آيات من القرآن الكريم

إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ

بعض مظاهر قدرة الله تعالى من خلق السموات والأرض وإرسال الرياح لواقح والإحياء والإماتة والعلم الشامل والحشر
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ٢٥]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)
الإعراب:
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ مَنِ مستثنى منصوب، ولا يجوز أن يكون بدلا من كُلِّ شَيْطانٍ لأنه استثناء من موجب.
وَمَنْ لَسْتُمْ.. مَنْ إما منصوب عطفا على قوله مَعايِشَ أي جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد، أو بتقدير فعل، أي وأعشنا من لستم له برازقين، أو عطفا على موضع لَكُمْ المنصوب بجعلنا، وإما موضعه الرفع مبتدأ، وخبره محذوف. ولا يجوز في رأي البصريين خلافا

صفحة رقم 19

للكوفيين عطفه على الكاف واللام في لَكُمْ لأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إن بمعنى «ما» ومِنْ زائدة، وشَيْءٍ في موضع رفع مبتدأ، وعِنْدَنا خبر المبتدأ، وخَزائِنُهُ مرفوع بالظرف وهو عِنْدَنا لوقوعه خبرا للمبتدأ، وتقديره: وما شيء إلا عندنا خزائنه. ودخول إِلَّا أبطل عمل إِنْ على لغة من يعملها.
لَواقِحَ إما جمع لاقحة، أي حوامل بالسحاب لأنها تسوقه، وإما أصله ملاقح، لكن أتى به على حذف الزوائد.
البلاغة:
عِنْدَنا خَزائِنُهُ استعارة تخييلية وتمثيل لكمال قدرته، شبه قدرته تعالى على كل شيء بالخزائن المودع فيها الأشياء، ويخرج منها كل شيء على وفق حكمته.
نُحْيِي وَنُمِيتُ الْمُسْتَقْدِمِينَ والْمُسْتَأْخِرِينَ بين كل طباق.
خَزائِنُهُ وبِخازِنِينَ بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
بُرُوجاً البروج: القصور والمنازل، وأصل البروج: الظهور، يقال: تبرجت المرأة: إذا أظهرت زينتها، والمراد هنا النجوم العظام ونجوم البروج الاثني عشر المعروفة أي منازل الشمس والقمر والكواكب السيّارة الأخرى، وهي اثنا عشر برجا مختلفة الهيئات والخواص، على ما دل عليه الرصد والتجربة، مع بساطة السماء، وأسماء هذه البروج: الحمل، الثور، الجوزاء، والسّرطان، والأسد، والسّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدّلو، والحوت. والعرب تعدّ معرفة مواقع النجوم وأبوابها من أجلّ العلوم، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب.
وبرج المريخ: الحمل والعقرب، والزّهرة: لها الثور والميزان، وعطارد: له الجوزاء والسّنبلة، والقمر: له السرطان، والشمس لها: الأسد، والمشتري له: القوس والحوت، وزحل له: الجدي والدلو.
وَزَيَّنَّاها أي السماء بالكواكب لِلنَّاظِرِينَ المفكرين المعتبرين، المستدلين بها على قدرة مبدعها وتوحيد صانعها وَحَفِظْناها منعناها بالشهب رَجِيمٍ مرجوم بالحجارة إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ لكن من أخذ الشيء خفية أو خطفة، شبه خطفتهم اليسيرة من الملأ الأعلى بالسرقة.
واسترق السمع: تسمّعه بخفة وحذر فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ كوكب يضيء ويحرقه، أو شعلة ساطعة

صفحة رقم 20

من النار. وأتبعه: لحقه. مَدَدْناها بسطناها بحسب مستوى الناظر وبالنسبة للناس القاطنين فيها رَواسِيَ جبالا ثوابت لئلا تتحرك بأهلها مَوْزُونٍ أي مقدّر بمقدار معين على وفق الحكمة والمصلحة.
مَعايِشَ تعيشون بها من المطاعم والملابس، جمع معيشة وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عطف على معايش أو على محل لَكُمْ والمراد به العيال والخدم والمماليك. والقصد من الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين، مختلفة الأجزاء في الوضع، مشتملة على أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، على كمال قدرته، وتناهي حكمته، وتفرده بالألوهية، والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره، أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحتاج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. والخزائن جمع خزانة، وهي ما تحفظ فيه الأشياء النفيسة أو المهمة.
وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أي وما نسمح بإنزاله إلا بقدر معلوم حدّه، لحكمة وعلى حسب المصالح لَواقِحَ حوامل للسحاب، أو التراب، أو للقاح الشجر، كما في قوله: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا [الأعراف ٧/ ٥٧] وفي قولهم: ناقة لاقح أي حامل، شبه الريح التي جاءت بخير تحمل السحاب الماطر بالحامل، كما شبّه ما لا يكون كذلك بالعقيم. مِنَ السَّماءِ السحاب السَّماءِ مطرا فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي جعلناه لكم سقيا لمزارعكم ومواشيكم، يقال للماء المعد لشرب الأرض أو الماشية وسقايتها به: أسقيته، وإذا سقاه ماء أو لبنا: سقيته وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أي ليست خزائنه بأيديكم الْوارِثُونَ الباقون، نرث جميع الخلق الْمُسْتَقْدِمِينَ من ماتوا من ذرية آدم الْمُسْتَأْخِرِينَ الأحياء الذين تأخروا إلى يوم القيامة، أي بقوا أحياء يَحْشُرُهُمْ يجمعهم لا محالة للجزاء وتوسيط الضمير هُوَ للدلالة على أنه القادر المتولي لحشرهم لا غير، وتصدير الجملة بإن لتحقيق الوعد والتنبيه على صحة الحكم حَكِيمٌ باهر الحكمة في صنعه متقن الأفعال عَلِيمٌ وسع علمه كل شيء.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى كفر الكافرين وعجز أصنامهم، ذكر كمال قدرته، وأدلة وحدانيته السماوية والأرضية، ففي السماء: البروج، والكواكب الساطعة، وفي الأرض الممدودة: الجبال الراسيات، والنباتات المقدرة بمقادير معلومة موزونة بميزان الحكمة والعلم، المشتملة على معايش الإنسان والحيوان، كما

صفحة رقم 21

قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات ٥١/ ٢٠- ٢٣].
والدلائل الأرضية سبعة: بسط الأرض، الجبال الثوابت، إنبات النباتات، الإمداد بالأرزاق من الخزائن، إرسال الرياح لواقح، الإحياء والإماتة للحيوانات، خلق الإنسان.
التفسير والبيان:
ووالله لقد أوجدنا في السماء نجوما عظاما من الكواكب الثوابت والسيارات، وزيناها لمن تأمل النظر فيها وكرره، فيما يرى من العجائب الظاهرة، والآيات الباهرة، التي يحار الناظر فيها، كقوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات ٣٧/ ٦] وقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الفرقان ٢٥/ ٦١].
وقال جماعة: البروج: هي منازل الشمس والقمر.
وَحَفِظْناها.. أي ومنعنا الاقتراب من السماء كل شيطان رجيم، كما قال في آية أخرى: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ [الصافات ٣٧/ ٧] والرجيم:
المرجوم، أي المقذوف بالشهب، أو المرمي بالقول القبيح، أو الملعون المطرود.
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ.. استثناء منقطع، أي لكن من استرق السمع، أو أراد استراق شيء من علم الغيب الذي يتحدث به الملائكة، لحقه وأتبعه بشهاب مبين، أي بجزء منفصل من الكوكب، وهو نار مشتعلة، فأحرقه. والشهاب:
شعلة نار ساطع، ويسمى الكوكب شهابا، كما قال في آية أخرى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ

صفحة رقم 22

مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً
[الجن ٧٢/ ٩] وقال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك ٦٧/ ٥].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الشياطين لا تحجب عن السموات، فكانوا يدخلونها، ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة، فيلقونها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام، منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منعوا من السموات كلها، فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع، رمي بشهاب «١».
والصحيح أن الشهاب يقتل الشياطين قبل إلقائهم الخبر، فلا تصل أخبار السماء إلى الأرض أبدا إلا بواسطة الأنبياء وملائكة الوحي. ولذلك انقطعت الكهانة ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثم أردف الله تعالى بيان الدلائل الأرضية بعد الدلائل السماوية على وحدانيته فقال: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها... أي وجعلنا الأرض ممدودة الطول والعرض، ممهدة للانتفاع بها، في مرأى العين، وبالنسبة للإنسان الذي يعيش على سطحها، كما قال تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ [الذاريات ٥١/ ٤٨] فلا يعني ذلك نفي كروية الأرض لأن أجزاء الكرة العظيمة تظهر كالسطح المستوي لمن يقف على جزء منها. وهذا دليل واضح على كمال قدرة الله تعالى وعظمته لأن الإنسان المنتفع بها يراها منبسطة رغم تكويرها، ثابتة رغم تحركها.
وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي وجعلنا فيها جبالا ثوابت كيلا تضطرب بالإنسان، كما قال تعالى في آية أخرى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل ١٦/ ١٥]

(١) تفسير الرازي: ١٩/ ١٦٩، الكشاف: ٢/ ١٨٨

صفحة رقم 23

فدلت الآيات على خلق الله الأرض وبسطها وتوسيعها وجعل الجبال الراسيات والأودية والرمال فيها.
وَأَنْبَتْنا فِيها.. أي وأنبتنا في الأرض من الزرع والثمار المتناسبة، المقدرة بميزان معلوم، وحكمة ومصلحة، ومقدار معين، فكل نبات وزنت عناصره، وقدرت بما يحتاجه. فقوله تعالى: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي مقدر بقدر معلوم، موزون بميزان الحكمة أي على وفق الحكمة والمصلحة، كما قال سبحانه: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد ١٣/ ٨].
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ.. أي وأعددنا لكم في الأرض أسباب المعيشة والحياة الملائمة من غذاء ودواء، ولباس وماء، ونحوها. وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أي وجعلنا لكم فيها أيضا الخدم والمماليك والدواب والأنعام التي لستم أنتم لها رازقون، وهذا يعني أن الله يرزقكم وإياهم.
والمقصود من الآيات أنه تعالى يمتن على الناس بما يسّر لهم في الأرض من أسباب المكاسب والمعيشة، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها، والأنعام التي يأكلونها، والخدم الذين يستخدمونهم، وقد تكفل الله الخالق برزقهم، فرزقهم على خالقهم، لا عليهم، فلهم المنفعة، وعلى الله التسخير والرزق.
ثم أخبر الله تعالى أنه مالك كل شيء، وأن كل شيء سهل يسير عليه، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الأصناف، من نبات ومعادن ومخلوقات لا حصر لها، فقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ.. أي وما من شيء في هذا الكون ينتفع به الناس إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم، نعلم أنه مصلحة له، فذكر الخزائن أراد به التمثيل لا الحقيقة وهو اقتداره على كل مقدور.
ثم أوضح تعالى أسباب حصول النعم، فقال: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ..

صفحة رقم 24

أي وأرسلنا الرياح الخيرة تحمل السحب المشبعة بالرطوبة لإنزال الأمطار، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الأعراف ٧/ ٥٧].
وكذلك جعلنا الرياح واسطة لتلقيح الأشجار، بنقل طلع الذكور ولقاحها إلى الإناث، ليتكون الثمر.
كما أننا جعلنا الرياح وسائل إزالة الغبار عن الأشجار، لينفذ الغذاء إلى مسامّها. قال ابن عباس: الرياح لواقح للشجر وللسحاب.
فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً.. أي فأنزلنا من السحاب مطرا، فأسقيناكموه أي يمكنكم أن تشربوا منه، وأسقينا به زرعكم ومواشيكم، كما قال تعالى:
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء ٢١/ ٣٠] وقال سبحانه: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة ٥٦/ ٦٨- ٧٠] وقال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل ١٦/ ١٠].
وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أي لستم له بحافظين، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله ينابيع في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به، ولكن من رحمته أبقاه لكم في طول السنة، لشرب الناس والزروع والثمار والحيوان، فالتخزين يكون في السحاب وفي جوف الأرض.
ثم أخبر الله تعالى عن قدرته على بدء الخلق وإعادته فقال: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ.. أي ونحن نحيي الخلق من العدم، ثم نميتهم، ثم نبعثهم كلهم ليوم الجمع، ونحن نرث الأرض ومن عليها، وإلينا يرجعون: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص ٢٨/ ٨٨].

صفحة رقم 25

ثم أنبأنا الله تعالى عن تمام علمه بالمخلوقات أولهم وآخرهم، فقال: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ.. أي والله لقد علمنا كل من تقدم وهلك من لدن آدم عليه السلام، ومن هو حي، ومن سيأتي إلى يوم القيامة.
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ.. أي وإن ربك هو الذي يجمعهم جميعا، الأولين والآخرين، من أطاع ومن عصى، ويجازي كل نفس بما كسبت، إنه تعالى حكيم باهر الحكمة في صنعه، متقن الأفعال، واسع العلم، وسع علمه كل شيء، فهو يفعل بمقتضى الحكمة والعلم الشامل.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكرت الآيات دلائل التوحيد السماوية منها والأرضية، وبدأ بذكر الأدلة السماوية، وأردفها بالأدلة الأرضية، وهي ما يأتي:
١- خلق النجوم العظام والكواكب الثابتة والسيارة، وخلق بروج ومنازل لها، وهي اثنا عشر برجا، معروفة في علم الفلك، قدمت ذكرها في بيان المفردات.
٢- حفظ السماء من مقاربة الشيطان الرجيم أي المرجوم، والرجم: الرمي بالحجارة أو باللسان سبا وشتما، وهو أيضا: اللعن والطرد. قال الكسائي: كل رجيم في القرآن فهو بمعنى الشتم.
ومن حاول اختطاف شيء من علم الغيب، قذف بجزء منفصل من الكوكب، مشتعل النار، فأحرقه وقتله، قبل إلقاء ما استرقه من السمع إلى غيره.
٣- الأرض مخلوقة ممهدة منبسطة تتناسب مع إمكان الحياة البشرية عليها، وهي مثبّتة بالجبال الرواسي لئلا تتحرك بأهلها، وفيها من النباتات المختلفة ذات المقادير المعلومة، على وفق الحكمة والمصلحة، وفيها أيضا أصناف المعايش من

صفحة رقم 26

مطاعم ومشارب يعيش الناس وغيرهم بها، وفيها كذلك الدواب والأنعام ذات المنافع المتعددة، والله هو الذي يرزقها.
٤- الله مالك كل شيء، يوجده ويكوّنه وينعم به على حسب مشيئته بمقدار معلوم بحسب حاجة الخلق إليه، فما من شيء من أرزاق الخلق ومنافعهم إلا وعند الله خزائنه، كالمطر المنزل من السماء، والذي به نبات كل شيء، ولكن لا ينزله إلا بمقتضى مشيئته وعلى قدر الحاجة، كما قال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ [الشورى ٤٢/ ٢٧].
٥- هيأ الله في الكون أسبابا للرزق والإيجاد، منها أنه جعل الرياح لواقح للسحاب والأشجار، فأنزل بها الأمطار لشرب الناس وسقاية الزروع والثمار والأشجار والدواب، وهو تعالى يخزنها في السحاب وجوف الأرض، وهو سبحانه المحيي والمميت ووارث الكون، فلا يبقى فيه أحد.
٦- الله تعالى عالم بجميع المخلوقات المتقدمة والمتأخرة إلى يوم القيامة، وإنه تعالى سيحشر الناس جميعا للحساب والجزاء.
واستنبط الفقهاء من آية وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ حكمين فقهيين:
الأول- فضل أول الوقت في الصلاة، وفضل الصف الأول في صلاة الجماعة،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا».
وفي الصف الأول مجاورة الإمام، لكن مجاورة الإمام لا تكون لكل أحد، وإنما هي لكبار العقول، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وأصحاب السنن الأربع عن أبي مسعود: «ليليني منكم أولو الأحلام والنّهى»
وهذا حق ثابت لهم بأمر صاحب الشرع.
الثاني- فضل الصف الأول في القتال، لأن المتقدم باع نفسه لله تعالى، ولم

صفحة رقم 27
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية