
بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ: فيه شدَّة مَّا، أي: أبشرْ بما بُشِّرْتَ به، ولا تكُنْ من القانِطِينَ، والقنوط: أتمّ اليأس.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٧ الى ٦٥]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١)
قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)
وقوله سبحانه: قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ: لفظةُ الخَطْب إِنما تستعمل في الأمور الشِّدَاد، وقولهم: إِلَّا آلَ لُوطٍ: استثناء منقطعٌ، و «الآلُ» : القومُ الذي يَؤولُ أمرهم إِلى المضافِ إليه كذا قال سيبويه وهذا نصّ في أن لفظة «آل» ليست لفظة «أهْل» كما قال النّحّاس، وإِلَّا امْرَأَتَهُ: استثناءٌ متصلٌ، والاستثناء بعد الاستثناء يردُّ المستثنى الثاني في حكم الأمر الأول، والْغابِرِينَ هنا: أي: الباقين في العذابِ، و «وغَبَر» : من الأضدادِ، يقال في الماضِي وفي الباقي، وقولُ الرسُل للوط: بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ، أي: بما وَعَدَكَ اللَّه من تعذيبهم الذي كانوا يَشْكُونَ فيه، و «الْقَطْعُ» : الجُزْءُ من الليل.
وقوله سبحانه: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ، أي: كن خلفهم، وفي ساقتهم، حتى لا يبقَى منهم أحد، وَلا يَلْتَفِتْ: مأخوذٌ من الالتفات الذي هو نظر العين، قال مجاهد:
المعنى: لا ينظر أحد وراءه، «١» ونُهُوا عن النظر مَخَافَةَ العُلْقَةِ، وتعلُّقِ النفْسِ بِمَنْ خلف، وقيل: لَئِلاَّ تنفطر قلوبُهُمْ من معايَنَة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦٦ الى ٧٧]
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
وقوله سبحانه: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ، أي: أمضيناه وحتمنا به، ثم أدخل في

الكلام إِلَيْه من حيثُ أوحِيَ ذلك إِليه، وأعلمه اللَّه به، وقوله: يَسْتَبْشِرُونَ، أي:
بالأضياف طَمَعاً منهم في الفاحِشَةِ، وقولهم: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ: روي أنهم كانوا تقدَّموا إِليه في ألاَّ يضيفَ أحداً، والعَمْر والعُمْر- بفتح العين وضمِّها- واحدٌ، وهما مدة الحياة، ولا يستعملُ في القَسَم إِلا بالفتحِ، وفي هذه الآية شرف لنبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم لأن اللَّه عزَّ وجلَّ أقسَمَ بحياته، ولم يفعلْ ذلك مع بَشَرٍ سواه قاله ابن عباس «١».
ت: وقال: ص: اللام في لَعَمْرُكَ للابتداءِ، والكافُ خطابٌ لِلُوطٍ عليه السلام، والتقديرُ: قالتِ الملائكةُ له: لَعَمْرُكَ، واقتصر على هذا.
وما ذَكَرَهُ ع «٢» : هو الذي عَوَّل عليهِ عِيَاضٌ وغيره.
وقال ابن العربيِّ في «أحكامه» : قال المفسِّرون بأجمعهم: أقْسَمَ اللَّهُ في هذه الآية بحياة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ولا أدْرِي ما أخرجَهم عن ذكْر لُوطٍ إِلى ذكْرِ محمَّد عليه السلام، وما المانعُ أنْ يُقْسِمَ اللَّه بحياةِ لوطٍ، ويبلغ به من التشريفِ ما شاءَ، وكلُّ ما يُعْطِي اللَّه لِلُوطٍ مِنْ فضلٍ، ويؤتيه مِنْ شَرَفٍ، فلنبيِّنا محمَّد عليه السلام، ضعفاه لأنه أكرمُ على اللَّه منه، وإِذا أقسم اللَّه بحياةِ لوطٍ، فحياة نبينا محمَّد عليه السلام أرْفع، ولا يخرج من كلامٍ إِلى كلامٍ آخر غيره، لم يجْرِ له ذكْرٌ لغير ضرورة. انتهى.
ت: وما ذكَرَه الجمهورُ أحْسَنُ لأن الخطاب خطابُ مواجهةٍ ولأنه تفسير صحابيٍّ، وهو مقدّم على غيره.
ويَعْمَهُونَ: معناه: يتردّدون/ في حيرتهم، ومُشْرِقِينَ: معناه: قد دَخَلوا في الإِشراق، وهو سطوعُ ضوء الشمس وظهوره قاله ابن «٣» زيد، وهذه الصَّيْحةُ هي صيحة الوجْبَة، وليستْ كصيحةِ ثمود، وأهلكوا بعد الفَجْرِ مُصْبحين، واستوفاهم الهَلاَكُ مُشْرِقين، وباقي قصص الآية تقدّم تفسير.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٣٦٩). [.....]
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ٣٧٠).