
تَعَالَى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس: ٣٧، ٣٨].
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِلَّيْلِ آيَةً، أَيْ: عَلَامَةً يُعْرَفُ بِهَا (١) وَهِيَ الظَّلَامُ وَظُهُورُ الْقَمَرِ فِيهِ، وَلِلنَّهَارِ عَلَامَةً، وَهِيَ النُّورُ وَظُهُورُ (٢) الشَّمْسِ النَّيِّرَةِ فِيهِ، وَفَاوَتَ بَيْنَ ضِيَاءِ الْقَمَرِ وَبُرْهَانِ الشَّمْسِ لِيُعْرَفَ هَذَا مِنْ هَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لآيَاتٍ (٣) لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ [يُونُسَ: ٥، ٦]، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٩].
قَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ قَالَ: ظُلْمَةَ اللَّيْلِ وسُدفة (٤) النَّهَارِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: الشَّمْسُ آيَةُ النَّهَارِ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ قَالَ: السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، وَكَذَلِكَ (٥) خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْقَمَرُ يُضِيءُ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ، وَالشَّمْسُ آيَةُ النَّهَارِ ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ السَّوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ جَيِّدَةٍ: أَنَّ ابْنَ الكَوَّاء سأل [أمير المؤمنين] (٦) علي ابن أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَذِهِ اللَّطْخَةُ الَّتِي فِي الْقَمَرِ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ فَهَذِهِ مَحْوُهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ (٧) مَحْوَ آيَةِ اللَّيْلِ سَوَادُ الْقَمَرِ الَّذِي فِيهِ، وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً، أَيْ: مُنِيرَةً، خَلْقُ الشَّمْسِ أَنْوَرُ مِنَ الْقَمَرِ وَأَعْظَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ قَالَ: لَيْلًا وَنَهَارًا، كَذَلِكَ خَلَقَهُمَا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ (٨).
﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (١٤) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الزَّمَانِ وَذِكْرِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ وَطَائِرُهُ: هُوَ مَا طَارَ عَنْهُ مِنْ عَمَلِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، يُلزم بِهِ وَيُجَازَى عَلَيْهِ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزَّلْزَلَةِ: ٥، ٦]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٧، ١٨]،
(٢) في ت، ف: "وطلوع".
(٣) في ف، أ: (إن في ذلك لآيات) وهو خطأ.
(٤) في ت، ف، أ: "وسدف".
(٥) في ف: "ولذلك".
(٦) زيادة من ف، أ.
(٧) في ت: "ما نجد كان".
(٨) في ف: "الله تعالى".

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الِانْفِطَارِ: ١٠ -١٤]، قَالَ: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطُّورِ: ١٦] وَقَالَ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النِّسَاءِ: ١٢٣].
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَمَلَ ابْنِ آدَمَ مَحْفُوظٌ عَلَيْهِ، قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ، وَيُكْتَبُ عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، صَبَاحًا وَمَسَاءً.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ أَبَى الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَطَائر كُلِّ إِنْسَانٍ فِي عُنُقِهِ". قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: يَعْنِي الطِّيرَةَ (١).
وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ ابْنِ لَهِيعَةَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ، غَرِيبٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ [تَعَالَى] (٢) ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ أَيْ: نَجْمَعُ لَهُ عَمَلَهُ كُلَّهُ فِي كِتَابٍ يُعْطَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِمَّا بِيَمِينِهِ إِنْ كَانَ سَعِيدًا، أَوْ بِشِمَالِهِ إِنْ كَانَ شَقِيًّا ﴿مَنْشُورًا﴾ أَيْ: مَفْتُوحًا يَقْرَؤُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، فِيهِ جَمِيعُ عَمَلِهِ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ ﴿يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ [الْقِيَامَةِ: ١٣ -١٥]، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ أَيْ: إِنَّكَ (٣) تَعْلَمُ أَنَّكَ لَمْ تُظْلَمْ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكَ غَيْرُ مَا عَمِلْتَ؛ لِأَنَّكَ ذَكَرْتَ جَمِيعَ مَا كَانَ مِنْكَ، وَلَا يَنْسَى أَحَدٌ شَيْئًا مِمَّا كَانَ مِنْهُ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَقْرَأُ كِتَابَهُ مِنْ كَاتِبٍ وَأُمِّيٍّ.
وَقَوْلُهُ [تَعَالَى] (٤) ﴿أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ إِنَّمَا ذَكَرَ الْعُنُقَ؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي (٥) الْجَسَدِ، وَمَنْ أُلْزِمَ بِشَيْءٍ فِيهِ فَلَا مَحِيدَ لَهُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (٦).
اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا... طُوِّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ...
قَالَ قَتَادَةُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (٧) عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا عَدْوَى وَلَا طيرَة وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ". كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ (٨).
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي مُسْنَدِهِ مُتَّصِلًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٩) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "طَيْرُ كُلِّ عَبْدٍ فِي عُنُقِهِ" (١٠).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ: أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (١١) يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ مِنْ عَمَلِ يَوْمٍ إِلَّا وَهُوَ يُخْتَمُ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَرِضَ الْمُؤْمِنُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا، عَبْدُكَ فُلَانٌ، قَدْ حَبَسْتَهُ؟ فَيَقُولُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ: اخْتِمُوا لَهُ عَلَى مِثْلِ عَمَلِهِ، حَتَّى يبرأ أو يموت" (١٢).
(٢) زيادة من ت.
(٣) في ت، ف: "أي أنت".
(٤) زيادة من ت.
(٥) في ت، أ: "من".
(٦) هو أبو أحمد بن جحش، والأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (١/٥٠٠).
(٧) في ف، أ: "عنهما".
(٨) تفسير الطبري (١٥/٣٩).
(٩) زيادة من ف، أ.
(١٠) المنتخب لعبد بن حميد برقم (١٠٥٣).
(١١) زيادة من ف، أ.
(١٢) المسند (٤/١٤٦).