[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)والمراد بالبحر: جنسه، والمداد في الأصل: اسم لكل ما يمد به الشيء، واختص في العرف لما تمد به الدواة من الحبر.
والمراد بكلمات ربي: علمه وحكمته وكلماته التي يصرف بها هذا الكون.
وقوله: لَنَفِدَ الْبَحْرُ: أى لفنى وفرغ وانتهى. يقال: نفد الشيء ينفد نفادا، إذا فنى وذهب، ومنه قولهم: أنفد فلان الشيء واستنفده، أى: أفناه.
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- للناس: لو كان ماء البحر مدادا للأقلام التي تكتب بها كلمات ربي ومعلوماته وأحكامه.. لنفد ماء البحر ولم يبق منه شيء- مع سعته وغزارته- قبل أن تنفد كلمات ربي، وذلك لأن ماء البحر ينقص وينتهى أما كلمات الله- تعالى- فلا تنقص ولا تنتهي.
وقوله- سبحانه-: وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً زيادة في المبالغة وفي التأكيد لما قبله من شمول علم الله- تعالى- لكل شيء، وعدم تناهيه.
أى: وبعد نفاد ماء البحر السابق، لو جئنا بماء بحر آخر مثله في السعة والغزارة، وكتبنا به كلمات الله- تعالى- لنفد- أيضا- ماء البحر الثاني دون أن تنفد كلمات ربي.
فالآية الكريمة تصور شمول علم الله- تعالى- لكل شيء، وعدم تناهى كلماته، تصويرا بديعا، يقرب إلى العقل البشرى بصورة محسوسه كمال علم الله- تعالى- وعدم تناهيه.
قال الآلوسى: وقوله: وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً: هذا كلام من جهته- تعالى شأنه- غير داخل في الكلام الملقن، جيء به لتحقيق مضمونه، وتصديق مدلوله على أتم وجه.
والواو لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفة المقابلة لها المحذوفة لدلالة ما ذكر عليها دلالة واضحة: صفحة رقم 587
أى: لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته- تعالى- لو لم نجئ بمثله مددا، ولو جئنا بمثله مددا- لنفد أيضا- «١».
وقال بعض العلماء: وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان، لأن هذه الأشياء مخلوقة، وجميع المخلوقات منقضية منتهية، وأما كلام الله- تعالى- فهو من جملة صفاته، وصفاته غير مخلوقة ولا لها حد ولا منتهى، فأى سعة وعظمة تصورتها القلوب، فالله- تعالى- فوق ذلك، وهكذا سائر صفات الله- سبحانه- كعلمه وحكمته وقدرته ورحمته «٢».
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «٣» ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بأمر آخر منه- تعالى- لنبيه ﷺ فقال: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- للناس، مبينا لهم حقيقة أمرك، بعد أن بينت لهم عدم تناهى كلمات ربك.
قل لهم: إنما أنا بشر مثلكم أوجدنى الله- تعالى- بقدرته من أب وأم كما أوجدكم.
وينتهى نسبي ونسبكم إلى آدم الذي خلقه الله- تعالى- من تراب.
ولكن الله- عز وجل- اختصني بوحيه وبرسالته- وهو أعلم حيث يجعل رسالته- وأمرنى أن أبلغكم أن إلهكم وخالقكم ورازقكم ومميتكم، هو إله واحد لا شريك له لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته.
فعليكم أن تخلصوا له العبادة والطاعة، وأن تستجيبوا لما آمركم به، ولما أنهاكم عنه، فإنى مبلغ عنه ما كلفنى به.
فالآية الكريمة وإن كانت تثبت للرسول ﷺ صفة البشرية وتنفى عنه أن يكون ملكا أو غير بشر.. إلا أنها تثبت له- أيضا- أن الله- تعالى- قد فضله على غيره من البشر بالوحي إليه، وبتكليفه بتبليغ ما أمره الله- تعالى- بتبليغه للعالمين. كما قال- سبحانه- وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكما قال- عز وجل-: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي
(٢) تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المتان، ج ٥ ص ٤٣ للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي طبعة مؤسسة مكة للطباعة والإعلام.
(٣) سورة لقمان الآية ٢٧.
خَزائِنُ اللَّهِ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ. «١».
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بتلك الجملة الجامعة لكل خير فقال: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- للناس: إنما أنا واحد مثلكم في البشرية إلا أن الله- تعالى- قد خصنى واصطفاني عليكم برسالته ووحيه، وأمرنى أن أبلغكم أن إلهكم إله واحد. فمن كان منكم يرجو لقاء الله- تعالى- ويأمل في ثوابه ورؤية وجهه الكريم، والظفر بجنته ورضاه، فليعمل عملا صالحا، بأن يكون هذا العمل خالصا لوجه الله- تعالى- ومطابقا لما جئت به من عنده- عز وجل- ولا يشرك بعبادة ربه أحدا من خلقه سواء أكان هذا المخلوق نبيا أم ملكا أم غير ذلك من خلقه- تعالى-.
وقد حمل بعض العلماء الشرك هنا على الرياء في العمل، فيكون المعنى: «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولا يرائى الناس في عمله، لأن العمل الذي يصاحبه الرياء هو نوع من أنواع الشرك بالله تعالى».
والذي يبدو لنا أن حمل الشرك هنا على ظاهره أولى، بحيث يشمل الإشراك الجلى كعبادة غير الله- تعالى- والإشراك الخفى كالرياء وما يشبهه.
أى: ولا يعبد ربه رياء وسمعة، ولا يصرف شيئا من حقوق خالقه لأحد من خلقه، لأنه- سبحانه- يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً «٢».
وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث عند تفسيره لقوله- تعالى- فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
ومن هذه الأحاديث ما رواه ابن أبى حاتم، من حديث معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن طاوس قال: قال رجل يا رسول الله، إنى أقف المواقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله ﷺ شيئا حتى نزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «٣».
(٢) سورة النساء الآية ٤٨.
(٣) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٠٠ طبعة دار الشعب. [.....]
أما بعد: فهذه سورة الكهف، وهذا تفسير محرر لها، نسأل الله- تعالى- أن ينفعنا بالقرآن الكريم، وأن يجعله ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا، وشفيعنا يوم نلقاه يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المدينة المنورة: مساء الخميس ١٨ من رجب سنة ١٤٠٤ هـ الموافق: ١٩ من إبريل سنة ١٩٨٤ م د/ محمد سيد طنطاوى
فهرس إجمالى لتفسير «سورة الحجر»
رقم الآية الآية المفسرة الصفحة تعريف بسورة الحجر ٥ ١ الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ٩ ١٦ ولقد جعلنا في السماء بروجا ٢٦ ٢٦ ولقد خلقنا الإنسان من صلصال ٣٥ ٤٥ إن المتقين في جنات وعيون ٤٩ ٤٩ نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم ٥٢ ٦١ فلما جاء آل لوط المرسلون ٥٩ ٧٥ إن في ذلك لآيات للمتوسمين ٦٨ ٨٥ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ٧٣
فهرس إجمالى لتفسير «سورة النحل»
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة مقدمة ٨٩ تعريف بسورة النحل ٩١ ١ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ٩٩ ١٠ هو الذي أنزل من السماء ماء ١١٢ ١٢ وسخر لكم الليل والنهار ١١٥ ١٤ وهو الذي سخر البحر ١١٧ ١٥ وألقى في الأرض رواسى ١٢٠ ١٧ أفمن يخلق كمن لا يخلق ١٢٢ ٢٤ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ١٢٨ ٣٠ وقيل للذين اتقوا ١٣٨ ٣٣ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ١٤١ ٣٥ وقال الذين أشركوا ١٤٣ ٣٨ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ١٤٩ ٤١ والذين هاجروا في الله ١٥٣ ٤٣ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ١٥٦ ٤٥ أفأمن الذين مكروا السيئات ١٥٩ ٤٨ أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء ١٦٣ ٥١ وقال الله لا تتخذوا إلهين ١٦٦ ٥٦ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا ١٧٠ ٦١ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ١٧٥ ٦٥ والله أنزل من السماء ماء ١٨١ ٦٨ وأوحى ربك إلى النحل ١٨٧
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة ٧٠ والله خلقكم ثم يتوفاكم ١٩٢ ٧٣ ويعبدون من دون الله ١٩٧ ٧٧ ولله غيب السموات والأرض ٢٠٣ ٨٤ ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ٢١١ ٩٠ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ٢١٩ ٩٤ ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم ٢٢٧ ٩٨ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ٢٣٢ ١٠١ وإذا بدلنا آية مكان آية ٢٣٥ ١٠٦ من كفر بالله من بعد إيمانه ٢٤٠ ١١٠ ثم إن ربك للذين هاجروا ٢٤٣ ١١٢ وضرب الله مثلا قرية ٢٤٥ ١١٤ فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ٢٤٩ ١١٦ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم ٢٥١ ١١٨ وعلى الذين هادوا حرمنا ٢٥٣ ١٢٠ إن إبراهيم كان أمة ٢٥٦ ١٢٥ ادع إلى سبيل ربك ٢٦١
صفحة رقم 593
فهرس إجمالى لتفسير «سورة الإسراء»
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة مقدمة وتعريف بالسورة ٢٧٣ ١ سبحان الذي أسرى ٢٨١ ٢ وآتينا موسى الكتاب ٢٨٧ ٤ وقضينا إلى بنى إسرائيل ٢٨٩ ٩ إن هذا القرآن يهدى ٣٠٢ ١١ ويدع الإنسان بالشر ٣٠٤ ١٢ وجعلنا الليل والنهار آيتين ٣٠٦ ١٦ وإذا أردنا أن نهلك ٣١٤ ٢٣ وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ٣٢٣ ٢٦ وآت ذا القربى حقه ٣٣١ ٣١ ولا تقتلوا أولادكم ٣٣٦ ٤٠ أفأصفاكم ربكم بالبنين ٣٥٥ ٤٥ وإذا قرأت القرآن ٣٦٢ ٤٩ وقالوا أإذا كنا عظاما ٣٦٨ ٥٣ وقل لعبادي يقولوا ٣٧٢ ٥٦ قل ادعوا الذين زعمتم ٣٧٥ ٥٨ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها ٣٧٨ ٦١ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا ٣٨٦ ٦٦ ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر ٣٩٣ ٧٠ ولقد كرمنا بنى آدم ٣٩٨ ٧٣ وإن كادوا ليفتنونك ٤٠٣ ٧٨ أقم الصلاة لدلوك ٤٠٧ ٨٢ وننزل من القرآن ٤١٥ ٨٥ ويسألونك عن الروح ٤٢٠
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة ٩٠ وقالوا لن نؤمن لك ٤٢٧ ٩٤ وما منع الناس أن يؤمنوا ٤٣٢ ٩٧ ومن يهد الله فهو المهتد ٤٣٥ ١٠١ ولقد آتينا موسى تسع آيات ٤٤١ ١٠٥ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ٤٤٧ ١١٠ قل ادعو الله أو ادعو الرحمن ٤٥١
صفحة رقم 595
فهرس إجمالى لتفسير «سورة الكهف»
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة المقدمة ٤٥٧ ١ الحمد لله الذي أنزل ٤٦٤ ٩ أم حسبت أن أصحاب ٤٧٢ ١٣ نحن نقص عليك نبأهم ٤٧٩ ١٧ وترى الشمس إذا طلعت ٤٨٤ ١٩ وكذلك بعثناهم ليتساءلوا ٤٨٩ ٢١ وكذلك أعثرنا عليهم ٤٩٢ ٢٢ سيقولون ثلاثة رابعهم ٤٩٥ ٢٣ ولا تقولن لشيء إنى فاعل ٤٩٨ ٢٥ ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين ٥٠١ ٢٧ واتل ما أوحى إليك ٥٠٥ ٣٢ واضرب لهم مثلا رجلين ٥١٣ ٣٧ قال له صاحبه وهو يحاوره ٥١٧ ٤٢ وأحيط بثمره فأصبح ٥٢١ ٤٥ واضرب لهم مثل الحياة ٥٢٤ ٤٧ ويوم نسير الجبال وترى ٥٢٨ ٥٠ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا ٥٣٢ ٥١ ولقد صرفنا في هذا القرآن ٥٣٩ ٦٠ وإذ قال موسى لفتاه ٥٤٥ ٦٦ قال له موسى هل أتبعك ٥٥٢ ٧١ فانطلقا حتى إذا ركبا ٥٥٤ ٧٤ فانطلقا حتى إذا لقيا ٥٥٦ ٧٧ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل ٥٥٧
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة ٧٩ أما السفينة فكانت لمساكين ٥٥٩ ٨٠ وأما الغلام فكان أبواه ٥٦٠ ٨٢ وأما الجدار فكان لغلامين ٥٦٠ ٨٣ ويسألونك عن ذي القرنين ٥٦٨ ٩٩ وتركنا بعضهم يومئذ ٥٧٦ ١٠٣ قل هل ننبئكم بالأخسرين ٥٨٣ ١٠٧ إن الذين آمنوا وعملوا ٥٨٥ ١٠٩ قل لو كان البحر مدادا ٥٨٧
صفحة رقم 597
[المجلد التاسع]
تفسير سورة مريمبسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.وبعد فهذا تفسير لسورة «مريم» أكتبه بعد أن كتبت قبله تفاسير لسورة: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، الأنفال، التوبة، يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، النحل، الإسراء، الكهف...
والله- تعالى- أسأل، أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، ونافعا لعباده، وشفيعا لنا يوم نلقاه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد سيد طنطاوى صفحة رقم 5
تفسير سورة مريم
صفحة رقم 7
تعريف بسورة مريم
١- سورة مريم من السور المكية.
قال القرطبي: وهي مكية بالإجماع. وهي تسعون وثماني آيات «١».
وقال ابن كثير: وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة، من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة، أن جعفر بن أبى طالب- رضى الله عنه- قرأ صدر هذه السورة على النجاشيّ «٢».
وكان نزولها بعد سورة فاطر «٣».
٢- ويبدو أن تسميتها بهذا الاسم كان بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد أخرج الطبراني والديلمي، من طريق أبى بكر بن عبد الله بن أبى مريم الغساني عن أبيه عن جده، قال:
أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ولدت لي الليلة جارية. فقال: والليلة أنزلت على سورة مريم.
وجاء فيما روى عن ابن عباس، تسميتها بسورة كهيعص «٤».
وقد تكرر اسم مريم في القرآن ثلاثين مرة، ولم تذكر امرأة سواها باسمها الصريح.
٣- والذي يقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل، يراها زاخرة بالحديث عن عدد من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-.
فقد افتتحت بالحديث عن تلك الدعوات التي تضرع بها زكريا إلى ربه، لكي يهب له وليا، يرثه ويرث من آل يعقوب.
وقد استجاب الله- تعالى- دعاء زكريا، فوهبه يحيى كما قال- تعالى-: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا.
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن قصة مريم، بصورة فيها شيء من التفصيل، فذكرت اعتزالها لقومها ومجيء جبريل إليها وما دار بينه وبينها من محاورات، ومولدها لعيسى وإتيانها
(٢) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ١١٠.
(٣) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج ١ ص ٢٧.
(٤) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٥٦.
به قومها، وما دار بينها وبينهم في شأنه. ثم ختمت هذه القصة بالقول الحق في شأن عيسى، قال- تعالى-: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
٥- ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن طرف من قصة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس، وختمت حديثها عن الرسل الكرام بقوله- تعالى-: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ. وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ. وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا، إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا.
٦- ثم حكت السورة الكريمة أنماطا من الشبهات التي تفوه بها الضالون، ومن هذه الشبهات ما يتعلق بالبعث والنشور، ومنها ما يتعلق بموقفهم من القرآن الكريم ومنها ما يتعلق بزعمهم أن لله ولدا... وقد ردت على كل شبهة من هذه الشبهات بما يبطلها، ويخرس ألسنة قائليها.
ومن ذلك قوله- تعالى-: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً.
وقوله- سبحانه-: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً. أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً. كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا. وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً.
وقوله- عز وجل-: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً.
٧- ومن هذا العرض الإجمالى لآيات السورة الكريمة، يتبين لنا أن سورة مريم قد اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى-، وعلى نفى الشريك والولد عن ذاته- سبحانه-، كما اهتمت- أيضا- بإقامة الأدلة على أن البعث حق، وعلى أن الناس سيحاسبون على أعمالهم يوم القيامة.
كما زخرت السورة بالحديث عن قصص بعض الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- تارة بشيء من التفصيل كما في قصة زكريا وعيسى ابن مريم، وتارة بشيء من الاختصار والتركيز كما في قصة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس.
كما نراها بوضوح تحكى شبهات المشركين. ثم ترد عليها بما يبطلها...
وقد ساقت السورة ما ساقت من قضايا، بأسلوب عاطفى بديع، يهيج المشاعر نحو الخير والحق والفضيلة، وينفر من الشر والباطل والرذيلة، ويطلع العقول على نماذج شتى من مظاهر رحمة الله- تعالى- بعباده الصالحين ترى ذلك في مثل قوله- تعالى-: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا.
وفي مثل قوله- سبحانه-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا.
٨- قال بعض العلماء ما ملخصه: والظل الغالب في جو السورة هو ظل الرحمة والرضا والاتصال. فهي تبدأ بذكر رحمة ربك لعبده زكريا. ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيرا. ويكثر فيها اسم الرَّحْمنِ.
وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية. ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال، كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته...
كذلك تحس أن للسورة إيقاعا موسيقيا خاصا، فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء، وفيه عمق كألفاظ: رضيا، سريا، حفيا، نجيا...
فأما المواضع التي تقتضي الشدة والعنف، فتجيء فيها الفاصلة مشددة في الغالب، كألفاظ: ضدّا، هدّا، إدّا، أزّا «١».
وبعد فهذا تعريف لسورة مريم، نرجو أن يكون القارئ له، قد أخذ صورة مركزة عن أهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.