
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى سفاهة المشركين في عبادتهم لغير الله، أعقبه بذكر مثلين توضيحاً لبطلان عبادة الأوثان التي لا تضر ولا تنفع، ولا تستجيب ولا تسمع، ثم ذكَّر الناس ببعض النِّعم التي أفاضها عليهم ليعبدوه ويشكروه، ويُخلصوا له العمل طائعين منيبين.
اللغَة: ﴿أَبْكَمُ﴾ الأبكم: الأخرس الذي لا ينطق ﴿كَلٌّ﴾ الكَلُّ: الثقيل الذي هو عيال على الغير وقد يسمى اليتيم كلاً لثقله على من يكفله قال الشاعر:
أكولٌ لمالِ الكلِّ قبلَ شبابه | إذا كانَ عظْمُ الكلِّ غيرَ شديد |

قميصٍ أو درعٍ فهو سربال.
التفسِير: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً﴾ هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام التي أشركوها مع الله جل وعلا أي مثلُ هؤلاء في إشراكهم مثلُ من سوَّى بين عبدٍ مملوكٍ عاجزٍ عن التصرف، وبين حرٍّ مالك يتصرف في أمره كيف يشاء، مع أنهما سيّان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى، فما الظنُّ بربِّ العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات؟ ﴿فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً﴾ أي ينفق ماله في الخفاء والعلانية ابتغاء وجه الله ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾ ؟ أي هل يستوي العبيد والأحرار الذين ضُرب لهم المثل، فالأصنام كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، والله تعالى له المُلك، وبيده الرزق، وهو المتصرف في الكون كيف يشاء، فيكف يُسوَّى بينه وبين الأصنام؟ ﴿الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي شكراً للهِ على بيان هذا المثال ووضوح الحق فقد ظهرت الحجة مثل الشمس الساطعة، ولكنَّ المشركين بسفههم وجهلهم يسوّون بين الخالق والمخلوق، والمالِ والمملوك ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ﴾ هذا هو المثل الثاني للتفريق بين الإِله الحق والأصنام الباطلة قال مجاهد: هذا مثلٌ مضروبٌ للوثن والحقّ تعالى، فالوثنُ أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير، ولا يقدر على شيء بالكلية لأنه إما حجرٌ أو شجر، ﴿وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ﴾ أي ثقيل عالة على وليِّه أو سيده ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ أي حيثما أرسله سيده لم ينجح في مسعاه لأنه أخرس، بليد، ضعيف ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي هل يتساوى هذا الأخرس، وذلك الرجل البليغ المتكلم بأفصح بيان، وهو على طريق الحق والاستقامة، مستنيرٌ بنور القرآن؟ وإِذا كان العاقل لا يسوّي بين هذين الرجلين، فكيف تمكن التسوية بين صنم أو حجر، وبين الله سبحانه وهو القادر العليم، الهادي إلى الصراط المستقيم؟ ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض﴾ أي هو سبحانه المختص بعلم الغيب، يعلم ما غاب عن الأبصار في السماوات والأرض ﴿وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ أي ما شأن الساعة في سرعة المجيء إلا كنظرة سريعة بطرف العين، بل هو أقرب لأنه تعالى يقول للشيء: كن فيكون، وهذا تمثيل لسرعة مجيئها ولذلك قال ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي قادرٌ على كل الأشياء ومن جملتها القيامة التي يكذب بها الكافرون ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ أي أخرجكم من أرحام الأمهات لا تعرفون شيئاً أصلاً ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي خلق لكم الحواس التي بها تسمعون وتبصرون

وتعقلون لتشكروه على نعمه وتحمدوه على آلائه ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السمآء﴾ هذا من الأدلة على قدرة الله تعالى ووحدانيته والمعنى: ألم يشاهدوا الطيور مذلّلات للطيران في ذلك الفضاء الواسع بين السماء والأرض ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله﴾ أي ما يمسكهن عن السقوط عند قبض أجنحتهنَّ وبسطها إلا هو سبحانه ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي إنَّ فيما ذُكر لآيات ظاهرة، وعلامات باهرة على وحدانيته تعالى لقوم يصدَّقون بما جاءت به رسل الله ﴿والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً﴾ هذا تعداد لنعم الله على العباد أي جعل لكم هذه البيوت من الحجر والمدر لتسكنوا فيها أيام مُقامكم في أوطانكم ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً﴾ أي وجعل لكم بيوتاً أُخرى وهي الخيام والقُباب المتخذة من الشعر والصوف والوبَر ﴿تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ﴾ أي تستخفون حملها ونقلها في أسفاركم، وهي خفيفةٌ عليكم في أوقات السفر والحضَر ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً﴾ أي وجعل لكم من صوف الغنم، ووبر الإِبل، وشعر المعز ما تلبسون وتفرشون به بيوتكم ﴿وَمَتَاعاً إلى حِينٍ﴾ أي تنتفعون وتتمتعون بها إلى حين الموت ﴿والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً﴾ أي جعل لكم من الشجر والجبل مواضع تسكنون فيها كالكهوف والحصون قال الرازي: لما كانت بلادُ العرب شديدة الحر، وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة، فلهذا ذكر تعالى هذه المعاني في معرض النعمة العظيمة ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ أي جعل لكم الثياب من القطن والصوف والكتان لتحفظكم من الحر والبرد ﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ﴾ أي ودروعاً تشبه الثياب تتقون بها شر أعدائكم في الحرب ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإِنه يُتم نعمة الدنيا والدين عليكم ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ أي لتخلصوا للهِ الربوبية، وتعلموا أنه لا يقدر على هذه الإنعامات أحدٌ سواه ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين﴾ أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان ولم يؤمنوا بما جئتهم به يا محمد فلا ضرر عليك لأن وظيفتك التبليغ وقد بلَّغت الرسالة وأديت الأمانة ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾ أي يعرف هؤلاء المشركون نِعَم الله التي أنعم بها عليهم، ويعترفون بأنها من عند الله ثم ينكرونها بعبادتهم غير المنعم وقال السُّدي: نعمةُ الله هي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عرفوا نبوته، ثم جحدوها وكذّبوه ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون﴾ أي أكثرهم يموتون كفاراً وفيه إشارة إلى أن بعضهم يهتدي للإسلام وأما أكثرهم فمصرّون على الكفر والضلال ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً﴾ أي ويوم القيامة نحشر الخلائق للحساب ونبعث في كل أمة نبيَّها يشهد عليها بالإِيمان والكفر ﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أي لا يُؤذن للذين كفروا في الاعتذار لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أي لا يُطلب منهم أن يسترضوا ربَّهم بقولٍ أو عمل، فقد فات أوان العتاب والاسترضاء، وجاء وقت الحساب والعقاب قال القرطبي: العُتبى هي رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب، وأصل الكلمة من العتب وهي الموجدة فإذا وجد
صفحة رقم 127
عليه يقال: عَتَب، وإذا رجع إلى مسرَّتك فقد أعتب ﴿وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ﴾ أي وإِذا رأى المشركون عذاب جهنم فلا يُفتَّر عنهم ساعة واحدة ﴿وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ أي لا يُؤخرون ولا يُمهلون ﴿وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ﴾ أي وإذا أبصر المشركون شركاءهم الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويزعمون أنهم شركاء الله في الألوهية ﴿قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاءآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ﴾ أي هؤلاء الذين عبدناهم من دونك قال البيضاوي: وهذا اعترافٌ بأنهم كانوا مخطئين في ذلك والتماس لتخفيف العذاب ﴿فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي أجابوهم بالتكذيب فيما قالوا في تقرير وتوكيد، وذلك مما يوجب زيادة الغم والحسرة في قلوبهم ﴿وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم﴾ أي استسلم أولئك الظالمون لحكم الله تعالى بعد الإباء والاستكبار في الدنيا ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي بطل ما كانوا يؤملون من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، ثم أخبر تعالى عن مآلهم بعد أن آخبر عن حالهم فقال ﴿الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي كفروا بالله ومنعوا الناس عن الدخول في دين الإِسلام ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب﴾ أي زدناهم عذاباً في جهنم فوق عذاب الكفر، لأنهم ارتكبوا جريمة صدّ الناس عن الهدى فوق جريمة الكفر، فضوعف لهم العذاب جزاءً وفاقاً ﴿بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾ أي بسبب إفسادهم في الدنيا بالكفر والمعصية ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي اذكر للناس ذلك اليوم وهوْله حين نبعث في كل أمةٍ نبيَّها ليشهد علينا ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء﴾ أي وجئنا بك يا محمد شهيداً على أمتك ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ أي ونزَّلنا عليك القرآن المنير بياناً شافياً بليغاً لكل ما يحتاج الناس إليه من أمور الدين فلا حجة لهم ولا معذرة قال ابن مسعود: قد بُيّن لنا في هذا القرآن كلُّ علمٍ، وكل شيء ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ أي هداية للقلوب، ورحمة للعباد، وبشارةً للمسلمين المهتدين ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان﴾ أي يأمر بمكارم الأخلاق بالعدل بين الناس، والإِحسان إلى جميع الخلق ﴿وَإِيتَآءِ ذِي القربى﴾ أي مواساة الأقرباء، وخصَّه بالذكر اهتماماً به ﴿وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي﴾ أي ينهى عن كل قبيح من قولٍ، أو فعلٍ، أو عملٍ قال ابن مسعود: هذه أجمعُ آيةٍ في القرآن لخيرٍ يُمتثل، ولشرٍ يُجتنب والفحشاء كل ما تناهى قبحه كالزنى والشرك، والمنكر كل ما تنكره الفطرة، والبغي هو الظلم وتجاوز الحق والعدل ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي يؤدبكم بما شرع من الأمر والنهي لتتعظوا بكلام الله.
البَلاَغة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - الاستعارة التمثيلية في ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ﴾ الآية تمثيلٌ للوثن بالأبكم الذي لا ينتفع منه بشيء أصلاً، مع القادر السميع البصير وشتان بين الرب والصنم.
٢ - التشبيه المرسل المجمل في ﴿كَلَمْحِ البصر﴾.
٣ - الطباق بين ﴿سِرّاً وَجَهْراً﴾ وبين ﴿يَعْرِفُونَ... يُنكِرُونَ﴾ وبين ﴿ظَعْنِكُمْ... إِقَامَتِكُمْ﴾.
٤ -

الإِيجاز بالحذف في ﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم﴾ أي والبرد حذف الثاني استغناءً بذكر الأول.
٥ - المقابلة اللطيفة ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي﴾ أمر بثلاثة ونهى عن ثلاثة وهو من المحسنات البديعية.
٦ - ذكر الخاص بعد العام للاهتمام بشأنه ﴿وَإِيتَآءِ ذِي القربى﴾ بعد لفظ الإِحسان الذي هو عام.
لطيفَة: ذكر «أن» أكثم بن صيفي «لما بلغه خبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انتدب رجلين فأتياه فقالا: من أنت؟ وما أنت؟ فقال أنا محمد بن عبد الله، وأنا رسول الله ثم تلا علينا هذه الآية ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان....﴾ الآية فرجعا إلى أكثم فلما قرءا عليه الآية قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن مساوئها، فكونوا في هذا الأمر رؤساء، ولا تكونوا فيه أذناباً».