آيات من القرآن الكريم

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا
ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ

الخير، فيدعو على نفسه وولده وماله عند الضجر بما لا ينبغي، قائلا: اللهم أهلكه ونحوه، كما يدعو ربّه أن يهب له العافية ويوسّع له في الرّزق، فلو استجاب الله تعالى دعاءه على نفسه بالشّرّ، هلك، لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك. ونظير الآية آية: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ كما تقدّم، نزلت في النّضر بن الحارث، كان يدعو ويقول: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢].
التذكير بنعم الله في الدنيا ودلائل القدرة الإلهية
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٢ الى ١٧]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
الإعراب:
مَنْشُوراً حال. بِذُنُوبِ متعلق بقوله: خَبِيراً بَصِيراً.

صفحة رقم 30

البلاغة:
آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً مجاز عقلي لأن النهار لا يبصر، بل يرى فيه، فهو مجاز من إسناد الشيء إلى زمانه.
طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أستعير الطائر لعمل الإنسان لأن العرب الذين كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بالطير، سموا نفس الخير والشر بالطائر بطريق الاستعارة.
اقْرَأْ كِتابَكَ فيه إيجاز بالحذف، أي يقال له يوم القيامة: اقرأ كتابك، وكذلك أَمَرْنا مُتْرَفِيها
فيه إيجاز بالحذف، أي أمرناهم بطاعة الله فعصوا.
اهْتَدى ضَلَّ بينهما طباق.
تَزِرُ وازِرَةٌ جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
آيَتَيْنِ علامتين دالتين على قدرة الله تعالى، بتعاقبهما على نسق واحد. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي جعلنا الآية التي هي الليل ممحوّة لا نور فيها، والإضافة فيها للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود. وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً مضيئة أو مبصرة للناس. لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم، وتتوصلوا به إلى استبانة أعمالكم. وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي ولتعلموا باختلافهما أو بحركتهما عدد السنوات وجنس الحساب. والفرق بين العدد والحساب: أن العدد إحصاء أمثال الشيء المكونة له، والحساب: إحصاء طائفة معينة يتكون منها الشيء، فالسنة بالنظر إلى أنها أيام (٣٦٥ يوما) فقط فذلك العدد، وبالنظر إلى تكونها من اثني عشر شهرا، وكل شهر ثلاثون يوما، وكل يوم ٢٤ ساعة، فذلك هو الحساب، كما ذكر الشوكاني في فتح القدير وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي وكل شيء تحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا، بيّناه بيانا غير ملتبس.
طائِرَهُ عمله من خير أو شر. فِي عُنُقِهِ لزوم الطوق في عنقه إذ اعتادوا التفاؤل بالطير، ويسمونه زجرا، فإن مرّ بهم من اليسار إلى اليمين، تيمنوا به، وسموه سانحا، وإن مرّ من اليمين إلى اليسار تشاءموا منه، وسموه بارحا، وسموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه. هو صحيفة عمله. مَنْشُوراً أي غير مطوي. حَسِيباً محاسبا عادّا يعد عليه أعماله.
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي أن ثواب اهتدائه له. وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي أن إثمه عليها. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ أي لا تحمل نفس آثمة وزر نفس أخرى، والوزر:

صفحة رقم 31

الإثم. مُعَذِّبِينَ أحدا حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا يبين له ما يجب عليه. وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
وإذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم، لإنفاذنا قضاءنا السابق. أَمَرْنا مُتْرَفِيها
منعميها أي رؤساءها، بالطاعة على لسان رسلنا. فَفَسَقُوا فِيها
فخرجوا عن أمرنا. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
بالعذاب. فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
أي أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها.
وَكَمْ أي كثيرا. الْقُرُونِ الأمم. خَبِيراً بَصِيراً عالما ببواطنها وظواهرها.
سبب النزول: نزول الآية (١٥) :
مَنِ اهْتَدى قالت فرقة: نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسود، وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة. وقيل: نزلت في الوليد هذا قال: يا أهل مكة، اكفروا بمحمد، وإثمكم علي.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى ما أنعم به من نعم الدين على الناس وهو القرآن، أتبعه ببيان ما أنعم عليهم من نعم الدنيا، وهو في ذاته استدلال بالدلائل الواضحة على قدرة الله وحكمته.
وبعد أن أبان تعالى دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وأوضح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، ذكر مبدأ رفيعا ومهما جدا، وهو مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية عن أعمال الإنسان وأن ذلك المبدأ قد تقرر بعد إرسال الرسل وبيان معالم الهدى، فلا تكليف قبل الشرع، ولا عقاب ولا عذاب قبل البيان والإنذار وأن العقاب العام للقرى والأمم لا يكون إلا بعد الأمر بالطاعات والخيرات، ومخالفة ذلك الأمر، والفسق.
التفسير والبيان:
وجعلنا الليل والنهار علامتين دالتين على قدرتنا وبديع صنعنا، وفي

صفحة رقم 32

تعاقبهما واختلافهما تحقيق لمصالح الإنسان، ففي الليل سكنه وهدوءه وراحته، وفي النهار حركته وشغله وتقلبه في أنحاء الدنيا للمعيشة والكسب، والصناعة والعمل.
وجعلنا ظرف كل من الليل والنهار مناسبا للهدف المنشود والغاية المقصودة، ففي الليل ظلام دامس ومحو للضوء يتلاءم مع راحة النفس والعين والسمع، وفي النهار ضوء ونور يناسب الحركة والعمل وإبصار الأشياء.
فهذا امتنان من الله تعالى على خلقه بجعل الليل ممحو الضوء مطموسا مظلما لا يستبان فيه شيء، وجعل النهار مبصرا، أي تبصر فيه الأشياء وتستبان.
لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي جعلنا تعاقب الليل والنهار لتتمكنوا كيف تتصرفون في أعمالكم، وتطلبون الرزق من الله ربكم الذي يربيكم ويمدكم من فضله وإحسانه شيئا فشيئا، وعلى وفق الزمان الدائر بكم صيفا وشتاء.
وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي ولتعرفوا بتعاقب الليل والنهار عدد الأيام والشهور والأعوام، وتعلموا بحساب الأشهر والليالي والأيام أوقات مصالحكم من الدورات الزراعية، وآجال الديون والإجارات والمعاملات، وأزمان العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة، فلو لم يتغاير الليل والنهار، لما تمكن الإنسان من الراحة التامة ليلا واكتساب المعايش والأرزاق نهارا، ولو كان الزمان كله نسقا واحدا لما عرف الحساب على نحو صحيح يسير.
ونظير الآية قول الله تعالى: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ؟! [القصص ٢٨/ ٧٠- ٧٣]

صفحة رقم 33

وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ، أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الفرقان ٢٥/ ٦٢] وقال سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس ١٠/ ٥].
وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي وكل شيء لكم به حاجة في مصالح دينكم ودنياكم قد بيناه وشرحناه بيانا نافعا، وشرحا كاملا وافيا، كما قال تعالى:
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام ٦/ ٣٨] وقال: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل ١٦/ ٨٩].
وبعد ذكر الزمان وما يقع فيه من أعمال الناس، ذكر تعالى مبدأ التبعية أي المسؤولية عن الأعمال من خير أو شر فقال: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أي وجعلنا عمل كل إنسان ملازما له لزوم القلادة للعنق إن كان خبيرا، ولزوم الغلّ للعنق لا يفك عنه إن كان شرّا. فالمراد بالطائر: العمل الصادر من الإنسان. والعرب تعبر عن تلازم الشيء بالشيء بما يوضع في العنق، يقال:
جعلت هذا في عنقك، أي قلدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به.
وجعل العمل ملازما للإنسان أمر محتوم وقضاء معلوم، على وفق علم الله الأزلي السابق بالأشياء وبما يصدر عن الناس، وهذا لا يعني الإجبار ونفي الاختيار الذي هو مناط الثواب والعقاب، فكل إنسان مخير في اختيار ما هو خير يقتضي ثوابا حسنا وما هو شرّ يقتضي عقابا سيئا.
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً... أي سنخرج لكل إنسان يوم القيامة كتابا يراه ويستقبله منشورا أمامه، فيه جميع أعماله خيرها وشرها.
ذكر الحسن البصري حديثا قدسيا: «قال الله: يا بن آدم، بسطنا لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان: أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك، فأما الذي عن يمينك

صفحة رقم 34

فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج لك يوم القيامة».
اقْرَأْ كِتابَكَ، كَفى بِنَفْسِكَ... ويقال لك حين تلقى كتابك: اقرأ كتابك أي كتاب عملك في الدنيا، كفى بنفسك حاسبا تحسب أعمالك وتحصيها. كان الحسن إذا قرأها قال: يا بن آدم، أنصفك- والله- من جعلك حسيب نفسك. والقائل: هو الله تعالى على ألسنة الملائكة.
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ... أي إذا كان كل واحد مختصا بعمل نفسه، فمن اهتدى إلى الحق والصواب واتبع شرع الله وهدي النبوة، فإنما ينفع نفسه، ومن ضلّ في عمله وحاد عن شرع الله وكفر به وبرسله، فإنما يضرّ نفسه لأن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، لا يتجاوزه إلى غيره، وعقاب العمل السيء ملازم صاحبه، لا يفارقه.
ثم أكد تعالى معنى الشق الثاني بقوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تتحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها، أو لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جان إلا على نفسه.
وهذا ردّ واضح على الذين يحرضون غيرهم على ارتكاب المنكر، واقتراف الكفر، ويزعمون أنهم يتحملون عاقبة ذلك. روي عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال: اكفروا بمحمد وعليّ أوزاركم.
وهو ردّ أيضا على الجاهليين الذين كانوا يقولون: نحن لا نعذب في شيء، وإن كان هناك عقاب فهو على آبائنا، إذ نحن مقلدوهم فقط، ويؤكد ذلك قوله تعالى: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ ٣٤/ ٢٥].
وتقرير مبدأ المسؤولية الشخصية من مفاخر الإسلام ومبادئه التي صححت

صفحة رقم 35

مفهوم العقاب عند الرومان والعرب وغيرهم، إذ كانوا يعاقبون غير المجرم.
ويتضاعف العقاب والإثم على دعاة الضلال بسبب تأثيرهم في الآخرين، دون إعفاء من يتبعونهم في ضلالهم من الوزر والعقاب، لقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل ١٦/ ٢٥] وقوله سبحانه: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت ٢٩/ ١٣] فعلى الدعاة إثم ضلالتهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب إضلالهم غيرهم.
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي لكن مقتضى العدل والحكمة والرحمة أننا لا نعذب أحدا في الدنيا أو الآخرة على فعل شيء أو تركه إلا بعد إنذار، ولا نعاقب الناس إلا بعد إعذار وبعث الرسل إليهم، لإقامة الحجة عليهم بالآيات المبينة للأحكام والحلال والحرام والثواب والعقاب، كما قال تعالى:
كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا: بَلى، قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ.. [الملك ٦٧/ ٨- ٩] وقال عز وجل: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر ٣٩/ ٧١] ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه، ودعوته إلى الخير، وتحذيره من الشرّ.
وأما كيفية وقوع العذاب بعد إرسال الرسل فهي كما أخبر تعالى:
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً...
أي إذا دنا وقت إهلاك قوم بعذاب الاستئصال أمرنا مترفيها بالطاعات والخيرات، أي الأمر بالفعل، فإذا خالفوا ذلك الأمر وفسقوا وخرجوا عن الطاعة وتمردوا، حق أو وجب عليهم العذاب جزاء وفاقا لعصيانهم، فدمرناهم تدميرا وأبدناهم إبادة تامة، شملت جميع أهل

صفحة رقم 36

تلك البلدة. والمترف: هو المتنعم، وهو أولى بالشكر من غيره وأوجب عليه.
ودمرناها: استأصلناها بالهلاك.
والإبادة الشاملة بسبب الأمر العام لجميع المكلفين، أغنياء كانوا أو فقراء، مترفين كانوا أو غير مترفين، لكن خصّ الأمر بالمترفين لأنهم القادة وغيرهم تبع لهم، وشأن العامة والأتباع تقليد الكبراء والزعماء دائما. قال ابن عباس في قوله: أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها
أي سلطنا أشرارها، فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب، وهو كقوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها [الأنعام ٦/ ١٢٣].
ثم أنذر الله تعالى كفار قريش وأمثالهم في تكذيبهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن كثيرا من الأمم وجب عليهم العذاب بذنوبهم، فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ... أي وكثيرا ما أهلكنا أمما من بعد نوح عليه السلام إلى زمانكم لما بغوا وعصوا، وجحدوا آيات الله، وكذبوا رسله، كما أنتم الآن، وأنتم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق، فعقوبتكم أولى وأحرى.
وهذا وعيد وتهديد لمكذبي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل زمان بشديد العقاب، وفيه دلالة على أن القرون التي مضت بين آدم ونوح كانت على الإسلام، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام.
وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي وكفى بالله خبيرا بذنوب خلقه مطلعا عليها، يحصي عليهم أعمالهم ومعاصيهم، فلا يخفى عليه شيء من أفعال المشركين وغيرهم، وهو عالم بجميع أعمالهم خيرها وشرها، لا يخفى عليه منها خافية. والخبير: العليم بهم، والبصير: الذي يبصر أعمالهم. وفي هذا تنبيه

صفحة رقم 37

على أن الذنوب هي أسباب الدمار والهلاك لا غير، وأن الله عالم بها، ومعاقب عليها.
وكل ما ذكر حثّ للعقلاء على العمل الصالح النافع في الدنيا والآخرة، ودفع إلى الجد وعدم الكسل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقص، وتعاقبهما، وضوء النهار وظلمة الليل، دليل على وحدانية الله تعالى ووجوده وكمال علمه وقدرته.
٢- ودورة الليل والنهار تعرفنا بعدد السنوات والأشهر والأيام المتماثلة، وتعلمنا حساب المدة المكونة من طوائف ومجموعات، كالسنة المكونة من اثني عشر شهرا، والشهر من ثلاثين يوما، واليوم من أربع وعشرين ساعة.
٣- النهار وقت مناسب للعمل والحركة والتقلب في الأرض لكسب المعايش وتحصيل الأرزاق.
٤- كل إنسان معلّق بعمله، وعمله مختص به ولازم له، خيرا أو شرا.
٥- إن كتاب الإنسان وسجله الذي يلقاه أمامه يوم القيامة حافل بكل ما قدم وما أخر. وكفى بالإنسان محاسبا لنفسه. قال الحسن البصري: يقرأ الإنسان كتابه أمّيا كان أو غير أمّي.
٦- كل أحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره، فمن اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضلّ فعقاب كفره عليه.
٧- إقرار مبدأ المسؤولية الشخصية عدلا من الله ورحمة بعباده، فلا يحمل

صفحة رقم 38

أحد ذنب أحد، ولا يجني جان إلا على نفسه. قال ابن عباس عن آية:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى: نزلت في الوليد بن المغيرة قال لأهل مكة:
اتبعوني، واكفروا بمحمد، وعليّ أوزاركم، فنزلت هذه الآية. ومعناها: أن الوليد لا يحمل آثامكم، وإنما إثم كل واحد عليه.
أما ما روي عن عائشة رضي الله عنها في الرد على ابن عمر حيث قال النبي في حديث رواه الشيخان: «إن الميت ليعذّب ببكاء أهله» فلا وجه لإنكارها وتخطئتها إذ لا معارضة بين الآية والحديث فإن الحديث محمول على ما إذا كان النّوح من وصية الميت وسنته وبسببه، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طرفة:

إذا متّ فانعيني بما أنا أهله وشقّي عليّ الجيب يا ابنة معبد
وقال:
إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
٨- لم يترك الله الخلق سدىّ، بل أرسل الرسل، وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، وهذا في رأي الجمهور، في حكم الدنيا، بمعنى أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار، ولا يهلك الله القرى قبل ابتعاث الرسل.
وقالت المعتزلة بأن العقل يقبّح ويحسّن ويبيح ويحظر.
٩- تدل آية وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا على أن أهل الفترة (فترة انقطاع الرسل) الذين لم تصلهم رسالة، وماتوا ولم تبلغهم الدعوة وهم أهل الجاهلية وأمثالهم في الجزر النائية الذين لم يسمعوا بالإسلام في زماننا هم ناجون، من أهل الجنة. ومثلهم أولاد المشركين والكفار الذين ماتوا وهم صغار قبل التكليف، وآباؤهم كفار، وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف.

صفحة رقم 39

أما الناس بعد البعثة- بعثة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم- فهم كما أبان الغزالي رحمه الله أصناف ثلاثة:
الأول- من لم تبلغهم دعوته، ولم يسمعوا به أصلا، فهؤلاء في الجنة.
الثاني- من بلغتهم دعوته ومعجزاته ولم يؤمنوا به كالكفار في زماننا، فهؤلاء في النار.
الثالث- من بلغتهم دعوته صلّى الله عليه وآله وسلّم بأخبار مكذوبة أو بنحو مشوه، فهؤلاء يرجى لهم الجنة.
١٠- إن عذاب الاستئصال لا يكون إلا بشيوع المعاصي والذنوب والمنكرات، فإذا أراد الله إهلاك قرية أمر مترفيها وغيرهم بالطاعة والرجوع عن المعاصي، ففسقوا وظلموا وبغوا، أي آثروا الفسوق على الطاعة، خلافا للأمر، فحق عليها القول بالتدمير والهلاك.
وعلى قراءة أمرنا بالتشديد يكون المعنى: سلطنا شرارها، فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم.
وذكر قتادة والحسن أن معنى أَمَرْنا
بكسر الميم: أكثرنا، يقال: أمر القوم- بكسر الميم-: إذا كثروا، ومنه
الحديث الذي رواه أحمد والطبراني عن سويد بن هبيرة: «خير مال المرء: مهرة مأمورة، أو سكّة مأبورة «١» »
أي مهرة كثيرة النتاج والنّسل، وصف من النخل مأبورة.
وفي حديث هرقل- الحديث الصحيح: «لقد أمر أمر ابن أبي كبشة «٢»، ليخافه ملك بني الأصفر»
أي كثر.

(١) السّكّة: الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة: الملقحة.
(٢) يريد: رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان المشركون يقولون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ابن أبي كبشة» شبهوه بأبي كبشة: رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان.

صفحة رقم 40
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية