آيات من القرآن الكريم

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا
ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ

١١٤ - قال اللَّه تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١١٠)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) قال: نزلت ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مختفٍ بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) أي بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) بِهَا عن أصحابك فلا تسمعهم (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا).
٢ - أخرِج البخاري ومالك ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها -: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا). أُنزلت في الدعاء.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين

صفحة رقم 674

هذين الحديثين عند ذكرهم لسبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
قال الطبري: (وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ما ذكرنا عن ابن عباس... ثم ذكر كلامًا حتى قال: فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: قل ادعوا اللَّه أو ادعوا الرحمن، أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر يا محمد بقراءتك في صلاتك ودعائك فيها ربك ومسألتك إياه، وذكرك فيها، فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقًا إلى أن تسمع أصحابك، ولا يسمعه المشركون فيؤذونك) اهـ.
وقال السعدي: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) أي قراءتك (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) فإن في كل من الأمرين محذورًا، أما الجهر فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه سبوه وسبوا من جاء به.
وأما المخافتة فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء، (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ) أي اتخذ بين الجهر والإخفات (سَبِيلًا) أي تتوسط فيما بينهما) اهـ.
وقال النووي بعد ذكر الحديثين: الكن المختار الأظهر ما قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) اهـ.
وقال ابن حجر: (يحتمل الجمع بينهما بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة) اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن الصحيح في سبب نزولها حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وذلك لموافقته سياق القرآن وبيان ذلك:

صفحة رقم 675

أن اللَّه تعالى نهى عن الجهر والمخافتة، ولو كان المراد بالصلاة الدعاء لما نهى عن المخافتة به لأن هذا هو المشروع فيه لقوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥).
قال السعدي: (وَخُفْيَةً) أي: لا جهر أو علانية، يخاف منه الرياء، بل خفية وإخلاصاً للَّه تعالى.
ثم ذكر كلامًا حتى قال: أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه) اهـ.
فهذه دلالة السياق على أن الدعاء ليس مراداً هنا.
ويقال أيضاً: إن إطلاق الصلاة على الدعاء إطلاق لغوي، بينما إطلاق الصلاة على العبادة المعروفة إطلاق شرعي، والمتكلم بالقرآن هو المشرّع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإذا دار كلام الشارع بين أن يحمل على الاصطلاح الشرعي، أو الاصطلاح اللغوي وجب حمله على الشرعي لأن المتكلم به هو الشارع الحكيم.
فإن قال قائل: ما تقول في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣).
أليس المراد بالصلاة هنا الدعاء بنص القرآن؟
فالجواب: بلى، لكن لوجود القرينة، وهي أنه لا يمكن أن يراد بالصلاة هنا الصلاة المعهودة.
فلم يبق إلا الدعاء. ولهذا كان من هدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدعاء لصاحب الصدقة، لما روي الشيخان عن عبد اللَّه بن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: (اللهم صلِّ على آلِ فلان) فأتاه أبي بصدقته فقال: (اللهم صلِّ على آلِ أبي أوفى).
فإن قال قائل: هل تطلق الصلاة ويراد بها القراءة؟

صفحة رقم 676

فالجواب: نعم فقد روى مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال اللَّه تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد للَّه رب العالمين. قال اللَّه تعالى حمدني عبدي... الحديث.
قال ابن العربي: (عبر اللَّه هاهنا بالصلاة عن القراءة، كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (٧٨)؛ لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر، الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود، فهي من جملة أجزائها فيعبر بالجزء عن الجملة، وبالجملة عن الجزء) اهـ.
فإن قيل: بماذا تجيب عن قول عائشة - رضي الله عنها - أنزلت في الدعاء؟
فالجواب: أني لا أدري ما وجه هذا القول إلا إن كانت تعني بقولها قولَ الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) فهذا بيِّن أنه في الدعاء.
أما قول ابن حجر: (الجمع بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة).
فالجواب عن ذلك من وجهين:
أولاً: أن مقتضى هذا إلغاء دلالة حديث ابن عبَّاسٍ على أن السبب هو القراءة فلم يتحقق الجمع.
ثانياً: أن رفع الصوت بالدعاء داخل الصلاة لم يكن معروفاً ولا معهودًا ولا دليل عليه.
* النتيجة:
أن حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هو سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده وموافقته لسياق القرآن، واحتجاج المفسرين به. واللَّه أعلم.
* * * * *

صفحة رقم 677

سورة الكهف

صفحة رقم 679
المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة
عرض الكتاب
المؤلف
خالد بن سليمان المزيني
عدد الأجزاء
1