آيات من القرآن الكريم

إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
ﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ

وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْمُقْتَسِمِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ الْمُقْتَسِمُونَ الْقُرْآنَ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، فَكَانَ ثَانِي الْوَصْفَيْنِ بَيَانًا لِأَوَّلِهِمَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَتَانِ لِلتَّفَنُّنِ.
وَأَنَّ ذَمَّ الْمُشَبَّهِ بِهِمْ يَقْتَضِي ذَمَّ الْمُشَبَّهِينَ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُشَبَّهِينَ قَدْ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بالردّ والتكذيب.
[٩٢، ٩٣]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٩٢ إِلَى ٩٣]
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [سُورَة الْحجر: ٨٥].
وَالْوَاوُ لِلْقَسَمِ، فَالْمُفَرَّعُ هُوَ الْقَسَمُ وَجَوَابُهُ. وَالْمَقْصُودُ بِالْقَسَمِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ. وَلَيْسَ الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- مِمَّنْ يَشُكُّ فِي صِدْقِ هَذَا الْوَعِيدِ وَلَكِنَّ التَّأْكِيدَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى مَا فِي الْخَبَرِ مِنْ تَهْدِيدِ مُعَادِ ضَمِيرِ النصب فِي لَنَسْئَلَنَّهُمْ.
وَوَصْفُ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ فِي السُّؤَالِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ حَظًّا مِنَ التَّنْوِيهِ بِهِ، وَهُوَ سُؤَالُ اللَّهِ الْمُكَذِّبِينَ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ سُؤَالَ رَبٍّ يَغْضَبُ لِرَسُولِهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَالسُّؤَالُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ عِقَابُ الْمَسْئُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [سُورَة التكاثر: ٨] فَهُوَ وَعِيد لِلْفَرِيقَيْنِ.
[٩٤- ٩٦]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٩٤ إِلَى ٩٦]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [سُورَة الْحجر: ٨٧] بِصَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ عَنِ التَّسْلِيَةِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ.

صفحة رقم 87

نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ أَوِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مُخْتَفٍ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ. رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا زَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَتْ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فَخَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. يَعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ خُفْيَةً وَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّاسِ إِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ يَذْهَبُ إِلَى بَعْضِ الشِّعَابِ يَسْتَخْفِي بِصَلَاتِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ وَيَعِيبُونَ صَلَاتَهُمْ، فَحَدَثَ تَضَارُبٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَدْمَى فِيهِ سَعْدٌ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَبَعْدَ تِلْكَ الْوَقْعَةِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ دَارَ الْأَرْقَمِ عِنْدَ الصَّفَا فَكَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِهَا وَاسْتَمَرُّوا كَذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ أَوْ تَزِيدُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ الْآيَةَ. وَبِنُزُولِهَا تَرَكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاخْتِفَاءَ بِدَارِ الْأَرْقَمِ وَأَعْلَنَ بِالدَّعْوَةِ لِلْإِسْلَامِ جَهْرًا.
وَالصَّدْعُ: الْجَهْرُ وَالْإِعْلَانُ. وَأَصْلُهُ الِانْشِقَاقُ. وَمِنْهُ انْصِدَاعُ الْإِنَاءِ، أَيِ انْشِقَاقُهُ.
فَاسْتُعْمِلَ الصَّدْعُ فِي لَازِمِ الِانْشِقَاقِ وَهُوَ ظُهُورُ الْأَمْرِ الْمَحْجُوبِ وَرَاءَ الشَّيْءِ الْمُنْصَدِعِ فَالْمُرَادُ هُنَا الْجَهْرُ والإعلان.
وَمَا صدق «مَا تُؤْمَرُ» هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ.
وَقَصْدُ شُمُولِ الْأَمْرِ كُلُّ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِتَبْلِيغِهِ هُوَ نُكْتَةُ حَذْفِ مُتَعَلِّقِ تُؤْمَرُ، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِنَحْوِ بِتَبْلِيغِهِ أَوْ بِالْأَمْرِ بِهِ أَوْ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ. وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْإِعْرَاضُ عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ لَا عَنْ ذَوَاتِهِمْ. وَذَلِكَ إِبَايَتُهُمُ الْجَهْرَ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، وَعَنِ اسْتِهْزَائِهِمْ، وَعَنْ تَصَدِّيهِمْ إِلَى أَذَى الْمُسْلِمِينَ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِعْرَاضَ عَنْ دَعْوَتِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.

صفحة رقم 88

وَجُمْلَةُ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِعْلَانِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَإِنَّ اخْتِفَاءَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَارِ الْأَرْقَمِ كَانَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ أَهَمُّهَا تَعَدُّدُ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ بِحَيْثُ يَغْتَاظُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ وَفْرَةِ الدَّاخِلِينَ فِي الدِّينِ مَعَ أَنَّ دَعْوَتَهُ مَخْفِيَةٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِإِعْلَانِ دَعْوَتِهِ لِحِكْمَةٍ أَعْلَى تَهَيَّأَ اعْتِبَارُهَا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِوَصْفِ الْمُسْتَهْزِئِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ كَفَاهُ اسْتِهْزَاءُهُمْ وَهُوَ أَقَلُّ أَنْوَاعِ الْأَذَى، فَكِفَايَتُهُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ مِنَ الْأَذَى مَفْهُومٌ بِطْرِيقِ الْأَحْرَى.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ لَا لِلشَّكِّ فِي تَحَقُّقِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ لِلْجِنْسِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ كَفَيْنَاك كل مستهزء. وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ قُصَارَى مَا يُؤْذُونَهُ بِهِ الِاسْتِهْزَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [سُورَة آل عمرَان: ١١١]، فَقَدْ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ أَنْ يُؤْذُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَذَلِكَ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَعْنَى الْكِفَايَةِ تَوَلِّي الْكَافِيَ مُهِمَّ الْمَكْفِيِّ، فَالْكَافِي هُوَ مُتَوَلِّي عَمَلٍ عَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ يَبْتَغِي رَاحَةَ الْمُكْفَى. يُقَالُ: كَفَيْتُ مُهِمَّكَ، فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ ثَانِيهِمَا هُوَ الْمُهِمُّ الْمَكْفِيُ مِنْهُ. فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فَإِذَا كَانَ اسْمَ ذَاتٍ فَالْمُرَادُ أَحْوَالُهُ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ، فَإِذَا قُلْتَ: كَفَيْتُكَ عَدُوَّكَ، فَالْمُرَادُ: كَفَيْتُكَ بَأْسَهُ، وَإِذَا قُلْتَ:
كَفَيْتُكَ غَرِيمَكَ، فَالْمُرَادُ: كَفَيْتُكَ مُطَالَبَتَهُ. فَلَمَّا قَالَ هُنَا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ فُهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ كَفَيْنَاكَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ وَإِرَاحَتُكَ مِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ. وَكَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِصُنُوفٍ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَأْتِي فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ اسْتِهْزَائِهِمِ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِأَسْمَاءِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِثْلُ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَسُورَةِ الْبَقَرَةِ، كَمَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي ذِكْرِ أَسْمَاءِ السُّوَرِ.

صفحة رقم 89
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية