
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٥ الى ٩٩]
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) المعنى: فاصدع بأمري كما كفيتك المستهزئين، وهم قوم كانوا يستهزئون به وبالقرآن، وفي عددهم قولان:
أحدهما: أنهم كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة، وأبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس، قاله ابن عباس، واسم أبي زمعة: الأسود بن المطلب. وكذلك ذكرهم سعيد بن جبير، إِلا أنه قال مكان الحارث بن قيس، الحارث ابن غيطلة، قال الزهري: غيطلة أمه، وقيس أبوه، فهو واحد، وإِنما ذكرتُ ذلك، لئلا يُظَن أنه غيره، وقد ذكرتُ في كتاب «التلقيح» «١» من يُنْسَب إِلى أمه من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وسميت آباءهم ليُعرَفوا إِلى أي الأبوين نُسبوا. وفي رواية عن ابن عباس مكان الحارث بن قيس: عدي بن قيس.
والثاني: أنهم كانوا سبعة، قاله الشعبي، وابن أبي بزة، وعدَّهم ابن أبي بَزَّة، فقال: العاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والحارث بن عدي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، وأصرم وبعكك ابنا عبد الحارث بن السبّاق. وكذلك عدَّهم مقاتل، إِلا أنه قال مكان الحارث بن عدي:
الحارث بن قيس السهميّ، وقال: أصرم وبعكك ابنا الحجاج بن السبَّاق.
(ذِكر ما أهلكهم الله به فكفى رسوله ﷺ أمرهم) (٨٥٤) قال المفسرون: أتى جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والمستهزئون يطوفون بالبيت، فمر الوليد بن المغيرة، فقال جبريل: يا محمد، كيف تجد هذا؟ فقال «بئس عبد الله»، قال: قد كفيت، وأومأ إِلى ساق الوليد، فمر الوليد برجُل يَريش «٢» نبلاً له، فتعلقت شظية من نبل بإزاره، فمنعه الكِبْرُ أن يطامن «٣» لينزعها، وجعلت تضرب ساقه، فمرض ومات. وقيل: تعلَّق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه، فمات.
ومر العاص بن وائل، فقال جبريل: كيف تجد هذا يا محمد، فقال: «بئس عبد الله» فأشار إلى أخمص
الخلاصة: هذه روايات عامتها مرسلة، والموصول لا بأس به بطريقيه، فالحديث حسن من جهة الإسناد بطرقه وشواهده، لكن المتن فيه غرابة والله تعالى أعلم.
__________
(١) وهو كتاب مطبوع متداول، واسمه «تلقيح فهوم أهل الأثر».
(٢) في «القاموس» : راش السهم يريشه: ألزق عليه الريش.
(٣) في «اللسان» : ويقال: طأمن ظهره: إذا حنى ظهره.

رجله، وقال: قد كُفيتَ، فدخلت شوكة في أخمصه، فانتفخت رجله ومات. ومر الأسود بن المطلب، فقال: كيف تجد هذا؟ قال: «عبد سوء» فأشار بيده إِلى عينيه، فعمي وهلك. وقيل: جعل ينطح برأسه الشجر ويضرب وجهه بالشوك، فاستغاث بغلامه، فقال: لا أرى أحداً يصنع بك هذا غير نفسك، فمات وهو يقول: قتلني ربُّ محمد. ومر الأسود بن عبد يغوث، فقال جبريل: كيف تجد هذا؟ فقال: «بئس عبد الله»، فقال: قد كُفيت، وأشار إِلى بطنه، فسَقَى بطنُه، فمات. وقيل: أصاب عينه شوك، فسالت حدقتاه، وقيل: خرج عن أهله فأصابه السَّموم، فاسودَّ حتى عاد حبشياً، فلما أتى أهله لم يعرفوه، فأغلقوا دونه الأبواب حتى مات. ومر به الحارث بن قيس، فقال: كيف تجد هذا؟ قال: «عبدَ سوء» فأومأ إِلى رأسه، وقال: قد كُفيت، فانتفخ رأسه فمات، وقيل: أصابه العطش، فلم يزل يشرب الماء حتى انقدَّ بطنُه، وأما أصرم وبعكك، فقال مقاتل: أخذتْ أحدَهما الدُّبَيْلَةُ «١» والآخرَ ذاتُ الجَنْبِ، فماتا جميعاً. قال عكرمة: هلك المستهزئون قبل بدر. وقال ابن السائب: أُهلكوا جميعاً في يوم وليلة.
قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فيه قولان: أحدهما: أنه التكذيب. والثاني:
الاستهزاء. قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فيه قولان: أحدهما: قل سبحان الله وبحمده، قاله الضحاك. والثاني: فصلِّ بأمر ربك، قاله مقاتل. وفي قوله: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قولان: أحدهما: من المصلِّين. والثاني: من المتواضعين، رويا عن ابن عباس. قوله تعالى: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فيه قولان: أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور. وسمي يقيناً، لأنه موقَن به. وقال الزجاج: معنى الآية: اعبد ربك أبداً، ولو قيل: اعبد ربك، بغير توقيت، لجاز إِذا عبد الإِنسان مرة أن يكون مطيعاً، فلما قال: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أُمر بالإِقامة على العبادة ما دام حيَّاً «٢». والثاني: أنه الحق الذي لا ريب فيه مِنْ نصرك على أعدائك، حكاه الماوردي.
(٢) استدل الباطنية القرامطة ومنهم الشاذلية اليشرطية بهذه الآية على سقوط التكليف عنهم، وفسروا اليقين هنا بالعلم والمعرفة، فقالوا: من حصلت له المعرفة بالله سقطت عنه التكاليف.
قال الحافظ ابن كثير في رده عليهم في «تفسيره» ٢/ ٦٩٢: ويستدل من هذه الآية الكريمة، وهي قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري، عن عمران بن حصين- رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: «صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب». ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء- عليهم السلام- كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة، وإنما المراد باليقين هاهنا الموت، كما قدمناه. ولله الحمد والمنة والحمد لله على الهداية، وعليه الاستعانة والتوكل، وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها.