آيات من القرآن الكريم

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا
ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ

لا يدوم وسيوقع الله بهم ما أوقعه بأسلافهم لأنهم عنصر شر ويأبى الله للشر أن يدوم، ومعول ظلم ويأبي كرم الله إقراره، راجع الآية ١٦٧ من سورة الأعراف المارة، «وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» ٨ سجنا يوم القيامة، وقد نطقت به العرب قال لبيد:

ومقامة غلب الرقاب كأنهم جن على باب الحصير قيام
والمقامة الجماعة، قال:
وفيهم مقامات حسان وجوههم كأنّما النور منها ثمّ ينبثق
وغلب في البيت الأول معناه غلظ، والمراد أن عذابهم هذا بالقتل والي والذل والقهر والحقارة والصغار ما داموا على ما هم عليه في الدنيا وفي الآخرة، فإن موعدهم جهنم لا مخلص لهم منها أبدا، قال تعالى «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ» المنزل عليك يا سيد الرسل «يَهْدِي لِلَّتِي» الطريقة هِيَ «أَقْوَمُ» أعدل وأصوب من الطرق الأولى قبلها «وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ» في هذه الدنيا «أَنَّ لَهُمْ» عند الله في الآخرة «أَجْراً كَبِيراً» ٩ جزاء أعمالهم الكريمة، وهذا الأجر هو الجنة ونعيمها ولا أكبر منه أبدا «وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» في حياتهم الدنيا وينكرون وجودها ويكذبون من أخبرهم بها «أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» ١٠ في الآخرة هو جهنم التي لا آلم من عذابها،
قال تعالى «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ» جنسه وأسند إليه حال بعض أفراده أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه، وحذفت واو يدع لفظا دون جازم لأنها تحذف في الوصل لاجتماع الساكنين وتحذف بالوقف وهي مرادة معنى حملا للوقوف على الوصل، أي أن بعض أفراد الإنسان حال غضبه يدعو على نفسه «بِالشَّرِّ» وقد يتعدى بدعائه على ماله وولده وقومه بالهلاك واللعن «دُعاءَهُ» مثل دعاءه «بِالْخَيْرِ» لنفسه وولده وماله وعشيرته عند الرضاء بطلب البقاء لهم وطول البركة فيهم، وهذا ناشىء من عدم تأنيه وتؤدته «وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» ١١ يتسرع بالأمر تسرع الغافل إلى طلب كل ما يخطر بباله متعاميا عن ضره لا يتبصر بعاقبة أمره، والآية عامة في كل إنسان هذا ديدنه، وخصه بعض المفسرين بالكافر بأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل بطلب نزوله

صفحة رقم 450

سخرية، كدعائه بالخير إذا مسته الشدة حقيقة، على أن العذاب آتيه لا محالة استعجل به أم لا، سخر فيه أم لا، فإذا فاته عذاب الدنيا لحقه عذاب الآخرة، وقال ابن عباس نزلت في النضر بن الحارث إذ قال (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا) الذي يقوله محمد (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية ٣٣ من الأنفال في ج ٣، وقال إنّ الله أجاب دعاءه وقيض له من ضرب عنقه وقتل صبرا، إلا أنه غير وجيه، لأن هذه الآية لم تنزل بعد، وهناك أقوال أنها بحق آدم عليه السلام، ولكن لا يوثق بصحتها، لذلك فإن ما جرينا عليه من الإطلاق أولى ليدخل فيها كل من هذا شأنه وأنسب بالمقام قال تعالى «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ» هذا شروع في بعض ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالدلائل الآفاقية، لأن الله تعالى قال هنا (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي) إلخ الآية المارة، وقال في حقه صلّى الله عليه وسلم (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الآية ٥٣ من الشورى في ج ٢، أي الطريق الأمثل السوي.
فقد وصف الله كتابه ورسوله بأنهما يدعوان الناس لأن يهتدوا بالطريقة القيّمة المستقيمة إلى الدين القيم السويّ، ولا يراد بالتفضيل هذا اسم للتفضيل على معنى أنها أفضل من غيرها، إذ لا مشاركة بين ما يهدي إليه القرآن وبين ما يهدي إليه غيره، فالمراد بالأقوم القيم على حد قوله تعالى (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) الآية ٣ من سورة البينة في ج ٣، (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) الآية ٥ منها، وهو على حدّ قوله تعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الآية ٢٧ من سورة الروم في ج ٢، فهو بمعنى هين، إذ لا شيء على الله أهون من غيره في الخلق والصنع والإبداع، بل كلها عنده سواء، والمعنى أن قومك يا أكرم الرسل يأبون الملة الحسنى ويريدون التي ألوم وهي عبادة الأصنام التي يكثر لومهم عليها في الدنيا والآخرة، ويستعجلون بطلب نزول العذاب ويدعون على أنفسهم بالشر وهم تائهون في ذلك. هذا وقد جاء النهي صريحا في المنع من دعاء الرجل على نفسه وماله وأهله، فقد أخرج ابو داود والبذار عن جابر قال قال رسول صلّى الله عليه وسلم: لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم، لئلا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم. أما ما وقع من أن حضرة الرسول دعا على بعض أهله فهو للزجر، فعلى العاقل أن يتجنب

صفحة رقم 451

الدعاء بالشّر ولو كان حال غضبه لئلا بصادف ساعة الإجابة فيندم ولات حين ندم، وعدا عن هذا فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام انه قال: اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرض كما يرضى البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة. ولأن غضبة صلّى الله عليه وسلم ليس بخارج عن حكم الشرع لأنه لا يغضب إلا لله كما أن رضاء. لا يكون إلا لله، وهو مأمور بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» العظيمة الدالة على قدرتنا والناشئ عنها مصالح العباد التي لا تتم إلا بها، لأن القرآن كما أوصل الى الخلق نعم الدين فيوصل في هذا الكوكب إليهم ما يكمل به نعم الدنيا.
مطلب الشمس والقمر والفصول الأربعة والليل والنهار وساعاتهما:
والمراد بالمحو هو عدم جعل قوة القمر بالإضائة مثل الشمس «وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ» التي هي الشمس «مُبْصِرَةً» مضيئة جدا يبصر فيها كل شيء، ولولا ذلك لما علم الليل من النهار ولا عرف الحساب ولتعطلت الأمور، فالنهار آية عظيمة دالة على قدرة الله مكملة نعم الدنيا، وقد أودع الله تعالى فيها ما أودع من منافع، راجع الآية ٣٧ من سورة يس المارة، وما ترشدك إليه من الآيات قال ابن عباس جعل الله تعالى نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك، فمحا من نور القمر تسعة وستين فجعلها مع نور الشمس، وقال بعض المفسرين إن الإضافة بيانية فيكون المعنى فمحونا الآية التي هي الليل فجعلناها مطموسة مظلمة لا يبصر بها، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة تبصر فيها الأشياء إلا أن ظاهر الآية يؤيد الأول الذي جرينا عليه، لأنه الحقيقة ولا يعدل عنها بلا ضرورة هنا، لا سيما وقد ورد الأثر به، فقد أخرج عبد ابن حميد وغيره عن عكرمة ما قاله ابن عباس بزيادة فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزأ والقمر على جزء واحد، وهذه النسبة بالنظر لقوة الضياء ما بين الشمس والقمر، وإلا فالشمس من حيث الحجم أكثر بكثير من القمر كالبعد منه بالنسبة للأرض، ولا يعلم كنهها على ما هي عليه حقا إلا الله، لأن تقدير الفلكيين عبارة عن ظن وتخمين ليس إلا مهما بالغوا وقالوا، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال كانت شمس بالليل وشمس بالنهار

صفحة رقم 452

فمحا الله شمس الليل فهو المحو الذي في القمر، وأخرج البيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر عن سعيد البصري ان عبد الله بن سلام سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر فقال كان شمسين وقال قال الله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) فالسواد الذي رأيت هو المحو هذا وأنت عليم انه متى دل أثر صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يدعى أن غيره أولى، ثم بين الله تعالى سببا ظاهريا بالنّسبة لما يدخل في عقول الذين لم يتطرقوا الى الأسباب الأخرى التي هي من العلم الذي علمه الله تعالى لرسوله ولم يأمره بتبليغه كما مر في المعجزة الثامنة والخمسين قال تعالى «لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» فيه من طلب المعاش وغيره، إذ لا يتسنى ذلك لكم في الليل بسبب ابتغائكم الراحة فيه «وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» بسبب اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بانتظام بديع لا يتغير، فتعرفوا المواسم وأوقات الحج ومواقيت السحر والإفطار بالصوم ومواعيد حلول آجال ديونكم واجاراتكم، ومدد المعاهدات التي تضربونها بينكم، فالعدد للسنين والحساب للشهور والأيام والساعات، ولا بعد هذه المراتب الأربعة إلا التكرار، على أن اختلاف القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه، مثل المدّ والجزر، ومثل أحوال البحرانات، وللفلاسفة في بحث محو القمر كلام طويل لا محل له هنا، وللأثريين فيه أقوال متخالفة، فمنهم من هو منهمك في وسائل الوصول إليه للوقوف محلى ما يتخيلونه فيه، ولعمري أن جل ما يقولونه مبني على الحدس والحدس خطأه أكثر من صوابه، لذلك لم نذكر شيئا مما قالوه فيه ومن أراد استيفاء البحث فيه فليراجع كتبهم، ومنهم من يتكهن فيه وبما فيه، ومنهم من اشتغل بنوره وكيفية اقتباسه من الشمس وبعده وقربه منها الى غير ذلك، هذا وقد عبّر الله تعالى عن الرزق بالفضل، وعن الكسب بالابتغاء، لأن العبد لا تأثير له في تحصيل الرزق إلا بالطلب، والإعطاء منوط بالله تعالى بطريق التفضل لا بالوجوب وتأثير الطلب مثل تأثير الأسباب العادية لا تتوقف حقيقة الرزق عليه، وقد جاء في الخبر يطلبك أجلك. ولله در القائل:

صفحة رقم 453

لقد علمت وما الإسراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعيبني تطلبه ولو قعدت؟؟؟ لا يعييني
وإنما قال تعالى لتعلموا بلام التعليل لما قبله من الليل والنهار، لأن الحساب نوعان شمسي وقمري، فما هو خاص بالأمور التعبدية كالحج والأهلية فهو قمريّ قال تعالى (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية ١٨٩ من البقرة في ج ٣ وما يتعلق بالأمور الدنيوية فيجوز بالقمري والشمسي، هذا واعلم أن العرب قديما قسموا النهار الى اثنتي عشرة ساعة وسموا الأولى الذّرور، والثانية البزوغ، والثالثة الضحى، والرابعة الغزالة، والخامسة الهاجرة، والسادسة الزوال، والسابعة الدلوك، والثامنة العصر، والتاسعة الأصيل، والعاشرة الغيور، الحادية عشرة الحدور، والثانية عشرة الغروب، ومنهم من سمى الأولى البكور ثم الشروق ثم الإشراق ثم الرّاد ثم الضحى ثم المنوع ثم الهاجرة ثم الأصيل ثم العصر فالطفل فالعشي فالغروب.
وقسمو الليل الى اثنتي عشرة ساعة أيضا فسموا الأولى الشاهد، والثانية الغسق، والثالثة القمة، والرابعة الفحمة، والخامسة الموهن، والسادسة القطع، والسابعة الجوشن، والثامنة الهتكة، والتاسعة التباشير، والعاشرة الفجر الأول، والحادي عشرة الفجر الثاني، والثانية عشرة الفجر المعترض، وقسمت الشهور الاثني عشر الى ثلاثين وتسعة وعشرين، وسمت كل ثلاثة أيام باسمه، فالأولى هلال، والثانية قمر، والثالثة بهر، والرابعة زهر، والخامسة بيض، والسادسة درع، والسابعة ظلم، والثامنة حنادس، والتاسعة دآدي، والعاشرة ليلتان منها محاق وليلة سرار، وسموا الشهور المتعارف عندنا أسماؤها الآن لمعان متعارفة عندنا، فالمحرم كانوا يحرمون فيه القتال، وصفر كانوا يغيرون فيه على بلاد الصفرية، والربيعان كانوا يحصلون فيها ما أصابوه في صفر، والجماد إن كانت تسميتها زمن جمود الماء من شدة البرد، ورجب من الترجيب أي التعظيم، فإنهم لا يقاتلون فيه، وشعبان لتشعبهم فيه من كثرة الغارات بعضهم على بعض بعد ما كانت محرمة في رجب، ورمضان صادفت تسميته الحر الشديد أخذا من الرمضاء أي الحرارة القوية، وشوال كانوا يتعاهدون فيه إبلهم لأنه أول أشهر الحج أخذا من قولهم شالت الإبل بأذنابها تحضيرا للسفر،

صفحة رقم 454

وذو القعدة لقعودهم فيه عن القتال لأنه من الأشهر الحرم، وذو الحجة لوقوع الحج فيه، وكانوا يجرون حسابهم من عقود وغيرها بالأشهر العربية من رؤية هلال كذا الى رؤية هلال كذا، ولما كانت المواسم العربية لا تعين الشهور الأربعة لأنها تقع كلها بدوران السنين وكانوا بحاجة لمعرفة المواسم لزراعتهم اضطروا الى الاستعانة بالتقاويم الأجنبية القبطية والفارسية والسريانية والرومية التي مبناها على حركة الشمس، وصارت تبني حسابها عليها أيضا من جهة المواسم فقط، والحساب القبطي ينسب للملك دقلديانوس، والسرياني للاسكندر المقدوني، والرومي لأغسطس قيصر ملك الروم، وكذلك الفرس والسرياني فقد وضعهما لهما ملوكهما. هذا والله أعلم، راجع الآية ٢٧ من سورة يس المارة، وما ترشدك إليه فيما يتعلق في هذا البحث ومجرى الشمس والقمر وأيام السنين وغيرها. ولما ذكر الله تعالى أحوال آيتي الليل والنهار وأنهما دليلان من أدلة توحيده ونعمتان من نعمه على أهل الدنيا قال «وَكُلَّ شَيْءٍ» من أمور دينكم ودنياكم وما تحتاجونه في معاشكم ومعادكم «فَصَّلْناهُ» بيناه لكم «تَفْصِيلًا» ١٢ واضحا كافيا وشرحناه على لسان نبينا شرحا شافيا لا التباس فيه ولا شك ولا شبهة، إذ أظهرنا لكم كل ما تفتقرون إليه فلم نبق لكم حجة تحتجون بها، قال تعالى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) الآية ٤٩ من سورة النحل ج ٢، وقال تعالى (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)
الآية ١١٣ من النساء في ج ٣، فتبين في هذا أن هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلّى الله عليه وسلم يهدي للتي هي أقوم، قال تعالى «وَكُلَّ إِنسانٍ» ذكر أو أنثى كبيرا أو صغيرا، لأن النكرة المضافة تكون بمثابة العموم، وجاءت من باب التغليب، وإلا فيقال إنسانة، قال:
إنسانة فتّانة... بدر الدجى منها خجل
«أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ» شؤمه وسعده الذي هو نتيجة عمله في دنياه من خير أو شر، وهو نصيبه وحظه الذي قسمناه له في الأزل مما يتشاءم أو ينفاءل فيه وطوقناه «فِي عُنُقِهِ» كالقلادة، وخصّ العنق لأنه مما يزين أو يشين، فإن كان عمله صالحا كان زينة له كالحلى، وإن كان طالحا كان مشينا كالغل، أعاذنا الله، ومعنى

صفحة رقم 455

اللزوم كناية عن عدم المفارقة له «وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً» مثبتا فيه عمله في دنياه ليحاسب عليه يوم البعث «يَلْقاهُ مَنْشُوراً» ١٣ أمامه ليطلع عليه ويعلم أن ملائكة الله لم تظلمه بشيء ولم تنقص من عمله شيئا لأن هذا الكتاب قد سجله الحفظة الموكلون به وضبطوا فيه حركاته وسكناته، فإذا مات طوى وحفظ بمكان عند الله، فإذا بعث من قبره أخرج وعرض عليه في موقف الحساب ويقال له «اقْرَأْ كِتابَكَ» الذي دونّاه في حسناتك وسيئاتك، وانظر إلى عللها وأسبابها وأزمنتها وأمكنتها، وتأمل هل ظلمك الملك بكتابة ما لم تفعله أو بعدم كتابة ما فعلته من شر أو خير؟ ويعطي الله تعالى إذ ذاك كل أحد قوة القراءة ليشهد هو على نفسه، ولهذا المغزى يشير قوله تعالى «كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» ١٤ وهذا غاية في العدل ونهاية في الإنصاف إذ اكتفى الله من عبده أن يكون هو محاسبا لنفسه فلم يبق في حاجة إلى استشهاد الشهود والطعن فيهم، وهذا مظهر قوله تعالى في الآية ٢٩ من سورة ق المارة (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ونظائرها إذ لا يؤاخذ الله أحدا إلا باعترافه الاختياري، لأنه أولا لا يستطيع أن ينطق بغير الواقع، ثانيا إذا سكت أو تعلثم نطقت جوارحه بما اقترفت، فيسأل عنها فلا يقدر أن أن ينكر شيئا وما بعد الاعتراف حجة. قال الحسن: لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك. وقيل إن الكافر يقول يا رب إنك لست بظلام، فاجعلني أحاسب نفسي. وقيل إنه يقول يا رب لا أقبل علي شاهدا من غيري، فيقال له:
(اقرأ كتابك) إلخ. والباء في بنفسك للتأكيد ويجوز إسقاطها في غير القرآن
ورفع الاسم بعدها وعليه قوله:... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وقوله:
ويخبرني عن غائب المرء هديه... كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
والمراد بالنفس ذات الإنسان وشخصه، وما قيل إن المراد بالنفس جوارح الإنسان لا يتأتى هنا، لأنه على خلاف ظاهر الآية، قال تعالى «مَنِ اهْتَدى» في هذه الدنيا بهداية هذا القرآن وعمل بما فيه من الأحكام وآمن بمنزله والمنزل عليه «فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» فيعود نفع هداه لهالا يتخطاها إلى غيره «وَمَنْ ضَلَّ» هداه وخالف ما جاءه فيه «فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» فيعود وبال ضلاله على نفسه خاصة

صفحة رقم 456

«وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» وهذه الجملة كالتأكيد لما قبلها، أي لا تحمل نفس حاملة لوزرها وزر نفس أخرى غيرها، فلا يؤاخذ أحد بذنب الآخر قريبا كان أو بعيدا بل كل أحد مختص بذنبه، وهذه شريعة إبراهيم عليه السلام فمن بعده وكانت شريعة من قبله جارية بمؤاخذة القريب بقريبه، راجع الآية ٦٨ من سورة والنجم المارة، وكانت هذه العادة في الجاهلية ثم نفاها الإسلام، ولكن أعراب البادية حتى الآن متمسكون فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله. وانهم كانوا في مبادئ الإسلام أشد كفرا ونفاقا راجع الآية ٩٦ من سورة التوبة في ج ٣، وهم الآن أشد عتوا وبغيا وطغيانا وعنادا، لأنهم حتى الآن لا يعرفون من الدين إلا اسمه ومن الشرع إلا رسمه. قال ابن عباس نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة لما قال لقومه اكفروا بمحمد وعلي أوزاركم، إلا أن لفظ الآية عام فبقاؤها على عمومها أولى، فيدخل فيها هو وغيره ممن على شاكلته.
مطلب في أولاد المشركين وأهل الفترة:
وما قيل إنها نزلت في أطفال المشركين لا صحة له واستدل الجبائي بهذه الآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وهذه من المسائل الخلافية لتصادم الأحاديث والأخبار في ذلك قال بعض العلماء هم في النار تبعا لآبائهم، واستدل بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين، قال في الجنة، وسألته عن ولدان المشركين اين هم؟ قال في النار، قلت يا رسول الله لم يدركوا لأعمال ولم تجر عليهم الأفلام، قال ربك أعلم بما كانوا عاملين (أي لو بلغوا الحلم) والذي نفسي بيده إن شئت أسمعنك تضاغيهم في النار. إلا أن هذا الخبر قد ضعّفه ابن عبد البر، فلا يحتج به. وأنت عليم بأن الحديث إذا طرقه الاحتمال يفقد صلاحيته للاستدلال، وإنما صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه سئل عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين، وتوقف بعضهم فيهم ومنهم أبو حنيفة، والقول الصحيح أنهم ناجون لقوله تعالى «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ» أحدا من خلقنا «حَتَّى نَبْعَثَ» له «رَسُولًا» ١٥ يرشده في الدنيا لإقامة الحجة عليه وقطعا للمعذرة، حتى إذا لم يهتدوا بهديه عذبهم الله بنوع من أنواع العذاب في

صفحة رقم 457

الدنيا وفي الآخرة بالعذاب الأليم في جهنم، أي أن الله تعالت رأفته يقول ما صحّ عنا وما وقع منا بل استحال على سنتنا المبيّنة على الحكم البالغة أن نعذّب أحدا من خلقنا بعذاب دنيوي أو أخروي على فعل شيء وتركه أصليا كان أو فرعيا قبل أن نرسل إليه من يحذره وينذره ويبشره، وعلى هذا لا يستقيم القول بتعذيب أولاد المشركين كأهل الفترة، يؤيد هذا ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه رأى إبراهيم عليه السلام في الجنّة وحوله أولاد الناس، قالوا يا رسول الله وأولاد المشركين؟
قال وأولاد المشركين- رواه البخاري في صحيحه- والحديث الذي أخرجه الترمذي في النوادر رواه ابن عبد البر عن أنس قال سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم خدم أهل الجنة والآية هذه صرحت بأن لا تعذيب قبل التكليف، والذي هو دون البلوغ لا يتوجّه عليه التكليف. واعلم أنه لم يخالف أحد يكون أولاد المسلمين في الجنّة إلا من لا يعتدّ بقوله لقوله صلّى الله عليه وسلم ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله تعالى في الجنة بفضله ورحمته إياهم.
أما من احتج بحديث عائشة رضي الله عنها الذي قالت فيه لما توفي صبي من الأنصار:
طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه، فقال لها صلّى الله عليه وسلم:
أو غير ذلك يا عائشة، إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. فإن هذا القول المتضمن معنى النهي لها رضي الله عنها هو نهي عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون لها دليل قاطع، وهذا مثل إنكاره على سعد بن أبي وقاص في قوله لحضرة الرسول بحقّ رجل حضر تقسيم الصدقة للفقراء من قبله صلّى الله عليه وسلم أعطه إني لأراه مؤمنا قال صلّى الله عليه وسلم أو مسلما، الحديث، ولا يبعد أنه صلّى الله عليه وسلم قال هذا الحديث قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ما ذكر من الأحاديث التي أثبتناها أعلاه، وقدمنا في الآية ٤٦ من القصص بان لا وجه لقول من فسر الرسول في هذه الآية بالعقل، لأن حقيقة الرسول هو النبي المرسل والأصل في الكلام الحقيقة، وما قيل إن المراد نفى المباشرة قبل البعثة لا مطلق التعذيب، مردود، لأن من شأن عظيم القدر للتعبير عن نفى التعذيب مطلقا، ولا يوجد ما يقيدها لا بنوع

صفحة رقم 458

التعذيب ولا بنفي العذاب عن أناس دون أناس، والقيد من شأن البشر تعالى الله وكلامه عن ذلك، وما قيل إن نفي التعذيب لا يستلزم نفي استحقاق العذاب لجواز سقوطه بالمغفرة مردود أيضا، لأن الآية تدل على انتفاء التعذيب قبل البعثة، وانتفاؤه قبلها ظاهر، يدل على عدم الوجوب قبلها، فمن أدعى ان الوجوب ثابت وقد وقع التجاوز عنه بالمغفرة فعليه البيان. هذا وما روى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال لو لم يبعث الله تعالى رسولا لوجب على الخلق معرفته بالعقل لأن العقل حجة من حجج الله تعالى يجب الاستدلال به قبل ورود الشرع، لا ينطبق على تفسير هذه الآية، لأن معرفة الله تعالى غير اخباره بنفي العذاب عمن لم يرسل لهم رسولا، وهي حقيقة واجبة بالعقل لأن ابراهيم عليه السلام لما قال لأبيه وقومه (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية ٧٣ من الأنعام في ج ٢ لم يقل عليه السلام أوحى إلي لأنه رأى عبادتهم غير معقولة عقلا، فضلا عن أنها منافية للشرائع، ولأن العقل حجة في معرفة الصانع تعالى ووحدانيته وتنزيهه عن الولد والصاحبة قبل ورود الشرع إليه، وكذلك استدلاله بالنجوم على معرفة الله وجعلها حجة على قومه، راجع الآية ٧٥ فما بعدها من سورة الأنعام المذكورة، وهكذا فإن كل الرسل حاجّوا قومهم بحجج العقل، لكن لا يراد من هذا الاستدلال جعل معنى الرسول في الآية هو العقل، كلّا لأنه مخالف لاستعمال القرآن، (قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) الآية ٥١ من المؤمن في ج ٢، ولم يقل لهم أولم تكونوا عقلاء، وحاصل الكلام أن تفسير الرسول في هذه الآية بمعنى العقل لا يرتضيه العقل، هذا وإن ما احتج به من يقول إن أهل الفترة غير ناجين، وان بعض ذراري المشركين والمؤمنين ناجون، وبعضهم هالكون هو ما أخرجه أحمد وابن راهوية وابن جردوية والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال أربعة يحتجون يوم القيمة رجل أصمّ لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول يا رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول رب جاء الإسلام والصبيان يخوفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول رب ما أتاني منك رسول، فيأخذ سبحانه مواثيقهم

صفحة رقم 459

ليطيعنّه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها سحب إليها. وأخرج قاسم بن اصبغ والبزار وابو بعلى وابن عبد البر في التمهيد عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يؤتى يوم القيامة بأربعة: المولود والمعتوه ومن مات في العترة والشيخ الهرم الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم (لجزء منها) ابرزي، ويقول لهم إني كنت أبعث لعبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم، فيقول لهم أدخلوا هذه، فيقول من كتب عليه الشقاء يا رب أندخلها ومنها كنا نفرّ وأما من كتبت له السعادة فيمضي فيقتحم فيها، فيقول الرب تعالى قد عاينتموني فعصيتموني، فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار
واخرج الحكيم الترمذي من نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلا، وبالهالك وبالفترة، وبالهالك صغيرا، فيقول الممسوح عقلا، أي المجنون يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني، ويقول الهالك في الفترة يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني، ويقول الهالك صغيرا يا ربي لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني، فيقول لهم الرب تبارك وتعالى فاذهبوا وادخلوا جهنم ولو دخلوها ما ضرتهم شيئا، فتخرج عليهم قوابص (جمع قبصات التي هي جمع قبصة وهو ما يتناول بأطراف الأصابع وهو كناية عن قليل من النار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله) فيرجعون سراعا ويقولون يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أنها أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء، ثم يأمرهم ثانية فيرجعون لذلك، ويقولون كذلك، فيقول الرب تعالى خلقتكم على علمي والى علمي تصيرون، يا نار ضمّيهم، فنأخذهم النار وقدمنا في آخر سورة طه المارة ما يتعلق بهذا البحث فراجعه قال في الإصابة أن هذه الأحاديث وإن وردت من عدة طرق فمعارضها أصحّ منها للأدلة السابقة وغيرها، على أن الحديث مهما كان لا يعارض القرآن وان كان متواترا فما بالك بأحاديث لم تبلغ درجة الصحة، قال تعالى «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً»
من القرى والمراد بالإهلاك أهلها من اطلاق المحل وارادة

صفحة رقم 460

الحال فيه، كما تقول سال الوادي أي سال الماء فيه، لأنه ثابت مكانه «أَمَرْنا مُتْرَفِيها»
بالعمل الصالح والطاعة لنرفع عنهم العذاب، لأن المنعمين والرؤساء إذا ركنوا وخضعوا لأوامر الله كان غيرهم أخضع له وأطوع واكثر إذعانا، لأن أكثرهم تبع لهم، وقرىء «أمرنا» بالتشديد أي جعلناهم الأمراء، وإذا كان الجبابرة والفساق أمراء الناس فبشرهم بالدمار إذ أريد بهم الشر، وإذا كان الصلاح والمتقون أمراءهم فبشرهم بالفلاح والنجاة والنجاح والفوز بالدنيا والآخرة «فَفَسَقُوا فِيها»
في أهالي القرية غير مكترثين بإرشاد الرسل وأصروا على عنادهم وخرجوا عن الطاعة «فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ»
المبين في الآية ١٩- ٣٣ من سورة يونس والآية ١١١ من سورة هود والآية ٤٥ من سورة فصلت والآية ١٤ من سورة الشورى في ج ٢ والآية ١٢٩ من سورة طه المارة وجب على أهلها الوعيد بالعقاب والإهلاك إذ لم يفعلوا ما أمروا به ولم يصغوا الى قول الله ورسوله «فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً»
١١ بانزال العذاب المقدر على أهلها فأهلكناهم فيه وخربنا ديارهم، وهذا هو معنى التدمير لما فيه من محو الأثر للمحل والحال فيه، وقيل أن أمرنا بمعنى سعرنا واستدل على هذا المعنى بما أخرجه احمد وابن أبي شيبة في سنديهما والطبراني في الكبير من حديث سويد بن هبيرة: خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة.
أي كثيره النتاج والسكة الطريقة المصطفة من النخل والمأبورة الملقحة، وإذا أريد سكة الحراثة فيراد بالمأبورة مصلحة والمهرة المأمورة كثيرة النسل، أي أن خير المال نتاج أو زرع، وعليه يكون المعنى كثرنا جبابرتها وملوكها وخصهم بالذكر مع توجه الأمر الى الكل لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال، لأن توجه الأمر إليهم آكد، ولأن غيرهم تبع لهم، ولأن الناس عبيد الدرهم والدينار والجاء والمنصب، على أن البلاء يعم قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية ٢٥ من سورة الأنفال في ج ٣، وجاء عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت زينب قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم

صفحة رقم 461

إذا كثر الخبث- رواه البخاري ومسلم-، كلمة ويل تقال لمن وقع في هلكة أو أشرف أن يقع فيها، والخبث الشر، قال تعالى «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ» الخالية قرونا كثيرة «مِنْ بَعْدِ نُوحٍ» كقوم عاد وثمود وغيرهم ولم يقل من بعد آدم، لأن نوحا عليه السلام يعد أبا البشر الثاني ولم يبلغ قوم من العصيان والتكذيب قبله مثل ما بلغه قوم نوح، ولأنهم أول قوم استؤصلوا بالعذاب، وكان قبله يقع العذاب على أناس مجرمين دون غيرهم كي يعتبر الآخرون فيقلعون عما هم عليه ويرجعون إلى ربهم ولما لم ينجح بهم وصاروا لا ينكرون على غيرهم ما هم به متلبسون من معاصي الله عمم العذاب، ولهذا ذم الله تعالى بني إسرائيل بقوله جل قوله (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ)
الآية ٨٢ من سورة المائدة في ج ٣. واعلم ان القرن أقله ثلاث وثلاثون سنة وأربعة أشهر وأكثره مائة وعشرون سنة، فكل ثلاثة قرون عصر أي قرن باعتبار القرن عصرا والعصر مائة سنة فقط. روي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بشر المازني أن النبي صلّى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال سيعيش هذا الغلام قرنا قال محمود بن القاسم مازلنا نعدّله حتى تمت له مائة سنة أيضا «وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ» وإن بالغوا في إخفائها وكتمها وأرخوا الستور حال فعلها «خَبِيراً» بها «بَصِيراً» ١٧ لأنه عالم بجميع ما يقع في ملكه من المعلومات راء المرئيات كافة، فكل ما يفعله العباد حال في علمه قبل أن يفعلوه وبعده، فعلمه بالقبلية والبعدية سواء، لا يتغير علمه في حال من الأحوال جل علمه، وهو القائل «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ» منكم أيها الناس وسميت الدنيا العاجلة لقلة زمنها فهي كالعربون الذي يأخذه البائع من المشترى «عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ» تعجيله له من نعيمها لا ما يشاء هو وذلك «لِمَنْ نُرِيدُ» نحن من طلابها لا لكل من أرادها كل فليس متمني يعطى ما يتمناه بل قد يعطي بعضهم كله وبعضهم بعضه، وقد يحرم البعض البتة فيخسرون الدنيا والآخرة ويجتمع عليهم فقدها، أجارنا الله من ذلك «ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ» لطالب الدنيا الحاضرة رغبة فيها والآخرة التي لم يردها مكان ما عجلنا له في الدنيا «جَهَنَّمَ يَصْلاها» يحرق فيها ويقامي حرها حال كونه «مَذْمُوماً» مهانا محقرا على اختياره لها ملوما عليه ممقوتا بسببه

صفحة رقم 462

«مَدْحُوراً» ١٨ مطرودا مبعدا من الرحمة خائبا مما كان يأمل من فضل الله ورحمته ورأفته. هذا، وما قيل أن هذه الآية نزلت في المنافق الذي يغزو مع المسلمين لأجل الغنيمة لا الثواب غير وجيه، لأن السورة مكية إلا بعض آيات ليست هذه منها، ولا يوجد في مكة منافقون ولا غزو ولا غزاة إذ ذاك، وقد جاءت بلفظ عام، والمخاطبون بها هم مشركو مكة، وظاهرها يحصر معناها في الكفرة، لأنها تدل على الخلود في النار، وان صرفها الى الفسقة أو المهاجرين لطلب الدنيا والمجاهدين للغنيمة، وهم مؤمنون لا يستقيم على أحوالنا معشر أهل السنة والجماعة لأنا لا نقول إن صاحب الكبيرة يخلد بالنار وإن عقيدتنا تأباه قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) الآيتين ٤٧ و ١١٥ من النساء في ج ٣، ولهذا فإن ما دون الشرك من المعاصي منوط بالمشيئة ولا تحديد على الله أما على أقوال المعتزلة ومن نحا
نحوهم فنعم، لذلك أدرج الزمخشري الشيخ محمود جار الله في كشافه قبل رجوعه عن الاعتزال الفاسق في هذه الآية «وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ» وعمل لأجلها في دنياه توصلا لنعيمها «وَسَعى لَها سَعْيَها» اللائق بها المستحق لها بأن قام بما أمر الله وانتهى عما نهاه عنه «وَ» الحال أنه «هُوَ مُؤْمِنٌ» إيمانا صحيحا بنية خالصة، أما إذا كان كافرا أو عمله للرياء والسمعة والنفاق فلا ينتفع بإرادته إياها ولا بسعيه لها، لأن الله تعالى ذم المرائين بقوله جل قوله الذين يراؤن الآية ٦ من الماعون المارة وكذلك من يتعبد في الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها، فهؤلاء يكافئهم الله على أعمالهم الحسنة بالدنيا بإطالة أعمارهم وتوسيع رزقهم ومعافاتهم من الأمراض والأكدار حتى يلقوا الله تعالى وليس لهم حسنة يكافئون عليها بالآخرة، كما أن المؤمن قد يجازيه الله على أعماله السيئة بالمرض وضيق العيش ونقد الأولاد حق يلقى الله تعالى وليس عليه سيئة يعاقب عليها، قال بعض السلف الصالح من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله، إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب «فَأُولئِكَ» مريدوا الآخرة الساعون لها بالأعمال الصالحة حالة كونهم مؤمنين بالله ورسله وكتبه آتين بما أمروا به منتهين عما نهو عنه «كانَ سَعْيُهُمْ» في دار الدنيا «مَشْكُوراً» ١٩ في الآخرة مقبولا عند الله يثيبهم عليها بمنه وكرمه وفضله

صفحة رقم 463
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية