيل ذكر الاستغفار بعد الإيمان لتأكيد أن المراد منه الإيمان الذي لا يشوبه نفاق فكأنه قيل ما منعهم أن يؤمنوا إيمانا حقيقيا إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وهم من أهلك من الأمم السالفة، وإضافة السنة إليهم قيل لكونها جارية عليهم وهي في الحقيقة سنة الله تعالى فيهم، والمراد بها الإهلاك بعذاب الاستئصال، وإذا فسرت السنة بالهلاك لم تحتج لما ذكر، وأن وما بعدها في تأويل المصدر وهو فاعل مَنَعَ والكلام بتقدير مضاف أي ما منعهم من ذلك إلا طلب الهلاك في الدنيا قاله الزجاج، وجوز صاحب الفينان تقدير انتظار أي ما منعهم إلا انتظار الهلاك، وقدر الواحدي تقدير أي ما منعهم إلا تقدير الله تعالى إتيان الهلاك عليهم، وقال:
إن الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين، ويأباه بحسب الظاهر كون السورة مكية إلا ما استثني، والداعي لتقدير المضاف أنه لو كان المانع من إيمانهم واستغفارهم نفس إتيان الهلاك كانوا معذورين وأن عذاب الآخرة المعد للكفار المراد من قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا منتظر قطعا، يميل لأن زمان إتيان العذاب متأخر عن الزمان الذي اعتبر لإيمانهم واستغفارهم فلا يتأتى ما نعيته منهما.
واعترض تقدير الطلب بأن طلبهم سنة الأولين لعدم إيمانهم وهو لمنعهم عن الإيمان فلو كان منعهم للطلب لزم الدور. ودفع بأن المراد بالطلب سببه وهو تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم طالبين للعذاب بمثل قولهم: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: ٣٢] إلخ. وتعقب بأن فيهم من ينكر حقية الإسلام كما أن فيهم المعاند، ولا يظهر وجه كون الطلب ناشئا عن إنكار الحقية وكذا لا يظهر كونه ناشئا عن العناد واعترض أيضا بأن عدم الإيمان متقدم على الطلب مستمر فلا يكون الطلب مانعا.
وأجيب بأن المتقدم على الطلب هو عدم الإيمان السابق وليس الطلب بمانع منه بل هو مانع مما تحقق بعد وهو كما ترى، وقيل المراد من الطلب الطلب الصوري اللساني لا الحقيقي القلبي فإن من له أدنى عقل لا يطلب الهلاك والعذاب طلبا حقيقيا قلبيا ومن الطلب الصوري منشؤه وما هو دليل عليه وهو تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم بما أوعد به من العذاب والهلاك من لم يؤمن بالله عز وجل فكأنه قيل ما منعهم من الإيمان بالله تعالى الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام إلا تكذيبهم إياه بما أوعده على تركه، ولا يخلو عن دغدغة.
وقيل الحق أن الآية على تقدير الطلب من قولك لمن يعصيك أنت تريد أن أضربك وهو على تنزيل الاستحقاق منزلة الطلب فكأنه قيل ما منعهم من ذلك إلا استحقاق الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي. وتعقب بأن عدم الإيمان والاتصاف بالكفر سبب للاستحقاق المذكور فيكون متقدما عليه ومتى كان الاستحقاق مانعا منه انعكس أمر التقدم والتأخر فيلزم اتصاف الواحد بالشخص بالتقدم والتأخر وأنه باطل. وأجيب بمنع كون عدم الإيمان سببا للاستحقاق في الحقيقة وإنما هو سبب صوري والسبب الحقيقي سوء استعداداتهم وخباثة ماهياتهم في نفس الأمر، وهذا كما أنه سبب للاستحقاق كذلك هو سبب للاتصاف بالكفر، وإن شئت فقل: هو مانع من الإيمان، ومن هنا قيل إن المراد من الطلب الطلب بلسان الاستعداد وإن مآل الآية ما منعهم من ذلك إلا استعداداتهم وطلب ماهياتهم لضده، وذلك لأن طلب استعداداتهم للهلاك أو العذاب المترتب على الضد استعداد للضد وطلب له، وربما يقال بناء على هذا إن المفهوم من الآيات أن الكفار لو لم يأتهم رسول ينبههم من سنة الغفلة يحتجون لو عذبوا بعدم إتيانه فيقولون منعنا من الإيمان أنه لم يأتنا رسول ومآله منعنا من ذلك الغفلة ولا يجدون حجة أبلغ من ذلك وأنفع في الخلاص، وأما سوء الاستعداد وخباثة

صفحة رقم 284

الذات فبمراحل من أن يحتجوا به ويجعلوه مانعا فلا بعد في أن يقدر الطلب ويراد منه ظاهره وتكون الآية من قبيل قوله:
ولا عيب فيهم البيت. والمراد نفى أن يكون لهم مانع من الإيمان والاستغفار بعد مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلّم يصلح أن يكون حجة لهم أصلا كأنه قيل لا مانع لهم من أن يؤمنوا أو يستغفروا ربهم ولا حجة بعد مجيء الرسول الذي بلغ ما بلغ من الهدى إلا طلب ما أوعدوا به من إتيان الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي حيث إن ذلك على فرض تحققه منهم لا يصلح للمانعية والحجية لم يبق مانع وحجة عندهم أصلا انتهى.
ولا يخفى أنه بعد الإغضاء عما يرد عليه بعيد وإنكار ذلك مكابرة، والأولى تقدير التقدير وهو مانع بلا شبهة إلا أن القائلين بالاستعداد حسبما تعلم يجعلون منشأه الاستعداد، وفي معناه تقدير الإرادة أي إرادته تعالى وعليه اقتصر العز ابن عبد السلام، ودفع التنافي بين الحصر المستفاد من هذه الآية والحصر المستفاد من قوله تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: ٩٤] بأن الحصر الأول في المانع الحقيقي فإن إرادة الله تعالى هي المانعة على الحقيقة والثاني في المانع العادي وهو استغراب بعث بشر رسول لأن المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا استغراب ذلك، وقد تقدم في الإسراء ما ينفعك في الجمع بين الحصرين فتذكر فما في العهد من قدم وادعى الإمام تعدد الموانع وأن المراد من الآية فقدان نوع منها فقال: قال الأصحاب إن العلم بعدم إيمانهم مضاد لوجود إيمانهم فإذا كان ذلك العلم قائما كان المانع قائما، وأيضا حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما حصل لأن حصول الفعل الاختياري بدون الداعي محال ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان فلا بد أن يقال: المراد فقدان الموانع المحسوسة انتهى فليتأمل فيه.
والقبل بضمتين جمع قبيل وهو النوع أي أو يأتيهم العذاب أنواعا وألوانا أو هو بمعنى قبلا بكسر القاف وفتح الباء كما قرأ به غير واحد أي عيانا فإن أبا عبيدة حكاهما معا بهذا المعنى وأصله بمعنى المقابلة فإذا دل على المعاينة، ونصبه على الحال فإن كان حالا من الضمير المفعول فمعناه معاينين بكسر الياء أو بفتحها أو معاينين للناس ليفتضحوا، وإن كان من العذاب فمعناه معاينا لهم أو للناس. وقرأت طائفة «قبلا» بكسر القاف وسكون الباء وهو كما في البحر تخفيف قبل على لغة تميم. وذكر ابن قتيبة والزمخشري أنه قرئ «قبلا» بفتحتين أي مستقبلا. وقرأ أبي بن كعب وابن غزوان عن طلحة «قبيلا» بقاف مفتوحة وباء مكسورة بعدها ياء ساكنة أي عيانا ومقابلة وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلى الأمم متلبسين بحال من الأحوال إِلَّا حال كونهم مُبَشِّرِينَ للمؤمنين بالثواب وَمُنْذِرِينَ للكفرة والعصاة بالعقاب ولم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد ظهور المعجزات ويعاملوا بما لا يليق بشأنهم وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ باقتراح ذلك والسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها تعنتا وقولهم لهم ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [يس: ١٥] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: ٢٤] إلى غير ذلك، وتقييد الجدال بالباطل لبيان المذموم منه فإنه كما مر غير بعيد عام لغة لا خاص بالباطل ليحمل ما ذكر على التجريد، والمراد به هنا معناه اللغوي وما يطلق عليه اصطلاحا مما يصدق عليه ذلك لِيُدْحِضُوا أي ليزيلوا ويبطلوا بِهِ أي بالجدال الْحَقَّ الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، وأصل الإدحاض الإزلاق والدحض الطين الذي يزلق فيه قال الشاعر:

وردت ونجى اليشكري حذاره وحاد كما حاد البعير عن الدحض
وقال آخر:

صفحة رقم 285

أبا منذر رمت الوفاء وهبته... وحدت كما حاد البعير المدحض
واستعماله في إزالة الحق قيل من استعمال ما وضع للمحسوس في المعقول، وقيل لك أن تقول فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره كقول الخفاجي:
أتانا بوحل لأفكاره... ليزلق أقدام هدى الحجج
وَاتَّخَذُوا آياتِي التي أيدت بها الرسل سواء كانت قولا أو فعلا وَما أُنْذِرُوا أي والذي أنذروه من القوارع الناعية عليهم العقاب والعذاب أو إنذارهم هُزُواً أي استهزاء وسخرية.
وقرأ حمزة «هزأ» بالسكون مهموزا وقرأ غيره وغير حفص من السبعة بضمتين مهموزا وهو مصدر وصف به للمبالغة وقد يؤول بما يستهزأ به وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ الأكثرون على أن المراد بها القرآن العظيم لمكان أَنْ يَفْقَهُوهُ فالإضافة للعهد.
وجوز أن يراد بها جنس الآيات ويدخل القرآن العظيم دخولا أوليا، والاستفهام إنكاري في قوة النفي، وحقق غير واحد أن المراد نفى أن يساوي أحد في الظلم من وعظ بآيات الله تعالى فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتدبرها ولم يتعظ بها، ودلالة ما ذكر على هذا بطريق الكناية وبناء الأظلمية على ما في حيز الصلة من الإعراض للإشعار بأن ظلم من يجادل في الآيات ويتخذها هزوا خارج عن الحد وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي عمله من الكفر والمعاصي التي من جملتها المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق، ونسيان ذلك كناية عن عدم التفكر في عواقبه، والمراد مِمَّنْ عند الأكثرين مشركو مكة.
وجوز أن يكون المراد منه المتصف بما في حيز الصلة كائنا من كان ويدخل فيه مشركو مكة دخولا أوليا، والضمير في قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ لهم على الوجهين، ووجه الجمع ظاهر، والجملة استئناف بياني كأنه قيل ما علة الإعراض والنسيان؟ فقيل علته أنا جعلنا على قلوبهم أَكِنَّةً أي أغطية جمع كنان، والتنوين على ما يشير إليه كلام البعض للتكثير أَنْ يَفْقَهُوهُ الضمير المنصوب عند الأكثرين للآيات، وتذكيره وإفراده باعتبار المعنى المراد منها وهو القرآن.
وجوز أن يكون للقرآن لا باعتبار أنه المراد من الآيات وفي الكلام حذف والتقدير كراهة أن يفقهوه، وقيل لئلا يفقهوه أي فقها نافعا وَفِي آذانِهِمْ أي وجعلنا فيها وَقْراً نقلا أن يسمعوه سماعا كذلك وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي مدة التكليف كلها، وإِذاً جزاء وجواب كما حقق المراد منه في موضعه فتدل على نفي اهتدائهم لدعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول عليه الصلاة والسلام على تقدير قوله صلّى الله عليه وسلّم ما لي لا أدعوهم حرصا على اهتدائهم وإن ذكر له صلّى الله عليه وسلّم من أمرهم ما ذكر رجاء أن تنكشف تلك الأكنة وتمزق بيد الدعوة فقيل وإن تدعهم إلخ قاله الزمخشري. وفي الكشف في بيان ذلك أما الدلالة فصريح تخلل إِذاً يدل على ذلك لأن المعنى إذن لو دعوت وهو من التعكيس بلا تعسف، وأما أنه جواب على الوجه المذكور فمعناه أنه صلّى الله عليه وسلّم نزل منزلة السائل مبالغة في عدم الاهتداء المرتب على كونهم مطبوعا على قلوبهم فلا ينافي ما آثروه من أنه على تقدير سؤال لم لم يهتدوا؟ فإن السؤال على هذا الوجه أوقع اه، وهو كلام نفيس به ينكشف الغطا ويؤمن من تقليد الخطأ ويستغني به المتأمل عما قيل: إن تقدير ما لي لا أدعوهم يقتضي المنع من دعوتهم فكأنه أخذ من مثل قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النجم: ٢٩] وقيل أخذ من قوله تعالى عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وقيل من قوله سبحانه «إن تدعهم» هذا ولا يخفى عليك المراد من الهدى وقد يراد منه القرآن فيكون من إقامة الظاهر مقام الضمير، ولعل إرادة ذلك هنا ترجح إرادة القرآن في الهدى السابق، والله

صفحة رقم 286

تعالى أعلم. والآية في أناس علم الله تعالى موافاتهم على الكفر من مشركي مكة حين نزولها فلا ينافي الأخبار بالطبع وأنهم لا يؤمنون تحقيقا ولا تقليدا إيمان بعض المشركين بعد النزول، واحتمال أن المراد جميع المشركين على معنى وإن تدعهم إلى الهدى جميعا فلن يهتدوا جميعا وإنما يهتدي بعضهم كما ترى. واستدلت الجبرية بهذه الآية على مذهبهم والقدرية بالآية التي قبلها، قال الإمام: وقل ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر وما ذلك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله تعالى على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين.
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ مبتدأ وخبر وقوله تعالى ذُو الرَّحْمَةِ أي صاحبها والموصوف بها خبر بعد خبر، قال الإمام: وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار والرحمة إيصال النفع وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول لأنه ترك مضار لا نهاية لها ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال.
وتعقبه النيسابوري بأنه فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله تعالى: ذُو الرَّحْمَةِ لا يخلو عن مبالغة وفي القرآن غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: ١٧٣ وغيرها] بالمبالغة في الجانبين كثيرا وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي نظر لأن مقدراته تعالى متناهية لا فرق بين المتروك وغيره اه، وقيل عليه إنهم فسروا الغفار بمريد إزالة العقوبة عن مستحقها والرحيم بمريد الأنعام على الخلق وقصد المبالغة من جهة في مقام لا ينافي تركها في آخر لعدم اقتضائه لها، وقد صرحوا بأن مقدوراته تعالى غير متناهية وما دخل منها في الوجود متناه ببرهان التطبيق اه، وهو كلام حسن اندفع به ما أورد على الإمام. وزعمت الفلاسفة أن ما دخل في الوجود من المقدورات غير متناه أيضا ولا يجري فيه برهان التطبيق عندهم لاشتراطهم الاجتماع والترتب، ولعمري لقد قف شعري من ظاهر قول النيسابوري إن مقدوراته تعالى متناهية فإن ظاهره التعجيز تعالى الله سبحانه عما يقوله الظالمون علوا كبيرا ولكن يدفع بالعناية فتدبر، ثم إن تحرير نكتة التفرقة بين الخبرين هاهنا على ما قاله الخفاجي إن المذكور بعد عدم مؤاخذتهم بما كسبوا من الجرم العظيم وهو مغفرة عظيمة وترك التعجيل رحمة منه تعالى سابقة على غضبه لكنه لم يرد سبحانه إتمام رحمته عليهم وبلوغها الغاية إذ لو أراد جل شأنه ذلك لهداهم وسلمهم من العذاب رأسا، وهذه النكتة لا تتوقف على حديث التناهي وعدم التناهي الذي ذكره الإمام وإن كان صحيحا في نفسه كما قيل، والاعتراض عليه بأنه يقتضي عدم تناهي المتعلقات في كل ما نسب إليه تعالى بصيغ المبالغة وليس بلازم إذ يمكن أن تعتبر المبالغة في المتناهي بزيادة الكمية وقوة الكيفية ولو سلم ما ذكر لزم عدم صحة صيغ المبالغة في الأمور الثبوتية كرحيم ورحمن ولا وجه له مدفوع بأن ما ذكره نكتة لوقوع التفرقة بين الأمرين هنا بأنه اعتبرت المبالغة في جانب الترك دون مقابله لأن الترك عدمي يجوز فيه عدم التناهي بخلاف الآخر ألا ترى أن ترك عذابهم دال على ترك جميع أنواع العقوبات في العاجل وإن كانت غير متناهية كذا قيل وفيه نظر.
وربما يقال في توجيه ما قاله النيسابوري من أن ذو الرحمة لا يخلو عن المبالغة: إن ذلك إما لاقتران الرحمة بأل فتقيد الرحمة الكاملة أو الرحمة المعهودة التي وسعت كل شيء. وإما لذو فإن دلالته على الاتصاف في مثل هذا التركيب فوق دلالة المشتقات عليه ولا يكاد يدل سبحانه على اتصافه تعالى بصفة بهذه الدلالة إلا وتلك الصفة مرادة على الوجه الأبلغ وإلا فما الفائدة في العدول عن المشتق الأخصر الدال على أصل الاتصاف كالراحم مثلا إلى ذلك، ولا يعكر على هذا أن المبالغة لو كانت مرادة فلم عدل عن الأخصر أيضا المفيد لها كالرحيم أو الرحمن إلى ما ذكر لجواز أن يقال: إنه أريد أن لا تقيد الرحمة المبالغ فيها بكونها في الدنيا أو في الآخرة وهذان الاسمان يفيدان التقييد على المشهور ولذا عدل عنهما إلى ذو الرحمة، وإذا قلت: هما مثله في عدم التقييد قيل: إن دلالته على المبالغة أقوى

صفحة رقم 287

من دلالتهما عليها بأن يدعى أن تلك الدلالة بواسطة أمرين لا يعدلهما في قوة الدلالة ما يتوسط في دلالة الاسمين الجليلين عليها، وعلى هذا يكون ذو الرحمة أبلغ من كل واحد من الرحمن والرحيم وإن كانا معا أبلغ منه ولذا جيء بهما في البسملة دونه، ومن أنصف لم يشك في أن قولك فلان ذو العلم أبلغ من قولك فلان العليم من حيث إن الأول يفيد أنه صاحب ماهية العلم ومالكها ولا كذلك الأخيران، وحينئذ يكون التفاوت بين الخبرين في الآية بأبلغية الثاني ووجه ذلك ظاهر فإن الرحمة أوسع دائرة من المغفرة كما لا يخفى، والنكتة فيه هاهنا مزيد إيناسه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن أخبره سبحانه بالطبع على قلوب بعض المرسل إليهم وآيسه من اهتدائهم مع علمه جل شأنه بزيد حرصه عليه الصلاة والسلام على ذلك وهو السر في إيثار عنوان الربوبية مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم انتهى.
وهو كلام واقف في أعراف الرد والقبول في النظر الجليل، ومن دقق علم ما فيه من الأمرين، وإنما قدم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية أو لأنه أهم بحسب الحال والمقام إذ المقام على ما قاله المحققون مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يعرب عنه قوله تعالى: لَوْ يُؤاخِذُهُمْ أي لو يريد مؤاخذتهم بِما كَسَبُوا أي فعلوا، وكسب الأشعري لا تفهمه العرب، وما إما مصدرية أي بكسبهم وإما موصولة أي بالذي كسبوه من المعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن آيات ربهم وعدم المبالاة بما اجترحوا من الموبقات لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ لاستيجاب أعمالهم لذلك، قيل وإيثار المؤاخذة المنبئة عن شدة الأخذ بسرعة على التعذيب والعقوبة ونحوهما للإيذان بأن النفي المستفاد من مقدم الشرطية متعلق بوصف السرعة كما ينبىء عنه تاليها، وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن انتفاء تعجيل العذاب لهم بسبب استمرار عدم إرادة المؤاخذة فإن المضارع الواقع موقع الماضي يفيد استمرار الفعل فيما مضى بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وهو يوم بدر أو يوم القيامة على أن الموعد اسم زمان، وجوز أن يكون اسم مكان والمراد منه جهنم، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل لكنهم ليسوا مؤاخذين بغتة بل لهم موعد لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا قال الفراء: أي منجى يقال وألت نفس فلان نحت وعليه قول الأعشى:

وقد أخالس رب الدار غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل
وقال ابن قتيبة: هو الملجأ يقال وأل فلان إلى كذا يئل وألا ووءولا إذا لجأ والمعنى واحد والفرق إنما هو بالتعدي بإلى وعدمه، وتفسيره بالملجأ مروي عن ابن عباس، وفسره مجاهد بالمحرز، والضحاك بالمخلص والأمر في ذلك سهل، وهو على ما قاله أبو البقاء: يحتمل أن يكون اسم زمان وأن يكون اسم مكان، والضمير المجرور عائد على الموعد كما هو الظاهر، وقيل: على العذاب وفيه من المبالغة ما فيه لدلالته على أنهم لا خلاص لهم أصلا فإن من يكون ملجأه العذاب كيف يرى وجه الخلاص والنجاة.
وأنت تعلم أن أمر المبالغة موجود في الظاهر أيضا وقيل: يعود على الله تعالى وهو مخالف للظاهر مع الخلو عن المبالغة، وقرأ الزهري «موّلا» بتشديد الواو من غير همز ولا ياء، وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه «مولا» بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء أيضا وَتِلْكَ الْقُرى أي قرى عاد وثمود وقوم لوط وأشباههم، والكلام على تقدير مضاف أي أهل القرى لقوله تعالى: أَهْلَكْناهُمْ والإشارة لتنزيلهم لعلمهم بهم منزلة المحسوس، وقدر المضاف في البحر قبل تِلْكَ وكلا الأمرين جائز، وتلك يشار بها للمؤنث من العقلاء وغيرهم، وجوز أن تكون القرى عبارة عن أهلها مجازا، وأيّا ما كان فاسم الإشارة مبتدأ والْقُرى صفته والوصف بالجامد في باب الإشارة مشهور والخبر جملة أَهْلَكْناهُمْ واختار أبو حيان كون «القرى» هو الخبر والجملة حالية كقوله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً [النمل:
٥٢] وجوز أن تكون «تلك» منصوبا بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم لَمَّا ظَلَمُوا أي

صفحة رقم 288

حين ظلمهم كما فعل مشركو مكة ما حكي عنهم من القبائح، وترك المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلة اللازم أي لما فعلوا الظلم، ولَمَّا عند الجمهور ظرف كما أشير إليه وليس المراد به الحين المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمان ممتد من ابتداء الظلم إلى آخره.
وقال أبو الحسن بن عصفور: هي حرف، ومما استدل به على حرفيتها هذه الآية حيث قال: إنها تدل على أن علة الإهلاك الظلم والظرف لا دلالة له على العلية، واعترض بأن قولك أهلكته وقت الظلم يشعر بعلية الظلم وإن لم يدل الظرف نفسه على العلية، وقيل لا مانع من أن يكون ظرفا استعمل للتعليل.
وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ لهلاكهم مَوْعِداً وقتا معينا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون فمفعل الأول مصدر والثاني اسم زمان، والتعيين من جهة أن الموعد لا يكون إلا معينا وإلا فاسم الزمان مبهم والعكس ركيك. وزعم بعضهم أن المهلك على هذه القراءة وهي قراءة حفص في الرواية المشهورة عنه- أعني القراءة بفتح الميم وكسر اللام- من المصادر الشاذة كالمرجع والمحيض وعلل ذلك بأن المضارع يهلك بكسر اللام وقد صرحوا بأن مجيء المصدر الميمي مكسورا فيما عين مضارعه مكسورة شاذ، وتعقب بأنه قد صرح في القاموس بأن هلك جاء من باب ضرب ومنع وعلم فكيف يتحقق الشذوذ فالحق أنه مصدر غير شاذ وهو مضاف للفاعل ولذا فسر بما سمعت، وقيل: إن هلك يكون لازما ومتعديا فعن تميم هلكني فلان فعلى تعديته يكون مضافا للمفعول، وأنشد أبو علي في ذلك:- ومهمه هالك من تعرجا- أي مهلكه، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتعين ذلك في البيت بل قد ذهب بعض النحويين إلى أن هالكا فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة والأصل هالك من تعرجا بجعل من فاعلا لهالك ثم أضمر في هالك ضمير مهمه وانتصب من على التشبيه بالمفعول ثم أضيف من نصب، والصحيح جواز استعمال الموصول في باب الصفة المشبهة، وقد ثبت في أشعار العرب قال عمرو بن أبي ربيعة:

أسيلات أبدان دقاق خصورها وثيرات ما التفت عليها الملاحف
وقرأ حفص وهارون وحماد ويحيى عن أبي بكر بفتح الميم واللام، وقراءة الجمهور بضم الميم وفتح اللام وهو مصدر أيضا، وجعله اسم مفعول على معنى وجعلنا لمن أهلكناه منهم في الدنيا موعدا ننتقم فيه منه أشد انتقام وهو يوم القيامة أو جهنم لا يخفى ما فيه، والظاهر أن الآية استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليعتبروا ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم، وهي ترجح حمل الموعد فيما سبق على يوم بدر فتدبر والله تعالى أعلم وأخبر.
«ومن باب الإشارة في الآيات» وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أمر بصحبة الفقراء الذين انقطعوا لخدمة مولاهم، وفائدتها منه عليه الصلاة والسلام تعود عليهم وذلك لأنهم عشاق الحضرة وهو صلّى الله عليه وسلّم مرآتها وعرش تجليها ومعدن أسرارها ومشرق أنوارها فمتى رأوه صلّى الله عليه وسلّم عاشوا ومتى غاب عنهم كئبوا وطاشوا، وأما صحبة الفقراء بالنسبة إلى غيره صلّى الله عليه وسلّم ففائدتها تعود إلى من صحبهم فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وقال عمرو المكي: صحبة الصالحين والفقراء الصادقين عيش أهل الجنة يتقلب معهم جليسهم من الرضا إلى اليقين ومن اليقين إلى الرضا، ولأبي مدين من قصيدته المشهورة التي خمسها الشيخ محيي الدين قدس سره:
ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا هم السلاطين والسادات والأمرا
فاصحبهم وتأدب في مجالسهم وخل حظك مهما قدموك ورا

صفحة رقم 289

واستغنم الوقت واحضر دائما معهم واعلم بأن الرضا يختص من حضرا
ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل لا علم عندي وكن بالجهل مستترا
إلى أن قال:
وإن بدا منك عيب فاعترف وأقم وجه اعتذارك عما فيك منك جرا
وقل عبيدكم أولى بصفحكم فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا
هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم فلا تخف دركا منهم ولا ضررا
وعنى بهؤلاء السادة الصوفية وقد شاع إطلاق الفقراء عليهم لأن الغالب عليهم الفقر بالمعنى المعروف وفقرهم مقارن للصلاح وبذلك يمدح الفقر، وأما إذا اقترن بالفساد فالعياذ بالله تعالى منه فمتى سمعت الترغيب في مجالسة الفقير فاعلم أن المراد منه الفقير الصالح، والآثار متظافرة في الترغيب في ذلك فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفا تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عبيد الله تعالى وتخرجوا من الكبر، وفي الجامع الجلوس مع الفقراء من التواضع وهو من أفضل الجهاد، وفي رواية أحبوا الفقراء وجالسوهم، ومن فوائد مجالستهم أن العبد يرى نعمة الله تعالى عليه ويقنع باليسير من الدنيا ويأمن في مجالستهم من المداهنة والتملق وتحمل المن وغير ذلك، نعم إن مجالستهم خلاف ما جبلت عليه النفس ولذا عظم فضلها، وقيل: إن في قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ إلخ دون ودم مع الذين إلخ إشارة إلى ذلك ولكن ذلك بالنسبة إلى غيره صلّى الله عليه وسلّم فإن نفسه الشريفة فطرت على أحسن فطرة وطبعت على أحسن طبيعة.
وقال بعض أهل الأسرار: إنما قيل: واصبر نفسك دون واصبر قلبك لأن قلبه الشريف صلّى الله عليه وسلّم كان مع الحق فأمر صلّى الله عليه وسلّم بصحبة الفقراء جهرا بجهر واستخلص سبحانه قلبه له سرا بسر تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا وهي مذمومة مع الميل إليهم والتواضع لغناهم،
وقد جاء في الحديث «من تذلل لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه فليتق الله تعالى في الثلث الآخر»
ومضار مجالستهم كثيرة، ولا تخفى على من علم فوائد مجالسة الفقراء، وأدناها ضررا تحمل منهم فإنه قلما يسلم الغني من المن على جليسه الفقير ولو بمجرد المجالسة وهو حمل لا يطاق، ومن نوابغ الزمخشري طعم الآلاء أحلى من المن وهي أمر من الآلاء عند المن، وقال بعض الشعراء:
لنا صاحب ما زال يتبع بره بمن وبذل المن بالبر لا يسوى
تركناه لا بغضا ولا عن ملالة ولكن لأجل المن يستعمل السلوى
وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً نهي عن إطاعة المحجوبين الغافلين وكانوا في القصة يريدون طرد الفقراء وعدم مجالسة النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا يطاع عند أهل الإشارة الغافل المحجوب في كل شيء فيه هوى النفس، وعدوا من إطاعته التواضع له فإنه يطلبه حالا وإن لم يفصح به مقالا وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ قالوا: فيه إشارة إلى عدم كتم الحق وإن أدى إلى إنكار المحجوبين وإعراض الجاهلين، وعد من ذلك في أسرار القرآن كشف الأسرار الإلهية وقال: إن العاشق الصادق لا يبالي تهتك الأسرار عند الأغيار ولا يخاف لومة لائم ولا يكون في قيد إيمان الخلق وإنكارهم فإن لذة العشق بذلك أتم ألا ترى قول القائل:

صفحة رقم 290

ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى فلا خير في اللذات من دونها ستر
ولا يخفى أن هذا خلاف المنصور عند الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنهم حافظوا على كتم الأسرار عن الأغيار وأوصوا بذلك، ويكفي حجة في هذا المطلب ما نسب إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه وهو:
إني لأكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين ووصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولا ستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
نعم المغلوب وكذا المأمور معذور وعند الضرورة يباح المحظور، وما أحسن قول الشهاب القتيل:
وا رحمتا للعاشقين تكلفوا ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح
وإذا هم كتموا يحدث عنهم عند الوشاة المدمع السحاح
وما ذكر أولا يكون مستمسكا في الذب عن الشيخ الأكبر قدس سره وأضرابه فإنهم لم يبالوا في كشف الحقائق التي يدعونها بكونه سببا لضلال كثير من الناس وداعيا للإنكار عليهم، وقد استدل بعض بالآية في الرد عليهم بناء على أن المعنى الحق ما يكون من جهته تعالى وما جاؤوا به ليس من جهته سبحانه لأنه لا تشهد له آية ولا يصدقه حديث ولا يؤيده أثر. وأجيب بأن ذلك ليس إلا من الآيات والأحاديث إلا أنه لا يستنبط منها إلا بقوة قدسية وأنوار إلهية فلا يلزم من عدم فهم المنكرين لها من ذلك لحرمانهم تلك القوة واحتجابهم عن هاتيك الأنوار عدم حقيتها فكم من حق لم تصل إليه أفهامهم. واعترض بأنه لو كان الأمر كذلك لظهر مثل تلك الحقائق في الصدر الأول فإن أرباب القوى القدسية والأنوار الإلهية فيه كثيرون والحرص على إظهار الحق أكثر، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هناك مانع أو عدم مقتض لإظهار ما أظهر من الحقائق، وفيه نوع دغدغة ولعله سيأتيك إن شاء الله تعالى ما عسى أن ينفعك هنا، وبالجملة أمر الشيخ الأكبر وأضرابه قدس الله تعالى أسرارهم فيما قالوا ودونوا عندي مشكل لا سيما أمر الشيخ فإنه أتى بالداهية الدهياء مع جلالة قدره التي لا تنكر، ولذا ترى كثيرا من الناس ينكرون عليه ويكرون، وما ألطف ما قاله فرق جنين العصابة الفاروقية والراقي في مراقي التنزلات الموصلية في قصيدته التي عقد اكسيرها في مدح الكبريت الأحمر فغدا شمسا في آفاق مدائح الشيخ الأكبر وهو قوله:
ينكر المرء منه أمرا فينها هـ نهاه فينكر الانكارا
تنثني عنه ثم تثني عليه ألسن تشبه الصحاة سكارى
يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ قيل هي إشارة إلى أنهم يحلون حقائق التوحيد الذاتي ومعاني التجليات العينية الأحدية وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً إشارة إلى أنهم متصفون بصفات بهيجة حسنة نضرة موجبة للسرور مِنْ سُنْدُسٍ الأحوال والمواهب وعبر عنها بالسندس لكونها ألطف وَإِسْتَبْرَقٍ الأخلاق والمكاسب، وعبر عنها بالاستبرق لكونها أكثف مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ قيل أي أرائك الأسماء الإلهية وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ إلخ فيه من تسلية الفقراء المتوكلين على الله تعالى وتنبيه الأغنياء المغرورين ما فيه، وقال النيسابوري: الرجلان هما النفس الكافرة والقلب المؤمن جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو النفس جَنَّتَيْنِ هما الهوى والدنيا مِنْ أَعْنابٍ الشهوات وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ حب الرياسة وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً من التمتعات البهيمية وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً من

صفحة رقم 291

القوى البشرية والحواس وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ من أنواع الشهوات وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي يجاذب النفس أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا أي ميلا وَأَعَزُّ نَفَراً من الأوصاف المذمومة وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها قال ذلك غرورا بالله تعالى وكرمه فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها من العمر وحسن الاستعداد انتهى.
وقد التزم هذا النمط في أكثر الآيات ولا بدع فهو شأن كثير من المؤولين هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً قال ابن عطاء: للطالبين له سبحانه لا للجنة وَخَيْرٌ عُقْباً للمريدين وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قيل هي المحبة الدائمة والمعرفة الكاملة والأنس بالله تعالى والإخلاص في توحيده سبحانه والانفراد به جل وعلا عن غيره فهي باقية للمتصف بها وصالحة لا اعوجاج فيها وهي خير المنازل، وقد تفسر بما يعمها وغيرها من الأعمال الخالصة والنيات الصادقة وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً قال ابن عطاء: دل سبحانه بهذا على إظهار جبروته وتمام قدرته وعظيم عزته ليتأهب العبد لذلك الموقف ويصلح سريرته وعلانيته لخطاب ذلك المشهد وجوابه عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
إخبار عن جميع بني آدم وإن كان المخاطب في قوله سبحانه لْ زَعَمْتُمْ
إلخ بعضهم، ذكر أنه يعرض كل صنف صفا، وقيل الأنبياء عليهم السلام صف والأولياء صف وسائر المؤمنين صف والمنافقون والكافرون صف وهم آخر الصفوف فيقال لهم قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
على وصف الفطرة الأولية عاجزين منقطعين إليه سبحانه وَوُضِعَ الْكِتابُ أي الكتب فيوضع كتاب الطاعات للزهاد والعباد وكتاب الطاعات والمعاصي للعموم وكتاب المحبة والشوق والعشق للخصوص، ولبعضهم:

وأودعت الفؤاد كتاب شوق سينشر طيه يوم الحساب
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً قال أبو حفص: أشد آية في القرآن على قلبي هذه الآية ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ قيل أي ما أشهدتهم أسرار ذلك والدقائق المودعة فيه وإنما أشهد سبحانه ذلك أحباءه وأولياءه وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا لأنه مظهر الأسماء المختلفة والعالم الأصغر الذي انطوى فيه العالم الأكبر، هذا والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وَإِذْ قالَ مُوسى هو ابن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام على الصحيح، فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي وجماعة من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن نوفا (١) البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل فقال: كذب عدو الله ثم ذكر حديثا طويلا فيه الإخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما هو نص في أنه موسى بني إسرائيل، وإلى إنكار ذلك ذهب أيضا أهل الكتاب وتبعهم من تبعهم من المحدثين والمؤرخين وزعموا أن موسى هنا هو موسى بن ميشا بالمعجمة ابن يوسف بن يعقوب، وقيل: موسى بن إفرائيم بن يوسف وهو موسى الأول، قيل وإنما أنكره أهل الكتاب لإنكارهم تعلم النبي من غيره. وأجيب بالتزام أن التعلم من نبي ولا غضاضة في تعلم نبي من نبي. وتعقب بأنه ولو التزموا ذلك وسلموا نبوة الخضر عليه السلام لا يسلمون أنه موسى بن عمران لأنهم لا تسمح أنفسهم بالقول بتعلم نبيهم الأفضل
(١) هو ابن فضالة ابن امرأة كعب، وقيل: ابن أخيه والمشهور الأول وهو من أصحاب أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه، وبكال قيل بضم الباء حي من اليمن. وعن المبرد البكالي بكسر الباء نسبة إلى بكالة من اليمن، وفي شرح مسلم للنووي البكالي ضبطه الجمهور بكسر الموحدة وتخفيف الكاف ورواه بعضهم بفتحها وتشديد الكاف قال القاضي: وهذا ضبط أكثر الشيوخ وأصحاب الحديث والصواب الأول وهو قول المحققين وهو منسوب إلى بني بكال بطن من حمير وقيل: من همدان اه منه. [.....]

صفحة رقم 292

ممن ليس مثله في الفضل فإن الخضر عليه السلام على القول بنبوته بل القول برسالته لم يبلغ درجة موسى عليه السلام، وقال بعض المحققين: ليس إنكارهم لمجرد ذلك بل لذلك ولقولهم إن موسى عليه السلام بعد الخروج من مصر حصل هو وقومه في التيه وتوفي فيه ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته والقصة تقتضي خروجه عليه السلام من التيه لأنها لم تكن وهو في مصر بالإجماع، وتقتضي أيضا الغيبة أياما ولو وقعت لعلمها كثير من بني إسرائيل الذين كانوا معه ولو علمت لنقلت لتضمنها أمرا غريبا تتوفر الدواعي على نقله فحيث لم يكن لم تكن. وأجيب بأن عدم سماح نفوسهم بالقول بعلم نبيهم عليه السلام ممن ليس مثله في الفضل أمر لا يساعده العقل وليس هو إلا كالحمية الجاهلية إذ لا يبعد عقلا تعلم الأفضل الأعلم شيئا ليس عنده ممن هو دونه في الفضل والعلم. ومن الأمثال المشهورة قد يوجد في الأسقاط ما لا يوجد في الأسفاط، وقالوا: قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وقال بعضهم:
لا مانع من أن يكون قد أخفى الله سبحانه وتعالى علم المسائل التي تضمنتها القصة عن موسى عليه السلام على مزيد علمه وفضله لحكمة ولا يقدح ذلك في كونه أفضل وأعلم من الخضر عليه السلام وليس بشيء كما لا يخفى، وبأنه سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا القول بأن القصة كانت بعد أن ظهر موسى عليه السلام على مصر مع بني إسرائيل واستقر بعد هلاك القبط فلا إجماع على أنها لم تكن بمصر، نعم اليهود لا يقولون باستقرارهم في مصر بعد هلاك القبط وعليه كثير منا وحينئذ يقال: إن عدم خروج موسى عليه السلام من التيه غير مسلم، وكذلك اقتضاء ذلك الغيبة أياما لجواز أن يكون على وجه خارق للعادة كالتيه الذي وقعوا فيه وكنتق الجبل عليهم وغير ذلك من الخوارق التي وقعت فيهم، وقد يقال: يجوز أن يكون عليه السلام خرج وغاب أياما لكن لم يعلموا أنه عليه السلام ذهب لهذا الأمر وظنوا أنه ذهب يناجي ويتعبد ولم يوقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع لعلمه بقصور فهمهم فخاف من حط قدره عندهم فهم القائلون اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ١٣٨] وأَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: ١٣٥] وأوصى فتاه بكتم ذلك عنهم أيضا، ويجوز أن يكون غاب عليه السلام وعلموا حقيقة غيبته لكن لم يتناقلوها جيلا بعد جيل لتوهم أن فيها شيئا مما يحط من قدره الشريف عليه السلام فلا زالت نقلتها تقل حتى هلكوا في وقت بختنصر كما هلك أكثر حملة التوراة، ويجوز أن يكون قد بقي منهم أقل قليل إلى زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم فتواصوا على كتمها وإنكارها ليوقعوا الشك في قلوب ضعفاء المسلمين ثم هلك ذلك القليل ولم تنقل عنه، ولا يخفى أن باب الاحتمال واسع وبالجملة لا يبالى بإنكارهم بعد جواز الوقوع عقلا واخبار الله تعالى به ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن الآية ظاهرة في ذلك، ويقرب من هذا الإنكار إنكار النصارى تكلم عيسى عليه السلام في المهد وقد قدمنا أنه لا يلتفت إليه بعد إخبار الله تعالى به فعليك بكتاب الله تعالى ودع عنك الوساوس.
وإِذْ نصب على المفعولية باذكر محذوفا والمراد قل قال موسى لِفَتاهُ يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام فإنه كان يخدمه ويتعلم منه ولذا أضيف إليه، والعرب تسمي الخادم فتى لأن الخدم أكثر ما يكونون في سن الفتوّة، وكان فيما يقال ابن أخت موسى عليه السلام، وقيل: هو أخو يوشع عليه السلام، وأنكر اليهود أن يكون له أخ، وقيل: لعبده فالإضافة للملك وأطلق على العبد فتى لما في الحديث الصحيح «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي» وهو من آداب الشريعة، وليس إطلاق ذلك بمكروه خلافا لبعض بل خلاف الأولى، وهذا القول مخالف للمشهور وحكم النووي بأنه قول باطل وفي حل تملك النفس في بني إسرائيل كلام، ومثله في البطلان القول الثاني لمنافاة كل الأخبار الصحيحة لا أَبْرَحُ من برح الناقص كزال يزال أي لا أزال أسير فحذف الخبر اعتمادا على قرينة الحال إذ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالا على ما يعقبه من قوله حَتَّى أَبْلُغَ إذ الغاية لا بد لها من مغيا والمناسب لها هنا

صفحة رقم 293

السير وفيما بعد أيضا ما يدل على ذلك وحذف الخبر فيها قليل كما ذكره الرضي، ومنه قول الفرزدق:

فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ببطحاء ذي قار عياب اللطائم
وقال أبو حيان: نص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل الدليل على حذفه إلا ما جاء في الشعر من قوله:
لهفي عليك كلهفة من خائف يبغي جوارك حين ليس مجير
أي حين ليس في الدنيا، وجوز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون الأصل لا يبرح سيري حتى أبلغ فالخبر متعلق حتى مع مجرورها فحذف المضاف إليه (١) وهو سير فانقلب الضمير من البروز والجر إلى الرفع والاستتار وانقلب الفعل من الغيبة إلى التكلم، قيل وكذا الفعل الواقع في الخبر وهو أَبْلُغَ كأن أصله يبلغ ليحصل الربط والإسناد مجازي وإلا يخل الخبر من الرابط إلا أن يقدر حتى أبلغ به أو يقال إن الضمير المستتر في كائن يكفي للربط أو أن وجود الربط بعد التغيير صورة يكفي فيه وإن كان المقدر في قوة المذكور، وعندي لا لطف في هذا الوجه وإن استلطفه الزمخشري.
وجوز أيضا أن يكون أَبْرَحُ من برح التام كزال يزول فلا يحتاج إلى خبر، نعم قيل لا بد من تقدير مفعول ليتم المعنى أي لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ وتعقبه في البحر بأنه يحتاج إلى صحة نقل.
والمجمع الملتقى وهو اسم مكان، وقيل مصدر وليس بذاك، والبحران بحر فارس والروم كما روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما، وملتقاهما مما يلي المشرق، ولعل المراد مكان يقرب فيه التقاؤهما وإلا فهما لا يلتقيان إلا في البحر المحيط وهما شعبتان منه.
وذكر أبو حيان أن مجمع البحرين على ما يقتضيه كلام ابن عطية مما يلي بر الشام، وقالت فرقة منهم محمد ابن كعب القرظي: هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا، وعن أبي أنه بإفريقية، وقيل البحران الكر والرس بأرمينية وروي ذلك عن السدي، وقيل بحر القلزم وبحر الأزرق، وقيل هما بحر ملح وبحر عذب وملتقاهما في الجزيرة الخضراء في جهة المغرب، وقيل هما مجاز عن موسى والخضر عليهما السلام لأنهما بحرا علم، والمراد بملتقاهما مكان يتفق فيه اجتماعهما، وهو تأويل صوفي والسياق ينبو عنه وكذا قوله تعالى حَتَّى أَبْلُغَ إذ الظاهر عليه أن يقال حتى يجتمع البحران مثلا.
وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار مَجْمَعَ بكسر الميم الثانية، والنضر عن ابن مسلم مَجْمَعَ بالكسر لكلا الحرفين وهو شاذ على القراءتين لأن قياس اسم المكان والزمان من فعل يفعل بفتح العين فيهما الفتح كما في قراءة الجمهور أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً عطف على أَبْلُغَ وأو لأحد الشيئين، والمعنى حتى يقع إما بلوغي المجمع أو مضي حقبا أي سيري زمانا طويلا.
وجوز أن تكون أو بمعنى إلا والفعل منصوب بعدها بأن مقدرة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا زلت أسير في كل حال حتى أبلغ إلا أن أمضي زمانا أتيقن معه فوات المجمع، ونقل أبو حيان جواز أن تكون بمعنى إلى وليس بشيء لأنه يقتضي جزمه ببلوغ المجمع بعد سيره حقبا وليس بمراد، والحقب بضمتين ويقال بضم فسكون وبذلك قرأ
(١) قوله فحذف المضاف إليه كذا بخطه والأولى المضاف وهو سير إلخ اه.

صفحة رقم 294

الضحاك اسم مفرد وجمعه كما في القاموس أحقب وأحقاب، وفي الصحاح أن الحقب بالضم يجمع على حقاب مثل قف وقفاف، وهو على ما روي عن ابن عباس وجماعة من اللغويين الدهر وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنه ثمانون سنة، وعن الحسن أنه سبعون، وقال الفراء: إنه سنة بلغة قريش وقال أبو حيان: الحقب السنون واحدها حقبة قال الشاعر:

فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها فإنك مما أحدثت بالمجرب
اه وما ذكره من أن الحقب السنون ذكره غير واحد من اللغويين لكن قوله واحدها حقبة فيه نظر لأن ظاهر كلامهم أنه اسم مفرد وقد نص على ذلك الخفاجي ولأن الحقبة جمع حقب بكسر ففتح، قال في القاموس: الحقبة بالكسر من الدهر مدة لا وقت لها والسنة وجمعه حقب كعنب وحقوب كحبوب، واقتصر الراغب والجوهري على الأول، وكان منشأ عزيمة موسى عليه السلام على ما ذكر ما
رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه سبحانه فأوحى الله تعالى إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك» الحديث،
وفي رواية أخرى عنه عن أبي أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال: اي رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه فقال له: نعم في عبادي من هو أعلم منك ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخطيب وابن عساكر من طريق هارون عن أبيه عن ابن عباس قال: سأل موسى عليه السلام ربه سبحانه فقال: اي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني قال:
فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى قال: وكان حدث موسى نفسه أنه ليس أحد أعلم منه فلما أن قيل له الذي يبتغي علم الناس إلى علمه قال: يا رب فهل في الأرض أحد أعلم مني؟ قال: نعم قال: فأين هو؟
قيل له: عند الصخرة التي عندها العين فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله تعالى.
ثم إن هذه الأخبار لا دلالة فيها على وقوع القصة في مصر أو في غيرها، نعم جاء في بعض الروايات التصريح بكونها في مصر،
فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لما ظهر موسى عليه السلام وقومه على مصر أنزل قومه بمصر فلما استقرت بهم البلد أنزل الله تعالى أن ذكرهم بأيام الله تعالى فخطب قومه فذكر ما آتاهم الله تعالى من الخير والنعم وذكرهم إذ أنجاهم الله تعالى من آل فرعون وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله سبحانه في الأرض وقال كلم الله تعالى نبيكم تكليما واصطفاني لنفسه وأنزل علي محبة منه وآتاكم من كل شيء ما سألتموه فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرءون التوراة فلم يترك نعمة أنعمها الله تعالى عليهم إلا عرفهم إياها فقال له رجل من بني إسرائيل: فهل على الأرض أعلم منك يا نبي الله؟ قال: لا فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام إلى موسى عليه السلام فقال: إن الله تعالى يقول وما يدريك أين أضع علمي بلى إن على ساحل البحر رجلا أعلم منك ثم كان ما قص الله سبحانه
، وأنكر ذلك ابن عطية فقال: ما يرى قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام وما أراه يصح بل المتظافر أن موسى عليه السلام توفي في أرض التيه قبل فتح ديار الجبارين اه وما ذكره من عدم إنزال موسى عليه السلام قومه بمصر هو الأقرب إلى القبول عندي وإن تعقب الخفاجي كلامه بعد نقله بقوله فيه نظر، ثم إن

صفحة رقم 295

الأخبار المذكورة ظاهرة في أن العبد الذي أرشد إليه موسى عليه السلام كان أعلم منه، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك فَلَمَّا بَلَغا الفاء فصيحة أي فذهبا يمشيان إلى مجمع البحرين فلما بلغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي البحرين، والأصل في بين النصب على الظرفية.
وأخرج عن ذلك بجره (١) بالإضافة اتساعا والمراد مجمعهما، وقيل: مجمعا في وسطهما فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين، وذكر أن هذا يناسب تفسير المجمع بطنجة أو إفريقية إذ يراد بالمجمع متشعب بحر فارس والروم من المحيط وهو هناك، وقيل: بين اسم بمعنى الوصل، وتعقب بأن فيه ركاكة إذ لا حسن في قولك مجمع وصلهما، وقيل إن فيه مزيد تأكيد كقولهم جد جده وجوز أن يكون بمعنى الافتراق أي موضع اجتماع افتراق البحرين أي البحرين المفترقين، والظاهر أن ضمير التثنية على الاحتمالين للبحرين.
وقال الخفاجي: يحتمل على احتمال أن يكون بمعنى الافتراق عوده لموسى والخضر عليهما السلام أي وصلا إلى موضع وعد اجتماع شملهما فيه، وكذا إذا كان بمعنى الوصل انتهى، وفيه ما لا يخفى، ومَجْمَعَ على سائر الاحتمالات اسم مكان، واحتمال المصدرية هنا مثله فيما تقدم نَسِيا حُوتَهُما الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب،
فقد صح أن الله تعالى حين قال لموسى عليه السلام: إن لي بمجمع البحرين من هو أعلم قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فأخذ حوتا وجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه حتى إذا أتيا الصخرة وكانت عند مجمع البحرين وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر
، والظاهر نسبة النسيان إليهما جميعا وإليه ذهب الجمهور، والكلام على تقدير مضاف أي نسيا حال حوتهما إلا أن الحال الذي نسيه كل منهما مختلف فالحال الذي نسيه موسى عليه السلام كونه باقيا في المكتل أو مفقودا والحال الذي نسيه يوشع عليه السلام ما رأى من حياته ووقوعه في البحر، وهذا قول بأن يوشع شاهد حياته وفيه خبر صحيح،
ففي حديث رواه الشيخان، وغيرهما أن الله تعالى قال لموسى: خذ نونا ميتا فهو حيث ينفخ فيه الروح فأخذ ذلك فجعله في مكتل فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت قال: ما كلفت كثيرا فبينما هما في ظل صخرة إذا اضطرب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره.
وفي حديث رواه مسلم، وغيره أن الله تعالى قال له: آية ذلك أن تزود حوتا (٢) مالحا فهو حيث تفقده ففعل حتى إذا انتهيا إلى الصخرة انطلق موسى يطلب ووضع فتاه الحوت على الصخرة فاضطرب ودخل البحر فقال فتاه: إذا جاء نبي الله تعالى حدثته فأنساه الشيطان،
وزعم بعض أن الناسي هو الفتى لا غير نسي أن يخبر موسى عليه السلام بأمر الحوت، ووجه نسبة النسيان إليهما بأن الشيء قد ينسب إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحدا منهم، وما ذكر هنا نظير نسي القوم زادهم إذا نسيه متعهد أمرهم، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي نسي أحدهما والمراد به الفتى وهو كما ترى، وسبب حياة هذا الحوت على ما في بعض الروايات عن ابن عباس أنه كان عند الصخرة ماء الحياة من شرب منه خلد ولا يقاربه ميت إلا حيي فأصاف شيء منه الحوت فحيي،
وروي أن يوشع عليه السلام توضأ من ذلك الماء فانتضح شيء منه على الحوت فعاش
، وقيل: إنه لم يصبه سوى روح الماء وبرده فعاش بإذن الله تعالى وذكر هذا الماء وأنه ما

(١) والإضافة بيانية أو لامية.
(٢) في رواية مملحا وفي أخرى مليحا.

صفحة رقم 296

أصاب منه شيء إلا حيي وأن الحوت أصاب منه جاء في صحيح البخاري فيما يتعلق بسورة الكهف أيضا لكن ليس فيه أنه من شرب منه خلد كما في بعض الروايات السابقة. ويشكل على هذا البعض أنه روي أن يوشع شرب منه أيضا مع أنه لم يخلد اللهم إلا أن يقال: إن هذا لا يصح والله تعالى أعلم، ثم إن هذا الحوت كان على ما سمعت فيما مر مالحا وفي رواية مشويا، وفي بعض أنه كان في جملة ما تزوداه وكانا يصيبان منه عند العشاء والغداء فأحياه الله تعالى وقد أكلا نصفه فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً مسلكا كالسرب وهو النفق
فقد صح من حديث الشيخين والترمذي والنسائي وغيرهم أن الله تعالى أمسك عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق
، والمراد به البناء المقوس كالقنطرة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن الحبر جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا ييس حتى يكون صخرة، وهذا وكذا ما سبق من الأمور الخارقة للعادة التي يظهرها سبحانه على من شاء من أنبيائه وأوليائه، ونقل الدميري بقاء أثر الخارق الأول قال: قال أبو حامد الأندلسي رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة من نسل الحوت الذي تزوده موسى وفتاه عليهما السلام وأكلا منه وهي سمكة طولها أكثر من ذراع وعرضها شبر واحد جنبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها ولها عين واحدة ورأسها نصف رأس من رآها من هذا الجانب استقذرها وحسب أنها مأكولة ميتة ونصفها الآخر صحيح والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة انتهى.
وقال أبو شجاع في كتاب الطبري: أتيت به فرأيته فإذا هو شق حوت وليس له إلا عين واحدة، وقال ابن عطية:
وأنا رأيته أيضا وعلى شقه قشرة رقيقة ليس تحتها شوكة، وفيه مخالفة لما في كلام أبي حامد، وأنا سألت كثيرا من راكبي البحار ومتتبعي عجائب الآثار فلم يذكروا أنهم رأوا ذلك ولا أهدي إليهم في مملكة من الممالك فلعل أمره إن صح كل من الإثبات والنفي صار اليوم كالعنقاء كانت فعدمت والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
والفاء على ما يقتضيه كلامهم فصيحة أي فحيي وسقط في البحر فاتخذ، وقدر بعضهم المعطوف عليه الذي تفصح عنه الفاء بالواو على خلاف المألوف ليدفع به الاعتراض على كون الحال الذي نسيه يوشع ما رأى من حياته ووقوعه في البحر بأن الفاء تؤذن بأن نسيانه عليه السلام كان قبل حياته ووقوعه في البحر واتخاذه سربا فلا يصح اعتبار ذلك في الحال المنسي، وأجيب بأن المعتبر في الحال هو الحياة والوقوع في البحر أنفسهما من غير اعتبار أمر آخر والواقع بعدهما من حيث ترتب عليهما الاتخاذ المذكور فهما من حيث أنفسهما متقدمان على النسيان ومن حيث ترتب الاتخاذ متأخران وهما من هذه الحيثية معطوفان على نسيا بالفاء التعقيبية، ولا يخفى أنه سيأتي في الجواب إن شاء الله تعالى ما يأبى هذا الجواب إلا أن يلتزم فيه خلاف المشهور بين الأصحاب فتدبر، وانتصاب سَرَباً على أنه مفعول ثان لاتخذ وفِي الْبَحْرِ حال منه ولو تأخر كان صفة أو من السبيل، ويجوز أن يتعلق باتخذ، وفِي في جميع ذلك ظرفية.
وربما يتوهم من كلام ابن زيد حيث قال: إنما اتخذ سبيله في البر حتى وصل إلى البحر فعام على العادة أنها تعليلية مثلها في أن امرأة دخلت النار في هرة فكأنه قيل فاتخذ سبيله في البر سربا لأجل وصوله إلى البحر، وواقفه في كون اتخاذ السرب في البر قوم، وزعموا أنه صادف في طريقه في البر حجرا فنقبه، ولا يخفى أن القول بذلك خلاف ما ورد في الصحيح مما سمعت والآية لا تكاد تساعده، وجوز أن يكون مفعولا اتخذ سَبِيلَهُ وفِي الْبَحْرِ وسربا حال من السبيل وليس بذاك، وقيل حال من فاعل اتخذ وهو بمعنى التصرف والجولان من قولهم فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء، ومنه قوله تعالى: وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد: ١٠] وهو في تأويل الوصف أي اتخذ ذلك في البحر متصرفا، ولا يخفى أنه نظير سابقه.

صفحة رقم 297
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية