آيات من القرآن الكريم

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا
ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ

وكرر- سبحانه- خرورهم على وجوههم ساجدين لله- تعالى- لاختلاف السبب، فهم أولا أسرعوا بالسجود لله تعظيما له- سبحانه- وشكرا له على إنجازه لوعده.
وهم ثانيا أسرعوا بالسجود، لفرط تأثرهم بمواعظ القرآن الكريم.
فأنت ترى هاتين الآيتين قد أمرتا النبي ﷺ بالإعراض عن المشركين، وباحتقارهم وبازدراء شأنهم، فإن الذين هم خير منهم وأفضل وأعلم قد آمنوا.
وفي ذلك ما فيه من التسلية لرسول الله ﷺ فكأن الله- تعالى- يقول له: يا محمد تسلّ عن إيمان هؤلاء الجهلاء، بإيمان العلماء.
هذا، وقد أخذ العلماء من هاتين الآيتين أن البكاء من خشية الله، يدل على صدق الإيمان، وعلى نقاء النفس، ومن الأحاديث التي وردت في فضل ذلك، ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله».
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بآيتين دالتين على تفرده- سبحانه- بالتقديس والتعظيم والتمجيد والعبادة، فقال- تعالى-:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
ذكر المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى-: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.. ذكروا روايات منها: ما أخرجه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: وصلّى رسول الله ﷺ بمكة ذات يوم فدعا الله- تعالى- فقال:
يا الله، يا رحمن، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو

صفحة رقم 451

إلهين فنزلت «١».
ومعنى: ادعوا، سموا، وأَوِ للتخيير. وأَيًّا اسم شرط جازم منصوب على المفعولية بقوله: ادْعُوا والمضاف إليه محذوف، أى: أى الاسمين. وتَدْعُوا مجزوم على أنه فعل الشرط لأيّا، وجملة فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى واقعة موقع جواب الشرط، وما مزيدة للتأكيد. والحسنى: مؤنث الأحسن الذي هو أفعل تفضيل.
والمعنى: قل يا محمد للناس: سموا المعبود بحق بلفظ الله أو بلفظ الرحمن بأى واحد منهما سميتموه فقد أصبتم، فإنه- تعالى- له الأسماء الأحسن من كل ما سواه، وقال- سبحانه-: فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى للمبالغة في كمال أسمائه- تعالى- وللدلالة على أنه ما دامت أسماؤه كلها حسنة، فلفظ الله ولفظ الرحمن كذلك، كل واحد منهما حسن.
وقد ذكر الجلالان عند تفسيرهما لهذه الآية، أسماء الله الحسنى، فارجع إليها إن شئت «٢».
وقوله- سبحانه-: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا تعليم من الله- تعالى- لنبيه كيفية أفضل طرق القراءة في الصلاة.
فالمراد بالصلاة هنا: القراءة فيها. والجهر بها: رفع الصوت أثناءها، والمخافتة بها:
خفضه بحيث لا يسمع. يقال: خفت الرجل بصوته إذا لم يرفعه، والكلام على حذف مضاف.
والمعنى: ولا تجهر يا محمد في قراءتك خلال الصلاة، حتى لا يسمعها المشركون فيسبوا القرآن، ولا تخافت بها، حتى لا يسمعها من يكون خلفك، بل أسلك في ذلك طريقا وسطا بين الجهر والمخافتة.
ومما يدل على أن المراد بالصلاة هنا: القراءة فيها، ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس.
قال: نزلت ورسول الله ﷺ مختف بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون، سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فأمره الله بالتوسط.
وقيل: المراد بالصلاة هنا: الدعاء. أى: لا ترفع صوتك وأنت تدعو الله، ولا تخافت به. وقد روى ذلك عن عائشة، فقد أخرج الشيخان عنها أنها نزلت في الدعاء.

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٩١. [.....]
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٥٦.

صفحة رقم 452

ويبدو لنا أن التوجيهات التي بالآية الكريمة تتسع للقولين، أى: أن على المسلم أن يكون متوسطا في رفع صوته بالقراءة في الصلاة، وفي رفع صوته حال دعائه.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بهذه الآية: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً....
أى: وقل- أيها الرسول الكريم-: الحمد الكامل، والثناء الجميل، لله- تعالى- وحده، الذي لم يتخذ ولدا لأنه هو الغنى، كما قال- تعالى-: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.. «١».
ولم يكن له، - سبحانه- شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ بل هو المالك لكل شيء، ليس له في هذا الكون من يزاحمه أو يشاركه في ملكه أو في عبادته. كما قال- تعالى-: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً «٢».
وكما قال- عز وجل-: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ «٣».
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أى: ولم يكن له- سبحانه- ناصر ينصره من ذل أصابه أو نزل به، لأنه- عز وجل- هو أقوى الأقوياء، وقاهر الجبابرة، ومذل الطغاة، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أى: وعظمه تعظيما تاما كاملا، يليق بجلاله عز وجل.
قال الإمام ابن كثير: عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن النبي ﷺ كان يعلم أهله كبيرهم وصغيرهم هذه الآية. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً....
ثم قال ابن كثير: وقد جاء في حديث أن رسول الله ﷺ سماها آية العز «٤».

(١) سورة يونس الآية ٦٨.
(٢) سورة الإسراء الآية ٤٢، ٤٣.
(٣) سورة المؤمنون الآية ٩١.
(٤) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٢٩.

صفحة رقم 453

وبعد: فهذا تفسير لسورة الإسراء نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، وشافعا لنا يوم نلقاه يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى المدينة المنورة- مساء الخميس ١٥ من جمادى الأولى سنة ١٤٠٤ هـ الموافق ١٦ من فبراير سنة ١٩٨٤ م

صفحة رقم 454

تفسير سورة الكهف

صفحة رقم 455

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد: فقد كان من فضل الله- عز وجل- على، أن أعارتنى جامعة الأزهر إلى قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
وقد امتدت هذه الإعارة لمدة أربع سنوات، من سنة ١٤٠٠ إلى ١٤٠٤ هـ ١٩٨٠- ١٩٨٤ م.
وقد وفقني الله- تعالى- خلال هذه المدة، أن أكتب- وأنا في الجوار الطيب- تفسيرا محررا ونافعا- إن شاء الله- لسور: يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحل، والإسراء.
وها أنا ذا- وأنا في الأشهر الأخيرة من الإعارة- انتهى من كتابة تفسير سورة الكهف.
أسأل الله- تعالى- أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، وأن يعينني على خدمة كتابه الكريم، وعلى السير في تفسيره حتى النهاية، وأن يزيل من طريقي كل عقبة تمنعني من ذلك.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المدينة المنورة- مساء الخميس ١٨ من رجب سنة ١٤٠٤ هـ.
١٩ من إبريل سنة ١٩٨٤ م د/ محمد سيد طنطاوى

صفحة رقم 457

تمهيد
١- سورة الكهف هي السورة الثامنة عشرة في ترتيب سور المصحف، فقد سبقتها في الترتيب سور: الفاتحة، والبقرة، وآل عمران.. إلخ.
أما ترتيبها في النزول، فهي السورة الثامنة والستون، فقد ذكر قبلها صاحب الإتقان سبعا وستين سورة، كما ذكر أن نزولها كان بعد سورة الغاشية «١».
ومما ذكره صاحب الإتقان يترجح لدينا، أن سورة الكهف من أواخر السور المكية التي نزلت على النبي ﷺ قبل الهجرة، إذ من المعروف عند العلماء أن السور المكية زهاء اثنتين وثمانين سورة.
قال الآلوسي: سورة الكهف، ويقال لها سورة أصحاب الكهف.. وهي مكية كلها في المشهور، واختاره الداني.. وعدها بعضهم من السور التي نزلت جملة واحدة.
وقيل: مكية إلا قوله- تعالى- وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ.. الآية.
وقيل هي مكية إلا أولها إلى قوله- تعالى- جُرُزاً وقيل: مكية إلا قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا.. إلى آخر السورة.
وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين، ومائة وعشر آيات عند الكوفيين... «٢».
والذين تطمئن إليه النفس أن سورة الكهف كلها مكية، وقد ذكر ذلك دون أن يستثنى منها شيئا الإمام ابن كثير، والزمخشري، وأبو حيان، وغيرهم، وفضلا عن ذلك فالذين قالوا بأن فيها آيات مدنية، لم يأتوا بما يدل على صحة قولهم، كما سيتبين لنا عند تفسير الآيات التي قيل بأنها مدنية.
٢- وقد صدر الامام ابن كثير تفسيره لهذه السورة، بذكر الأحاديث التي وردت في فضلها فقال ما ملخصه: ذكر ما ورد في فضلها، والعشر الآيات من أولها وآخرها، وأنها عصمة من الدجال.

(١) الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٢٧ السيوطي.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٩٩.

صفحة رقم 459

قال الامام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن سالم بن أبى الجعد، عن معدان بن أبى طلحة، عن أبى الدرداء عن النبي ﷺ قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال».
وفي رواية عن أبى الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال».
وأخرج الحاكم عن أبى سعيد الخدري، عن النبي ﷺ أنه قال: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين «١» ».
٣- عرض إجمالى لسورة الكهف:
(أ) عند ما نقرأ سورة الكهف، نراها في مطلعها تفتتح بالثناء على الله- تعالى- وبالتنويه بشأن النبي ﷺ وبالقرآن الذي نزل عليه ثم تنذر الذين نسبوا إلى الله- عز وجل- مالا يليق به، وتصمهم بأقبح ألوان الكذب، ثم تنهى النبي ﷺ عن التأسف عليهم، بسبب إصرارهم على كفرهم.
قال- تعالى-: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً. وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً.
(ب) ثم ساقت السورة بعد ذلك فيما يقرب من عشرين آية قصة أصحاب الكهف، فحكت أقوالهم عند ما التجأوا إلى الكهف، وعند ما استقروا فيه واتخذوه مأوى لهم، كما حكت جانبا من رعاية الله، تعالى، لهم، ورحمته بهم.. ثم صورت أحوالهم وهم رقود، وذكرت تساؤلهم فيما بينهم بعد أن بعثهم الله- تعالى- من رقادهم الطويل، وإرسالهم أحدهم إلى المدينة لإحضار بعض الأطعمة، وإطلاع الناس عليهم. وتنازعهم في أمرهم، ونهى الله- تعالى- عن الجدال في شأنهم، كما ذكرت المدة التي لبثوها في كهفهم.
قال- تعالى- وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً.

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٣٠ طبعة دار الشعب.

صفحة رقم 460

(ج) ثم أمرت السورة الكريمة النبي ﷺ برعاية الفقراء من أصحابه. ومدحتهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه.. كما أمرته بأن يجهر بكلمة الحق، فمن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر، فإن الله- تعالى- قد أعد لكل فريق ما يستحقه من ثواب أو عقاب.
قال- تعالى- وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ، إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها، وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.
(د) ثم ضربت السورة الكريمة مثلا للشاكرين والجاحدين، وصورت بأسلوب بليغ مؤثر تلك المحاورة الرائعة التي دارت بين صاحب الجنتين الغنى المغرور، وبين صديقه الفقير المؤمن الشكور، وختمت هذه المحاورة ببيان العاقبة السيئة لهذا الجاهل الجاحد.
استمع إلى القرآن وهو يبين ذلك بأسلوبه فيقول: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها، وَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً.
(هـ) ثم أتبعت السورة هذا المثل للرجلين، بمثال آخر لزوال الحياة الدنيا وزينتها، وببيان أحوال الناس يوم القيامة، وأحوال المجرمين عند ما يرون صحائف أعمالهم وقد خلت من كل خير.
قال- تعالى-: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً، الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا. وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً.
(و) وبعد أن ذكرت السورة الكريمة طرفا من قصة آدم وإبليس، وبينت أن هذا القرآن قد صرف الله فيه للناس من كل مثل، وحددت وظيفة المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
بعد كل ذلك ساقت في أكثر من عشرين آية قصة موسى مع الخضر- عليهما السلام- وحكت ما دار بينهما من محاورات. انتهت بأن قال الخضر لموسى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
(ز) ثم جاءت بعد قصة موسى والخضر- عليهما السلام- قصة ذي القرنين في ست

صفحة رقم 461

عشرة آية، بين الله، تعالى، فيها جانبا من النعم التي أنعم بها على ذي القرنين، ومن الأعمال العظيمة التي مكنه- سبحانه- من القيام بها.
قال- تعالى- حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا. قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً.
(ح) ثم ختمت السورة الكريمة ببيان ما أعده- سبحانه- للكافرين من سوء العذاب وما أعده للمؤمنين من جزيل الثواب، وببيان مظاهر قدرته، - عز وجل- التي توجب على كل عاقل أن يخلص له العبادة والطاعة.
قال- تعالى-: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً. ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا. خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا. قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
٤- وبعد: فهذا عرض إجمالى لأهم الموضوعات التي اشتملت عليها سورة الكهف، ومن هذا العرض نرى:
(أ) أن القصص قد اشتمل على جانب كبير من آياتها، ففي أوائلها نرى قصة أصحاب الكهف، وبعدها قصة الرجلين اللذين جعل الله لأحدهما جنتين من أعناب. ثم بعد ذلك جاء طرف من قصة آدم وإبليس، ثم جاءت قصة موسى والخضر- عليهما السلام- ثم ختمت بقصة ذي القرنين.
وقد وردت هذه القصص في أكثر من سبعين آية، من سورة الكهف المشتملة على عشر آيات بعد المائة.
(ب) اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وعلى صدق الرسول ﷺ فيما يبلغه عنه، وعلى إثبات أن هذا القرآن من عنده- تعالى.
نرى ذلك في أمثال قوله- تعالى- الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ.

صفحة رقم 462

وقوله- تعالى-: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.
وفي غير ذلك من الآيات التي حكت لنا تلك القصص المتعددة.
(ج) برز في السورة عنصر الموازنة والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار، ترى ذلك في قصة أصحاب الكهف، وفي قصة الرجلين وفي قصة ذي القرنين.
وفي الآيات التي ذكرت الكافرين وسوء مصيرهم، ثم أعقبت ذلك يذكر المؤمنين وحسن مصيرهم كما برز فيها عنصر التسلية للرسول ﷺ والتهوين من شأن أعدائه فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً.
كما برز فيها التصوير المؤثر لأهوال يوم القيامة كما في قوله- تعالى-: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً. وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
والخلاصة: أن سورة الكهف قد- ساقت- بأسلوبها البليغ الذي يغلب عليه طابع القصة- ألوانا من التوجيهات السامية، التي من شأنها أنها تهدى إلى العقيدة الصحيحة، وإلى السلوك القويم. وإلى الخلق الكريم، وإلى التفكير السليم الذي يهدى إلى الرشد، وإلى كل ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

صفحة رقم 463
التفسير الوسيط
عرض الكتاب
المؤلف
محمد سيد طنطاوي
الناشر
دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية