فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدتنا الآيات إلى ما يأتي:
١- لقد أقام الله تعالى أدلة كثيرة على وجوده وقدرته وعلمه ووحدانيته، منها هذه الأدلة العشرة التي ذكرها في الآية من خلق السموات والأرض، وإنزال المطر من السحاب.. إلخ.
٢- إن نعم الله تعالى على البشر لا تعد ولا تحصى لكثرتها، ولدقة إدراكها وخفائها أحيانا، كخزائن السموات والأرض، وعجائب تكوين الإنسان، وبخاصة دماغه وحواسه من سمع وبصر وملاحظة الصور، وغير ذلك من نعمة العافية، والإمداد بالرزق منذ كونه جنينا في بطن أمه، إلى حين ولادته وطفولته، إلى شبابه وكهولته وشيخوخته، وتقلّبه في أنحاء الأرض، إلى موته فلقاء ربه.
٣- إن النعم على الإنسان من الله، فلم يبدل نعمة الله بالكفر؟! وهلا استعان بها على الطاعة؟! إن من شأن الإنسان ظلم النعمة بإغفال شكرها، وكفرانها وجحودها. والإنسان: جنس، أراد به العموم، وقال بعض المفسرين: وأراد به الخصوص كأبي جهل وجميع الكفار.
دعاء إبراهيم عليه السلام مستقبل البيت الحرام
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٥ الى ٤١]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)
الإعراب:
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي المفعول محذوف، تقديره: أسكنت ناسا من ذريتي بواد.
لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ متعلق بأسكنت، وفصل بينهما بقوله: رَبَّنا لأن الفصل بالندا كثير في كلامهم.
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي مقيمي الصلاة، فحذف الفعل لدلالة ما قبله عليه.
البلاغة:
تَبِعَنِي وعَصانِي نُخْفِي ونُعْلِنُ الْأَرْضِ والسَّماءِ بين كلّ طباق.
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ تهوي: فيه استعارة لأن حقيقة الهويّ النزول من علو إلى انخفاض، كالهبوط، والمراد: تسرع إليهم شوقا وحبا من مكان بعيد، بعكس «تحنّ» فهو قد يكون من المقيم بالمكان.
اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ عرّف البلد هنا، ونكّر في سورة البقرة اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً لأنه في البقرة كان دعاؤه قبل بنائها، فطلب أن تجعل بلدا وآمنا، وهنا كان بعد بنائها، فطلب أن تكون بلد أمن واستقرار.
المفردات اللغوية:
هَذَا الْبَلَدَ بلد مكة آمِناً ذا أمن لمن فيها وَاجْنُبْنِي أبعدني. أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ عن أن نعبد. رَبِّ إِنَّهُنَّ أي الأصنام أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بعبادتهم لها، فلذلك سألت منك العصمة، واستعذت بك من إضلالهن، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية.
فَمَنْ تَبِعَنِي على التوحيد فَإِنَّهُ مِنِّي من أهل ديني. وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ومن عصاني دون الشرك، فإنك تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء، أو بعد التوفيق للتوبة. وقوله:
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ معناه حين يؤمنوا لأنه أراد أن الله يغفر لكل كافر بعد إيمانه ما كان منه سابقا، لكنه عليه السلام استعمل هذه العبارة التي ظاهرها أن كل ذنب فلله أن يغفره حتى الشرك، بسبب ما كان يأخذ به نفسه من القول الجميل، والنطق الحسن، وجميل الأدب.
مِنْ ذُرِّيَّتِي أي بعضها، وهو إسماعيل مع أمه هاجر. بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي مكة، فإنها حجرية لا تنبت. عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي حرمت التعرض له والتهاون به، أو لم يزل معظما تهابه الجبابرة، أو منع منه الطوفان، فلم يستول عليه، ولذلك سمي عتيقا، أي أعتق منه. أَفْئِدَةً قلوبا. مِنَ النَّاسِ بعضهم. تَهْوِي إِلَيْهِمْ تسرع إليهم شوقا وحبا، قال ابن عباس: لو قال: أفئدة الناس، لحنّت إليه فارس والروم والناس كلهم. والمقصود من الدعاء لإقامة الصلاة: توفيقهم لها، أو الدعاء لهم بإقامة الصلاة. وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ أي بالإنبات في الوادي مع سكناهم. لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ تلك النعمة، فأجاب الله تعالى دعوته، فجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء، حتى توجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية والشتوية في يوم واحد.
نُخْفِي نسرّ. مِنْ شَيْءٍ من: زائدة أو للاستغراق، وقول وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. يحتمل أن يكون من كلامه تعالى أو كلام إبراهيم. والمقصود من قوله: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا، وأرحم منا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب، لكنا ندعوك إظهارا لعبوديتك، وافتقارا إلى رحمتك، واستعجالا لنيل ما عندك. وتكرير النداء للمبالغة في التضرع واللجوء إلى الله تعالى، والرغبة في الإجابة. وأتى بضمير جماعة المتكلمين لأنه تقدم ذكره وذكر بنيه.
وَهَبَ لِي أعطاني. عَلَى الْكِبَرِ مع الكبر، ولد إسماعيل ولأبيه تسع وتسعون سنة، وولد إسحاق ولأبيه مائة واثنتا عشرة سنة. اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ أي مواظبا عليها. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي من يقيمها، وأتى بمن لإعلام الله تعالى له أن منهم كفارا.
وَلِوالِدَيَّ هذا قبل أن يتبين له عداوتهما لله عز وجل، وقيل: أسلمت أمه. وقيل:
أراد بهما آدم وحواء. يَقُومُ الْحِسابُ يثبت ويتحقق ويوجد.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى بالأدلة المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه، وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى أصلا، وطلب من رسوله أن يعجب من حال قومه الذين عبدوا الأصنام، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم، وأنه دعا أن يجعل مكة بلد أمان واستقرار، وأن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام، وأنه أسكن بعض ذريته عند البيت الحرام ليعبدوه وحده بالصلاة التي هي أشرف العبادات، وأنه شكر الله تعالى على منحه بعد الكبر واليأس من الولد ولدين هما إسماعيل وإسحاق، وأنه طلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين يوم يوجد الحساب.
والخلاصة: إن إبراهيم عليه السلام هو القدوة والنموذج لعبادة الله عز وجل، فليقتد به من ينتمون إليه.
التفسير والبيان:
هذا تذكير من الله تعالى واحتجاج على مشركي العرب بأن مكة البلد الحرام إنما وضعت منذ القدم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم عليه السلام تبرأ ممن عبد غير الله، وأنه دعا لمكة بالأمن والاستقرار في ظلّ التوحيد، فقال: رَبِّ اجْعَلْ.. أي واذكر يا محمد لقومك حين دعا إبراهيم بقوله: ربي اجعل مكة بلدا آمنا أي ذا أمن واستقرار، لا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد، وقد أجاب الله دعاءه، فجعله آمنا للإنسان والطير والنبات، فلا يقتل فيه أحد، ولا يصاد صيده، ولا يختلى خلاه، ولا يعضد شجره، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [العنكبوت ٢٩/ ٦٧] وقال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران ٣/ ٩٧].
وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ.. أي وباعدني يا رب وبني من عبادة الأصنام، واجعل عبادتنا خالصة لك على منهج التوحيد. وهذا دليل على أنه ينبغي لكل
داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته. وقد استجاب الله دعاه في بعض ذريته دون بعض. وكان هذا الدعاء حين ترك هاجر وابنه إسماعيل، وهو رضيع، في مكة، قبل بناء البيت الحرام.
ثم ذكر أنه افتتن بعبادة الأصنام كثير من الناس فقال: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ.. أي يا رب إن الأصنام كانت سببا في ضلال كثير من الناس عن طريق الهدى والحق، حتى عبدوهن. وقد أضيف الإضلال إلى الأصنام لأنها كانت سببا في الضلال عند عبادتها، وذلك بطريق المجاز، فإن الأصنام جمادات لا تفعل.
فَمَنْ تَبِعَنِي.. أي فمن صدقني في ديني واعتقادي، وسار على منهجي في الإيمان بك وبتوحيدك الخالص، فإنه مني، أي على سنتي وطريقتي، مثل «من غشنا فليس منا» أي ليس على سنتنا، ومن عصاني فلم يقبل ما دعوته إليه من التوحيد لك وعدم الشرك بك، فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة.
وهذا صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة غير الكفار لأنه عليه السلام تبرأ في مقدمة هذه الآية عن الكفار بقوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، ولأنه أيضا بقوله: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه على دينه، فإنه ليس منه، ولا يهتم بإصلاح شؤونه، ولأن الأمة مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة، فكان قوله: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ شفاعة في العصاة غير الكفار.
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا قول إبراهيم عليه السلام:
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ.. الآية، وقول عيسى عليه السلام:
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الآية، ثم رفع يديه، ثم قال: «اللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي» وبكى، فقال الله تعالى: اذهب يا جبريل إلى محمد، وربك
أعلم، وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام، فسأله، فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال، فقال الله تعالى: اذهب إلى محمد، فقال له: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك.
ثم دعا إبراهيم بدعاء ثان بعد بناء البيت الحرام لقوله: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. وبعد الدعاء الأول الذي كان قبل بناء البيت، فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ.. أي يا ربنا إني أسكنت بعض ذريتي وهم إسماعيل ومن ولد منه، بواد لا زرع فيه وهو وادي مكة، عند بيتك المحرم أي الذي حرمت التعرض له والتهاون به، وجعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده، فاجعل قلوب بعض الناس تسرع إليه شوقا ومحبة، وتحن وتميل إلى رؤيته. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم: لو قال: أفئدة الناس، لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال: مِنَ النَّاسِ فاختص به المسلمون.
وارزق ذريتي من أنواع الثمار الموجودة في سائر الأقطار، ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك، وكما أنه واد غير ذي زرع، فاجعل لهم ثمارا يأكلونها.
وقد استجاب الله دعاءه، كما قال: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً، يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [القصص ٢٨/ ٥٧] وتحقق فضل الله ورحمته وكرمه، فبالرغم من أنه ليس في البلد الحرام: «مكة» شجرة مثمرة، فإنه تجبى إليها ثمرات ما حولها من البلاد، من أنواع ثمار الفصول الأربعة، استجابة لدعاء الخليل عليه السلام.
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أي وارزقهم من أنواع الثمار ليشكروك على جزيل نعمتك، أو رجاء أن يشكروك بإقامة الصلاة وكثرة العبادة. وفيه إيماء إلى أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو للاستعانة بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات.
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ.. أي أنت تعلم قصدي في دعائي، وهو التوصل إلى رضاك والإخلاص لك، وأنت أعلم بأحوالنا ومصالحنا، وتعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها، لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء، فلا حاجة لنا إلى الطلب، وإنما ندعوك إظهارا لعبوديتك، وافتقارا إلى رحمتك، واستعجالا لنيل ما عندك.
وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. أي ولا يغيب عن الله شيء في الأرض أو في السماء، فكله مخلوق له، وهو عالم به. وهذا من كلام الله عز وجل، تصديقا لإبراهيم عليه السلام، كقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل ٢٧/ ٣٤] أو من كلام إبراهيم، يعني وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب والشهادة من شيء في كل مكان. ومِنْ للاستغراق، كأنه قيل: وما يخفى عليه شيء ما.
ثم حمد إبراهيم عليه السلام ربه عز وجل على ما رزقه من الولد بعد الكبر، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي.. أي الحمد والشكر كله لله الذي أعطاني ومنحني الولد بعد الكبر والإياس من الولد، أعطاني ولدين هما إسماعيل وأمه هاجر وإسحاق وأمه سارّة. وقدم إسماعيل لأنه كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. وقيل: لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة.
وقوله: عَلَى الْكِبَرِ لأن المنة بهبة الولد في هذه السن أعظم إذ الظفر بالحاجة وقت اليأس من أعظم النعم، ولان الولادة في تلك السن المتقدمة كانت آية لإبراهيم.
إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي إن الله ربي سامع دعائي وقولي، ومجيب من دعاه، وعالم بالمقصود، سواء صرحت به أو لم أصرح. وقال هذا لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض، لا على وجه الإيضاح والتصريح.
ومناسبة قوله: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي.. لقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي.. هو لمراعاة الأدب الجم مع الله تعالى، فهو عليه السلام كان يريد أن يطلب من الله إعانة زوجه هاجر وابنه إسماعيل بعد موته، ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب، بل ذكر أنك يا رب تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا، ثم نوّه بحال ذريته بعد موته، فكان هذا دعاء لزوجه وابنه بالخير والمعونة بعد موته، على سبيل الرمز والتعريض.
وذلك- كما قال الرازي- يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة أفضل من الدعاء،
قال عليه الصلاة والسلام حاكيا عن ربه أنه قال فيما رواه البخاري والبزار والبيهقي عن ابن عمر: «من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطيت السائلين».
ثم دعا بما يكون دليلا على شكر الله فقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ.. أي رب اجعلني مؤديا صلاتي على أتم وجه، محافظا عليها، مقيما لحدودها.
واجعل بعض ذريتي كذلك مقيمي الصّلاة لأن مِنْ للتبعيض.
وخص الصلاة بالذكر لأنها عنوان الإيمان، ووسيلة تطهير النفوس من الفحشاء والمنكر.
رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ أي اقبل يا رب دعائي، أو عبادتي في رأي ابن عباس بدليل قوله تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم ١٩/ ٤٨].
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة وغيرهم عن النعمان بن بشير: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ.
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي.. أي ربنا استرني وتجاوز عن ذنوبي وذنوب والدي وذنوب المؤمنين كلهم يوم يثبت ويوجد الحساب فتحاسب عبادك على أعمالهم
الخيرة والشريرة. قال الحسن: إن أمه كانت مؤمنة، وأما استغفاره لأبيه فكان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين أنه عدو لله، تبرأ منه، كما قال عز وجل:
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة ٩/ ١١٤].
ودعاء إبراهيم لنفسه لا يلزم منه صدور ذنب منه، وإنما المقصود منه الالتجاء إلى الله تعالى، والاعتماد على فضله وكرمه ورحمته.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- تعليمنا طلب نعمة الأمان من الله، فابتداء إبراهيم عليه السلام بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات، وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به.
٢- مشروعية الدعاء للنفس والذرية والبلاد، بل ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته.
٣- كان دعاء إبراهيم مركّزا حول إخلاص التوحيد لله عز وجل، وتجنب عبادة الأصنام والأوثان، التي كانت سببا في إضلال كثير من الناس، فدعاؤه جمع بين طلب أن يرزق التوحيد، وبين طلب صونه عن الشرك، وتضمن أيضا طلب توفيقه لصالح الأعمال، وتخصيصه بالرحمة والمغفرة يوم القيامة.
٤- الالتفاف حول النبي أو المصلح واجب لقول إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي.
٥- طلب المغفرة للعصاة غير الكفار لأن الشرك أو الكفر لا يجوز
بالإجماع طلب إسقاطه ومغفرته لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨].
٦- إسكان إبراهيم زوجه وابنه إسماعيل عند البيت الحرام كان لإقامة الصلاة.
وقد روى البخاري عن ابن عباس ما مفاده أن إبراهيم ترك هاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه، عند البيت، عند دوحة فوق زمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضع عندهما جرابا، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيّعنا ثم رجعت، فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثّنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ حتى بلغ يَشْكُرُونَ.
وبعد أن نفد ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها، فجعلت تسعى سعي المجهود بين الصفا والمروة، سبع مرات،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فذلك سعي الناس بينهما» ثم سمعت وهي على المروة صوتا، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو بجناحه، حتى ظهر الماء.
روى الدارقطني عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تشتفي به شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله به، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه، وهي هزمة «١» جبريل، وسقيا الله إسماعيل».
٧- لا يجوز لأحد أن يفعل فعل إبراهيم في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة، اتكالا على العزيز الرحيم، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله تعالى،
لقوله في الحديث: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. وكان ذلك كله بوحي من الله تعالى.
٨- تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها لأن معنى رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه.
٩- كان من بركة دعاء إبراهيم عليه السلام واستجابة الله له أن التعلق بالبيت الحرام وحبه والشوق إليه والحنين إلى زيارته متمكن في قلب كل مؤمن.
وقال ابن عباس في الآية: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً: سأل أن يجعل الله الناس يهوون السّكنى بمكة، فيصير بيتا محرما، وكل ذلك كان، والحمد لله، وأول من سكنه جرهم.
وأن مكة أصبحت ملتقى الأثمار والفواكه الآتية من كل الأنحاء والأمصار، وأنبت الله لهم بالطائف سائر الأشجار.
١٠- احتج أهل السنة بآية وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ على أن أفعال العبد مخلوقة الله تعالى، وهذا يشمل ترك المنهيات المنصوص عليه في هذه الآية: وَاجْنُبْنِي وفعل المأمورات المنصوص عليه في آية: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه السلام كان مصرا على أن الكل من خلق الله تعالى.
١١- دلّ القرآن على أنه تعالى أعطى إبراهيم عليه السلام ولدين هما إسماعيل وإسحاق على الكبر والشيخوخة، ولم يتعرض القرآن لسن إبراهيم في ذلك الوقت، وإنما يؤخذ من روايات التاريخ.