آيات من القرآن الكريم

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ

للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إليها وأفضل عندها من الآخر. وقرأ الحسن: ويصدّون، بضم الياء وكسر الصاد. يقال: صدّه عن كذا، وأصدّه. قال:
أُنَاسٌ اصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ «١»
والهمزة فيه داخلة على صدّ صدوداً، لتنقله من غير التعدّى إلى التعدّى. وأما صدّه، فموضوع على التعدية كمنعه، وليست بفصيحة كأوقفه، لأنّ الفصحاء استغنوا بصدّه ووقفه عن تكلف التعدية بالهمزة وَيَبْغُونَها عِوَجاً ويطلبون لسبيل الله زيغاً واعوجاجاً، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية، والأصل: ويبغون لها، فحذف الجار وأوصل الفعل فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أى ضلوا عن طريق الحق، ووقفوا دونه بمراحل. فإن قلت: فما معنى وصف الضلال بالبعد. قلت: هو من الإسناد المجازى، والبعد في الحقيقة للضالّ، لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، كما تقول: جدّ جدّه. ويجوز أن يراد: في ضلال ذى بعد. أو فيه بعد، لأنّ الضالّ قد يضلّ عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)
إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أى ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه، فلا يكون لهم حجة على الله «٢»

(١).
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم صدود السواني في أنوف الحوايم
لذي الرمة، أنشده عنه الفراء، يقال: صده عن كذا، ولغة كلب: أصده عنه إذا منعه، فوضع الصدود موضع الأصداد. والسيافى- بالفاء-: الرياح، لأنها تسفو التراب. وقيل: هي بالقاف جمع ساق أو ساقية، وهي فوق الجدول. والحوايم: الجمال العطاش، لأنها تحوم حول الماء جمع حائم، ويطلق على طير إذا اشتد عطشه حام حول الماء، فإذا ناله سقط ريشه فيغرق فيه. وجمعه حوايم أيضا. ويجوز أن يراد هنا، أو الجبال لأنها لارتفاعها تشرف من بعد كأنها حائمة، أو لأن الطير يحوم فوقها فنسبة الفعل إليها مجاز لأنها محله، يقول: قوم منعوا الناس عن أنفسهم بالسيف لمنع الرياح وضربها في أنوف. الجمال، أو في أعالى الجبال، أو كمنع السقاة إبل غيرهم عن إبلهم في السقي، أو كمنع الأنهار لبعد مائها الإبل العطاش أو الطيور العطاش عن الشرب، لأن الطيور تخاف الغرق فيه.
ويروى: عن أنوف الحوايم. وفيه تشبيه الأعداء بالعطاش وأصحاب السيوف، أو السيوف بالرياح ضمنا.
(٢). قال محمود: «أى ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه فلا يكون لهم حجة... الخ» قال أحمد: جميع الفصل مرضى، لكن في هذه الخاتمة نظر، لأن فيها إشعاراً بأن إعجاز القرآن من حيث اللغة العربية خاصة يتقاصر عن إعجازه، لو قدر منزلا بكل لسان، حتى إنه لو ينزل بجميع اللغات لبلغ من الوضوح إلى حد يكاد أن يكون إلجاء إلى الايمان به، وهذا فيه نظر، والقول به غير متعين، لأن المعجز يفيد العلم بصدق من ظهر على يده، ومتى حصل العلم لم يكن بين علم وعلم تفاوت ولا ترجيح، فلو نزل القرآن بجميع اللغات، لكان العلم الحاصل منه وقد نزل بلغة واحدة، هو العلم الحاصل منه ولو نزل بالجميع، لا تفاوت ولا ترجيح بين العلمين، هذا هو التحقيق، والله أعلم. والزمخشري يبنى في كثير من كلامه على أن العلوم تتفاوت وتنقسم إلى جلى وأجلى، وهو من الحق بمعزل، وإنما ظن ذلك طائفة ظاهرية، والله الموفق.

صفحة رقم 538

ولا يقولوا: لم نفهم ما خوطبنا به، كما قال وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ.
فإن قلت: لم يبعث رسول الله ﷺ إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس جميعاً قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً بل إلى الثقلين، وهم على ألسنة مختلفة، فإن لم تكن للعرب حجه فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة فلو نزل بالعجمية، لم تكن للعرب حجة أيضاً. قلت: لا يخلو إمّا أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل، فبقى أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول، لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر. قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمّة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة، «١» والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة، على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والاختلاف، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها- مع اختلافها وكثرتها، وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها، وكلم الرسول العربىّ كل أمّة بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً- لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء. ومعنى بِلِسانِ قَوْمِهِ بلغة قومه. وقرئ:
بلسن قومه. واللسن واللسان: كالريش والرياش، بمعنى اللغة. وقرئ: «بلسن قومه» بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة، وهو جمع لسان، كعماد وعمد وعمد على التخفيف. وقيل: الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم، ورووه عن الضحاك. وأن الكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أدّاها كل نبىّ بلغة قومه، وليس بصحيح، لأنّ قوله لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ضمير القوم وهم العرب، فيؤدّى إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، وهذا معنى فاسد فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ كقوله فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ لأنّ الله لا يضلّ إلا من يعلم أنه لن يؤمن.
ولا يهدى إلا من يعلم أنه يؤمن. والمراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف «٢»، وبالهداية:
التوفيق واللطف، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يغلب على مشيئته الْحَكِيمُ فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف

(١). قوله «والأقطار المتنازحة» أى المتباعدة جداً. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قوله «والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فخلق الضلال في القلب، لأن الله لا يخلق الشر عند المعتزلة، ويخلقه كالخير عند أهل السنة. (ع)

صفحة رقم 539
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشريّ، جار الله، أبو القاسم
الناشر
دار الكتاب العربي - بيروت
الطبعة
الثالثة - 1407 ه
عدد الأجزاء
4
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية