
قوله تعالى: لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا قرأ الأكثرون بتشديد الكاف. وقرأ ابن كثير، وعبد الوارث بتخفيفها. قال الفراء: ومعنى القراءتين متقارب، والمعنى: حُبستْ، من قولهم: سَكَرَت الريح: إِذا سكنت وركدت. وقال أبو عمرو بن العلاء: معنى «سُكِرَتْ» بالتخفيف، مأخوذ من سُكْر الشراب، يعني: أن الأبصار حارت، ووقع بها من فساد النّظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغيُّر العقل. قال ابن الأنباري: إذا كان هذا معنى الوصف، فسُكِّرت، بالتشديد، يراد به وقوع هذا الأمر مرّة بعد مرّة. وقال أبو عبيدة: «سُكِّرت» بالتشديد، من السُّكور التي تمنع الماءَ الجِرْيَةَ، فكأن هذه الأبصار مُنعت من النظر كما يمنع السِّكرُ الماءَ من الجري. وقال الزّجّاج: «سكّرت» بالتشديد، فسّروها:
أغشيت، و «سكرت» بالتخفيف: تحيَّرتْ وسكنتْ عن أن تنظر، والعرب تقول: سَكِرَتِ الريحُ تَسْكَرُ:
إِذا سكنت. وروى العوفي عن ابن عباس: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا قال: أُخذ بأبصارنا وشبِّه علينا، وإِنما سُحِرْنا. وقال مجاهد: «سُكِّرت» سُدَّت بالسِّحر، فيتماثل لأبصارنا غير ما ترى.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨)
قوله تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً في البروج ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بروج الشمس والقمر، أي: منازلهما، قاله ابن عباس، وأبو عبيدة في آخرين. قال ابن قتيبة: وأسماؤها: الحَمَل، والثَّور، والجَوْزاء، والسَّرَطان، والأسد، والسُّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجَدْي، والدلو، والحوت. والثاني: أنها قصور، روي عن ابن عباس أيضاً. وقال عطية: هي قصور في السماء فيها الحرس. وقال ابن قتيبة: أصل البروج: الحصون. والثالث: أنها الكواكب، قاله مجاهد، وقتادة، ومقاتل. قال أبو صالح: هي النجوم العِظام. قال قتادة: سُميت بروجاً، لظهورها.
قوله تعالى: وَزَيَّنَّاها أي: حسَّنّاها بالكواكب. وفي المراد بالناظرين قولان:
أحدهما: أنهم المبصرون. والثاني: المعتبِرون.
قوله تعالى: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي: حفِظناها أن يصل إِليها شيطان أو يعلم من أمرها شيئاً إِلا استراقاً، ثم يتبعه الشهاب. والرجيم مشروح في سورة آل عمران «١». واختلف العلماء:
هل كانت الشياطين ترمى بالنّجوم قبل مبعث نبيّنا صلى الله عليه وسلم، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها لم ترم حتى بعث صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى: مذكور في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(٨٤٣) وقد أخرج في «الصحيحين» من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «انطلق
حِيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا
__________
(١) عند الآية: ٣٦.

رسول الله ﷺ في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلت عليهم الشهب». وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن قبل ذلك. قال الزجاج: ويدل على أنها إِنما كانت بعد مولد رسول الله ﷺ أن شعراء العرب الذين يمثِّلون بالبرق والأشياء المسرعة، لم يوجد في أشعارها ذِكر الكواكب المنقضّة، فلما حدثت بعد مولد نبيّنا صلى الله عليه وسلم، استعملت الشعراء ذِكرها، فقال ذو الرُّمَّة:
كأنَّه كوكبٌ في إِثْرِ عِفْرِيَةٍ | مُسَوَّم في سوادِ الليل مُنْقَضِبُ «١» |
(٨٤٤) فروى مسلم في «صحيحه» من حديث علي بن الحسين عن ابن عباس قال: بينا النبيّ ﷺ جالس في نفر من أصحابه، إِذ رمي بنجم، فاستنار، فقال: «ما كنتم تقولون إِذا كان مثل هذا في الجاهلية» ؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم، أو يولد عظيم، قال: «فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكنْ ربُّنا إِذا قضى أمراً، سبَّح حملة العرش، ثم سبَّح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهلَ هذه السماء، ثم يستخبر أهلُ كل سماءٍ أهلَ سماءٍ، حتى ينتهي الخبر إِلى هذه السماء، وتخطف الجنّ ويرمون، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرِفون فيه ويزيدون». وروي عن ابن عباس أن الشياطين كانت لا تحجب عن السّماوات، فلمّا ولد عيسى، منعت من ثلاث سماوات، فلمّا ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، منعوا من السّماوات كلِّها. وقال الزهري: قد كان يرمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله، ولكنها غُلِّظت حين بعث صلى الله عليه وسلم، وهذا مذهب ابن قتيبة، قال: وعلى هذا وجدنا الشعر القديم، قال بشر بن أبي خازم، وهو جاهلي:
والعَيْرُ يَرْهَقُها الغُبارُ وجَحْشُها | يَنْقَضُّ خلفهما انقضاضَ الكوكبِ |
فانقض كالدِّرِّيء يتبعه | نقع يثور تخالهُ طُنُبا |
استرق السمع: إذا تسمّع مستخفياً. فَأَتْبَعَهُ أي: لحقه شِهابٌ مُبِينٌ قال ابن قتيبة: كوكب مضيء.
وقيل: «مبين» بمعنى: ظاهر يراه أهل الأرض. وإِنما يسترق الشيطان ما يكون من أخبار الأرض، فأما وحي الله عزّ وجلّ، فقد صانه عنهم. واختلفوا، هل يَقتل الشهاب، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه
صحيح. أخرجه مسلم ٢٢٢٩ والترمذي ٣٢٢٤ وأحمد ١/ ٢١٨ والطحاوي في «المشكل» ٢٣٣٢ وابن حبان ٦١٢٩ والبيهقي ٨/ ١٣٨ من حديث ابن عباس.
__________
(١) في «اللسان» مادة «عفر» لذي الرمة. ورجل عفر وعفرية: خبيث منكر واه.