آيات من القرآن الكريم

إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
ﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ

الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، حَيْثُ قَالُوا بِعِنَادِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بَعْضُهُ حَقٌّ مُوَافِقٌ لِلْتَوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لَهُمَا فَاقْتَسَمُوهُ إِلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَيْفَ توسط بين المشبه والمشبه به قوله: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [الحجر: ٨٨] إِلَى آخِرِهِ؟
قُلْنَا: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ، اعْتَرَضَ بِمَا هُوَ مَدَارٌ لِمَعْنَى التَّسْلِيَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى دُنْيَاهُمْ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَالوجه الثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ هَذَا الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الوجه لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْتِزَامُ إِضْمَارٍ أَوِ الْتِزَامُ حَذْفٍ، أَمَّا الْإِضْمَارُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ عَذَابًا كَمَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، وَعَلَى هَذَا الوجه، الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْمُشَبَّهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْمُشَبَّهُ بِهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُ كَالْقَمَرِ فِي الْحُسْنِ، أَيْ رَأَيْتُ إِنْسَانًا كَالْقَمَرِ فِي الْحُسْنِ، وَأَمَّا الْحَذْفُ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْكَافُ زَائِدَةٌ مَحْذُوفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ مَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، وَزِيَادَةُ الْكَافِ لَهُ نَظِيرٌ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ وَالْحَذْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ أَيْ أُنْذِرُ قُرَيْشًا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْعَذَابِ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فِيهِ بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: فِي هَذَا اللَّفْظِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُقْتَسِمِينَ. وَالثَّانِي: أنه مبتدأ، وخبره هو قوله:
لَنَسْئَلَنَّهُمْ [الحجر: ٩٢] وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ.
البحث الثَّانِي: ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي وَاحِدِ عِضِينَ قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ وَاحِدَهَا عِضَةٌ مِثْلَ عِزَةٍ وَبِرَةٍ وَثِبَةٍ، وَأَصْلُهَا عُضْوَةٌ مِنْ عَضَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا فَرَّقْتَهُ، وَكُلُّ قِطْعَةٍ عِضَةٌ، وَهِيَ مِمَّا نَقَصَ مِنْهَا وَاوٌ هِيَ لَامُ الْفِعْلِ، وَالتَّعْضِيَةُ التَّجْزِئَةُ وَالتَّفْرِيقُ، يُقَالُ: عَضَّيْتُ الْجَزُورَ وَالشَّاةَ تَعْضِيَةً إِذَا جَعَلْتَهَا أَعْضَاءً وَقَسَّمْتَهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَعْضِيَةَ فِي مِيرَاثٍ إِلَّا فِيمَا احْتَمَلَ الْقِسْمَةَ» أَيْ لَا تَجْزِئَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالْجَوْهَرَةِ وَالسَّيْفِ. فَقَوْلُهُ: جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ يُرِيدُ جَزَّؤُهُ أَجْزَاءً، فَقَالُوا: سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَمُفْتَرًى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ وَاحِدَهَا عِضَةٌ وَأَصْلُهَا عِضَهَةٌ، فَاسْتَثْقَلُوا الْجَمْعَ بَيْنَ هَاءَيْنِ، فَقَالُوا: عِضَةٌ كَمَا قَالُوا شِفَةٌ، وَالْأَصْلُ شِفَهَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: شَافَهْتُ مُشَافَهَةً، وَسِنَةٌ وَأَصْلُهَا سِنْهَةٌ فِي بَعْضِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِضَةِ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: «إِيَّاكُمْ وَالْعِضَةَ»
وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْعِضَةُ بِأَنْ يَعِضَهُ الْإِنْسَانُ وَيَقُولَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ فِيمَا رَوَى اللَّيْثُ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أَيْ جَعَلُوهُ مُفْتَرًى. وَجُمِعَتِ الْعِضَةُ جَمْعَ مَا يَعْقِلُ لِمَا لَحِقَهَا مِنَ الْحَذْفِ، فَجَعَلَ الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ عِوَضًا مِمَّا لحقها من الحذف.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٢ الى ٩٦]
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)

صفحة رقم 163

في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَقْرَبِ أَوْلَى، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ أَنْ يَسْأَلَ هَؤُلَاءِ الْمُقْتَسِمِينَ عَمَّا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنَ اقْتِسَامِ الْقُرْآنِ وَعَنْ سَائِرِ الْمَعَاصِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّ ذِكْرَهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: ٨٩] أَيْ/ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وذكر الكافرين، فيعود قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَلَى الْكُلِّ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْكُفْرِ أَوْ عَنِ الْإِيمَانِ، بَلِ السُّؤَالِ وَاقِعٌ عَنْهُمَا وَعَنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وبين قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرَّحْمَنِ: ٣٩] أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الوجه الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لا يسئلون سُؤَالَ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ أَعْمَالِهِمْ، وإنما يسئلون سُؤَالَ التَّقْرِيعِ يُقَالُ لَهُمْ لِمَ فَعَلْتُمْ كَذَا؟
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ سُؤَالُ الِاسْتِفْهَامِ لِمَا كَانَ فِي تَخْصِيصِ هَذَا النَّفْيِ بِقَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ فَائِدَةٌ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ.
وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يَصْرِفَ النَّفْيَ إِلَى بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَالْإِثْبَاتَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ، لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قوله، فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: ٣٩] هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ السُّؤَالُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَلَوْ حَصَلَ السُّؤَالُ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَحَصَلَ التَّنَاقُضُ.
وَالوجه الثالث: أن نقول: قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ يفيد عموم النفي وقوله:
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَائِدٌ إِلَى الْمُقْتَسِمِينَ وَهَذَا خَاصٌّ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. أما قوله:
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الصَّدْعِ فِي اللُّغَةِ الشَّقُّ وَالْفَصْلُ، وَأَنْشَدَ ابْنُ السِّكِّيتِ لِجَرِيرٍ:

هَذَا الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا قَضَى لَكُمُ بِالْحَقِّ يَصْدَعُ مَا فِي قَوْلِهِ حَيْفٌ
فَقَالَ يَصْدَعُ يَفْصِلُ، وَتَصَدَّعَ الْقَوْمُ إِذَا تَفَرَّقُوا، ومنه قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: ٤٣] قَالَ الْفَرَّاءُ: يَتَفَرَّقُونَ. وَالصَّدْعُ فِي الزُّجَاجَةِ الْإِبَانَةُ، أَقُولُ وَلَعَلَّ أَلَمَ الرَّأْسِ إِنَّمَا سُمِّيَ صُدَاعًا لِأَنَّ قِحْفَ الرَّأْسِ عِنْدَ

صفحة رقم 164
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية