
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: لعلّ ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بالقوم الذين يبعثهم الله عليكم ليسوء مبعثه عليكم وجوهكم، وليدخلوا المسجد

كما دخلوه أوّل مرّة، فيستنقذكم من أيديهم، وينتشلكم من الذلّ الذي يحله بكم، ويرفعكم من الخمولة التي تصيرون إليها، فيعزّكم بعد ذلك، وعسى من الله: واجب، وفعل الله ذلك بهم، فكثر عددهم بعد ذلك، ورفع خَساستهم، وجعل منهم الملوك والأنبياء، فقال جلّ ثناؤه لهم: وإن عدتم يا معشر بني إسرائيل لمعصيتي وخلاف أمري، وقتل رسلي، عدنا عليكم بالقتل والسِّباء، وإحلال الذلّ والصِّغار بكم، فعادوا، فعاد الله عليهم بعقابه وإحلال سخطه بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، عن عمر بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) قال: عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد. قال: فسلَّط الله عليهم ثلاثة ملوك من ملوك فارس: سندبادان وشهربادان وآخر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال الله تبارك وتعالى بعد الأولى والآخرة (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) قال: فعادوا فسلَّط الله عليهم المؤمنين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) فعاد الله عليهم بعائدته ورحمته (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) قال: عاد القوم بشرّ ما يحضرهم، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته، ثم كان ختام ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة؛ قال الله عزّ وجلّ في آية أخرى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).... الآية، فبعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) فعادوا، فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله

تعالى (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) قال بعد هذا (وَإِنْ عُدْتُمْ) لما صنعتم لمثل هذا من قتل يحيى وغيره من الأنبياء (عُدْنا) إليكم بمثل هذا.
وقوله (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: وجعلنا جهنم للكافرين سجنا يسجنون فيها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن مسعدة، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) قال: سجنا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) يقول: جعل الله مأواهم فيها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) قال: مَحْبِسا حَصُورا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) يقول: سجنا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى (حَصِيرًا) قال: يحصرون فيها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) قال: يُحصرون فيها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) سجنا يسجنون فيها حصروا فيها.
حدثنا عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) يقول: سجنا.
وقال آخرون: معناه: وجعلنا جهنم للكافرين فراشا ومهادا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن: الحصير: فِراش ومِهاد، وذهب الحسن

بقوله هذا إلى أن الحصير في هذا الموضع عني به الحصير الذي يُبْسط ويفترش، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا، فوجَّه الحسن معنى الكلام إلى أن الله تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا، كما قال (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) وهو وجه حسن وتأويل صحيح، وأما الآخرون، فوجهوه إلى أنه فعيل من الحصر الذي هو الحبس. وقد بيَّنت ذلك بشواهده في سورة البقرة، وقد تسمي العرب الملك حصيرا
بمعنى أنه محصور: أي محجوب عن الناس، كما قال لبيد:
وَمَقاَمةٍ غُلْبِ الرّقابِ كأنَّهُمْ | جِنٌّ لَدَى بابِ الحَصِيرِ قِيامُ (١) |
وشَارِبٍ مُرْبِحٍ بالكأْسِ نادَمَنِي | لا بالحَصُورِ وَلا فِيها بِسَوَّارِ (٢) |
قَلِيلا تَتَلَّى حاجَةً ثُمَّ عُولِيَتْ | عَلى كُلّ مَفْرُوشِ الحَصِيرَيْنِ بادِنِ (٣) |
(٢) تقدم شرح هذا الشاهد في الجزء الثالث من هذا التفسير (ص ٢٥٥).
(٣) البيت في ديوان الطرماح بن حكيم (طبع ليدن سنة ١٩٢٧ ص ١٦٤) وقتلى الشيء: تتبعه وتتلى أيضا: بقي بقية من دينه. وعوليت: ذهب بها إلى العالية، وهي نجد والحصير سفيفة تصنع من بردي وأسل ثم تفرش.