آيات من القرآن الكريم

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ
ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ

والتفت إليه اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ أي سموات الأرواح وَالْأَرْضَ أي أرض الأجساد وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي سماء عالم القدس ماءً وهو ماء العلم فَأَخْرَجَ بِهِ من أرض النفس مِنَ الثَّمَراتِ وهي ثمرات الحكم والفضائل رِزْقاً لَكُمْ في تقوى القلب بها وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ أي فلك العقول لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ أي بحر آلائه وأسرار مخلوقاته الدالة على عظمته سبحانه وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ أي أنهار العلم التي تنتهي بكم إلى ذلك البحر العظيم وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ شمس الروح وَالْقَمَرَ قمر القلب دائِبَيْنِ في السير بالمكاشفة والمشاهدة وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ ليل ظلمة صفات النفس وَالنَّهارَ نهار نور الروح لطلب المعاش والمعاد والراحة والاستنارة وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ بلسان الاستعداد فإن المسئول بذلك لا يمنع وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ السابقة واللاحقة لا تُحْصُوها لعدم تناهيها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ ينقص حق الله تعالى أو حق نفسه بإبطال الاستعداد أو يضع نور الاستعداد في ظلمة الطبيعة ومادة البقاء في محل الفناء كَفَّارٌ لتلك النعم التي لا تحصى لغفلته عن المنعم عليه بها، وقيل: إن الإنسان لظلوم لنفسه حيث يظن أن شكره يقابل نعمه تعالى، كفار محجوب عن رؤية الفضل عليه بداية ونهاية. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى ويكرمنا بالهداية والعناية.

صفحة رقم 219

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ مفعول لفعل محذوف أي اذكر ذلك الوقت، والمقصود تذكير ما وقع فيه على نهج ما قيل في أمثاله رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ يعني مكة شرفها الله تعالى: آمِناً أي ذا أمن، فصيغة فاعل للنسب كلابن وتامر لأن الآمن في الحقيقة أهل البلد، ويجوز أن يكون الإسناد مجازيا من إسناد ما للحال إلى المحل كنهر جار، والفرق بين ما هنا وما في [البقرة: ١٢٦] من قوله: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً أنه عليه السلام سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمنا كذا في الكشاف، وتحقيقه أنك إذا قلت: اجعل هذا خاتما حسنا فقد أشرت إلى المادة طالبا أن يسبك منها خاتم حسن وإذا قلت: اجعل هذا الخاتم حسنا فقد قصدت الحسن دون الخاتمية، وذلك لأن محط الفائدة هو المفعول الثاني لأنه بمنزلة الخبر، وإلى هذا يرجع ما قيل في الفرق أن في الأول سؤال أمرين البلدية والأمن وهاهنا سؤال أمر واحد وهو الأمن. واستشكل هذا التفسير بأن يقتضي أن يكون سؤال البلدية سابقا على السؤال المحكي في هذه السورة وأنه يلزم أن تكون الدعوة الأولى غير مستجابة.
قال في الكشف: والتقصي عن ذلك إما بأن المسئول أولا صلوحه للسكنى بأن يؤمن فيه أهله في أكثر الأحوال على المستمر في البلاد فقد كان غير صالح لها بوجه على ما هو المشهور في القصة، وثانيا إزالة خوف عرض كما يعتري البلاد الآمنة أحيانا، وأما بالحمل على الاستدامة وتنزيله منزلة العاري عنه مبالغة أو بأن أحدهما أمن الدنيا والآخر أمن الآخرة أو أن الدعاء الثاني صدر قبل استجابة الأول، وذكر بهذه العبارة إيماء إلى أن المسئول الحقيقي هو الأمن والبلدية توطئة لا أنه بعد الاستجابة عراه خوف، وكأنه بنى الكلام على الترقي فطلب أولا أن يكون بلدا آمنا من جملة البلاد التي هي كذلك، ثم لتأكيد الطلب جعله مخوفا حقيقة فطلب الأمن لأن دعاء المضطر أقرب إلى الإجابة ولذا ذيله عليه السلام بقوله: إِنِّي أَسْكَنْتُ إلخ اه.
وهو مبني على تعدد السؤال وإن حمل على وحدته وتكرير الحكاية كما استظهره بعضهم، واستظهر آخرون الأول لتغاير التعبير في المحلين، فالظاهر أن المسئول كلا الأمرين وقد حكى أولا، واقتصر هاهنا على حكاية سؤال الأمن لأن سؤال البلدية قد حكي بقوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ إذ المسئول هويها إليهم للمساكنة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا للحج فقط وهو عين سؤال البلدية وقد حكى بعبارة أخرى على ما اختاره بعض الأجلة أو لأن نعمة الأمن أدخل في استيجاب الشكر فذكره أنسب بمقام تقريع الكفرة على إغفاله على ما قيل، وهذه الآية وما تلاها أعني قصة إبراهيم عليه السلام على ما نص عليه صاحب الكشف واردة على سبيل الاعتراض مقررة لما حث عليه من الشكر بالإيمان والعمل الصالح وزجر عنه من مقابلهما مدمجا فيها دعوة هؤلاء النافرين بلسان اللطف والتقريب مؤكدة لجميع ما سلف أشد التأكيد.
وفي إرشاد العقل السليم أن المراد منها تأكيد ما سلف من تعجيبه ﷺ ببيان فن آخر من جنايات القوم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعد ما كفروا بالنعم العامة وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام حيث أسكنهم مكة زادها الله تعالى شرفا لإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى وسأله أن يجعله بلدا آمنا ويرزقهم من الثمرات ويهوى قلوب الناس إليهم فاستجاب الله تعالى دعاءه وجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء فكفروا بتلك النعم العظام واستبدلوا دار البوار بالبلد الحرام وجعلوا لله تعالى أندادا وفعلوا ما فعلوا من القبائح الجسام وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أي بعدني وإياهم أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ أي عن عبادتها، وقرأ الجحدري. وعيسى الثقفي «وأجنبني»

صفحة رقم 220

بقطع الهمزة وكسر النون بوزن أكرمني وهما لغة أهل نجد يقولون: جنبه مخففا وأجنبه رباعيا وأما أهل الحجاز فيقولون: جنبه مشددا، وأصل التجنب أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره ثم استعمل بمعنى البعد، والمراد هنا على ما قال الزجاج طلب الثبات والدوام على ذلك أي ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام وإلا فالأنبياء معصومون عن الكفر وعبادة غير الله تعالى. وتعقب ذلك الإمام بأنه لما كان من المعلوم أنه سبحانه يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب فما الفائدة في سؤال التثبيت؟ ثم قال: والصحيح عندي في الجواب وجهان: الأول أن عليه السلام وإن كان يعلم أن الله تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضما لنفسه وإظهارا للحاجة والفاقة إلى فضل الله سبحانه وتعالى في كل المطالب، والثاني أن الصوفية يقولون: الشرك نوعان. ظاهر وهو الذي يقول به المشركون. وخفي وهو تعلق القلب بالوسائط والأسباب الظاهرة والتوحيد المحض قطع النظر عما سوى الله تعالى، فيحتمل أن يكون مراده عليه السلام من هذا الدعاء العصمة عن هذا الشرك انتهى، ويرد على هذا الأخير أنه يعود السؤال عليه فيما أظن لأن النظر إلى السوي يحاكي الشرك الذي يقول به المشركون عند الصوفية فقد قال قائلهم (١) :

ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
ولا أظن أنهم يجوزون ذلك للأنبياء عليهم السلام، وحيث بني الكلام على ما قرروه يقال: ما فائدة سؤال العصمة عن ذلك والأنبياء عليهم السلام معصومون عنه؟ والجواب الصحيح عندي ما قيل: إن عصمة الأنبياء عليهم السلام ليست لأمر طبيعي فيهم بل بمحض توفيق الله تعالى إياهم وتفضله عليهم، ولذلك صح طلبها وفي بعض الآثار أن الله سبحانه قال لموسى عليه السلام: يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط.
وأنت تعلم أن المبشرين بالجنة على لسان الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام كانوا كثيرا ما يسألون الله تعالى الجنة مع أنهم مقطوع لهم بها، ولعل منشأ ذلك ما قيل لموسى عليه السلام فتدبر، والمتبادر من بنيه عليه السلام من كان من صلبه، فلا يتوهم أن الله تعالى لم يستجب دعاءه لعبادة قريش الأصنام وهم من ذريته عليه السلام حتى يجاب بما قاله بعضهم من أن المراد كل من كان موجودا حال الدعاء من أبنائه ولا شك أن دعوته عليه السلام مجابة فيهم أو بأن دعاءه استجيب في بعض دون بعض ولا نقص فيه كما قال الإمام.
وقال سفيان بن عيينة: إن المراد ببنيه ما يشمل جميع ذريته عليه السلام وزعم أنه لم يعبد أحد من أولاد إسماعيل عليه السلام الصنم وإنما كان لكل قوم حجر نصبوه وقالوا هذا حجر والبيت حجر وكانوا يدورون به ويسمونه الدوار ولهذا كره غير واحد أن يقال دار بالبيت (٢)
بل يقال طاف به، وعلى ذلك أيضا حمل مجاهد البنين وقال: لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنما وإنما عبد بعضهم الوثن، وفرق بينهما بأن الصنم هو التمثال المصور والوثن هو التمثال الغير المصور، وليت شعري كيف ذهبت على هذين الجليلين ما في القرآن من قوارع تنعى على قريش عبادة الأصنام. وقال الإمام بعد نقله كلام مجاهد: إن هذا ليس بقوي لأنه عليه السلام لم يرد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والصنم كالوثن في ذلك ويرد مثله على ابن عيينة، ومن هنا قيل عليه: إن فيما ذكره كرا على ما فر منه لأن ما كانوا يصنعونه عبادة لغير الله تعالى أيضا: واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان
(١) هو ابن الفارض قدس سره اه منه.
(٢) ولا يخفى أن هذا من الآداب وإلا فقد ورد «دار» في بعض من الآثار كما قال النووي اه منه.

صفحة رقم 221

ليس إلا من الله تعالى لأنه عليه السلام إنما طلب التبعيد عن عبادة الأصنام منه تعالى، وحمل ذلك على الألطاف فيه ما فيه رَبِّ إِنَّهُنَّ أي الأصنام أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أي تسببن له في الضلال فاسناد الإضلال إليهن مجازي لأنهن جماد لا يعقل منهن ذلك والمضل في الحقيقة هو الله تعالى، وهذا تعليل لدعائه عليه السلام السابق، وصدر بالنداء إظهارا للاعتناء به ورغبة في استجابته فَمَنْ تَبِعَنِي منهم فيما أدعو إليه من التوحيد وملة الإسلام فَإِنَّهُ مِنِّي يحتمل أن تكون من تبعيضية على التشبيه أي فإنه كبعضي في عدم الانفكاك، ويحتمل أن تكون اتصالية كما في
قوله ﷺ لعليّ كرم الله تعالى وجهه «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»
أي فإنه متصل بي لا ينفك عني في أمر الدين، وتسميتها اتصالية لأنه يفهم منها اتصال شيء بمجرورها وهي ابتدائية إلا أن ابتدائيته باعتبار الاتصال كذا في حواشي شرح المفتاح الشريفي، يعني أن مجرورها ليس مبدأ أو منشأ لنفس ما قبلها بل لاتصاله، فإما أن يقدر متعلقها فعلا خاصا كما قاله الجلال السيوطي في بيان الخبر من أن مِنِّي فيه خبر المبتدأ ومن اتصالية ومتعلق الخبر خاص والباء زائدة بمعنى أنت متصل بي ونازل مني بمنزلة هارون من موسى، وإما أن يقدر فعل عام كما ذهب إليه الشريف هناك أي منزلته بمنزلة كائنة وناشئة مني كمنزلة هارون من موسى عليهما السلام، وتقديره خاصا هنا كما فعلنا على تقدير جعلها اتصالية مما يستطيبه الذوق السليم دون تقديره عاما وَمَنْ عَصانِي أي لم يتبعني، والتعبير عنه بالعصيان كما قيل للإيذان بأنه عليه السلام مستمر على الدعوة وأن عدم اتباع من لم يتبعه إنما هو لعصيانه لا لأن الدعوة لم تبلغه. وفي البحر أن بين الاتباع والعصيان طباقا معنويا لأن الاتباع طاعة فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي قادر على أن تغفر له وترحمه، وفي الكلام على ما أشار إليه البعض حذف والتقدير ومن عصاني فلا أدعو عليه فإنك إلخ، وفي الآية دليل على أن الشرك يجوز أن يغفر ولا إشكال في ذلك بناء على ما قال النووي في شرح مسلم من أن مغفرة الشرك كانت في الشرائع القديمة جائزة في أممهم وإنما امتنعت في شرعنا.
واختلف القائلون بأن مغفرة الشرك لم تكن جائزة في شريعة من الشرائع في توجيه الآية، فمنهم من ذهب إلى أن المراد غفور رحيم بعد التوبة ونسب ذلك إلى السدي. ومنهم من ذهب إلى تقييد العصيان بما دون الشرك وغفل عما تقتضيه المعادلة، وروي ذلك عن مقاتل. وفي رواية أخرى عنه أنه قال: إن المعنى ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان والإسلام وتهديه إلى الصواب. ومنهم من قال:
المعنى ومن لم يتبعني فيما أدعو إليه من التوحيد وأقام على الشرك فإنك قادر على أن تستره عليه وترحمه بعدم معاجلته بالعذاب، ونظير ذلك قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: ٦] ومنهم من قال: إن الكلام على ظاهره وكان ذلك منه عليه السلام قبل أن يعلم أن الله سبحانه لا يغفر الشرك، ولا نقص بجهل ذلك لأن مغفرة الشرك جائزة عقلا كما تقرر في الأصول لكن الدليل السمعي منع منها، ولا يلزم النبي أن يعلم جميع الأدلة السمعية في يوم واحد. والإمام لم يرتض أكثر هذه الأوجه وجعل هذا الكلام منه عليه السلام شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة وأنه دليل لحصول ذلك لنبينا ﷺ فقال: إن المعصية المفهومة من الآية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو قبلها، والأول والثاني باطلان لأن مَنْ عَصانِي مطلق فتخصيصه عدول عن الظاهر، وأيضا الصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصم فلا يمكن اللفظ عليه فثبت أن الآية شفاعة لأهل الكبائر قبل التوبة، ومتى ثبتت منه عليه السلام ثبتت في حق نبينا عليه الصلاة والسلام لمكان اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النساء: ١٢٥] ونحوه، ولئلا يلزم النقص، وهو كما ترى، وقد مر لك ما ينفعك في هذا المقام فتذكر هداك الله تعالى.
رَبَّنا قال في البحر كرر النداء رغبة في الإجابة والالتجاء إليه تعالى، وأتى بضمير الجماعة لأنه تقدم ذكره

صفحة رقم 222

عليه السلام وذكر بنيه في قوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ وتعقب بأن ذلك يقتضي ضمير الجماعة في رَبِّ إِنَّهُنَّ إلخ مع أنه جيء فيه بضمير الواحد، فالوجه أن ذلك لأن الدعاء المصدر به وما هو بصدد تمهيد مبادئ إجابته من قوله:
إِنِّي أَسْكَنْتُ إلخ متعلق بذريته، فالتعرض لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخل في القبول وإجابة المسئول، والتأكيد لمزيد الاعتناء فيما قصده من الخبر ومِنْ في قوله مِنْ ذُرِّيَّتِي بمعنى بعض وهي في تأويل المفعول به أي أسكنت بعض ذريتي، ويجوز أن يكون المفعول محذوفا والجار والمجرور صفته سدت مسده أي أسكنت ذرية من ذريتي ومِنْ تحتمل التبعيض والتبيين. وزعم بعضهم أن مِنْ زائدة على مذهب الأخفش لا يرتضيه سليم البصيرة كما لا يخفى، والمراد بالمسكن إسماعيل عليه السلام ومن سيولد له فإن إسكانه حيث كان على وجه الاطمئنان متضمن لإسكانهم، والداعي للتعميم على ما قيل قوله الآتي: لِيُقِيمُوا إلخ، ولا يخفى أن الإسكان له حقيقة ولأولاده مجاز، فمن لم يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز يرتكب لذلك عموم المجاز، وهذا الإسكان بعد ما كان بينه عليه السلام وبين أهله ما كان.
وذلك أن هاجر أم إسماعيل كانت أمة من القبط لسارة فوهبتها من إبراهيم عليه السلام فلما ولدت له إسماعيل غارت فلم تقاره على كونه معها فأخرجها وابنها إلى أرض مكة فوضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى منطلقا فتبعته هاجر فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء قالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم (١) قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت، وانطلق عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرون استقبل بوجهه البيت وكان إذ ذاك مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ- إلى- لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ثم إنها جعلت ترضع ابنها وتشرب مما في السقاء حتى إذا نفد عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر، فهبطت حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزته ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر ففعلت ذلك سبع مرات ولذلك سعى الناس بينهما سبعا، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتغرف منه في سقائها وهو يفور فشربت وأرضعت ولدها وقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله سبحانه لا يضيع أهله، ثم إنه مرت رفقة من جرهم فرأوا طائرا عائفا فقالوا: لا طير إلا على الماء فبعثوا رسولهم فنظر فإذا بالماء فأتاهم فقصدوه وأم إسماعيل عنده، فقالوا: أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت، فلما أدرك إسماعيل عليه السلام زوجوه امرأة منهم وتمام القصة في كتب السير. بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وهو وادي مكة شرفها الله تعالى، ووصفه بذلك دون غير مزورع للمبالغة لأن المعنى ليس صالحا للزرع، ونظيره قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر: ٢٨] وكان ذلك لحجريته، قال ابن عطية: وإنما لم يصفه عليه السلام بالخلو عن الماء مع أنه حاله إذ ذاك لأنه كان علم أن الله تعالى لا يضيع إسماعيل عليه السلام وأمه في ذلك الوادي وأنه سبحانه يرزقهما الماء فنظر عليه السلام النظر البعيد، وقال أبو

(١) وبهذا يبطل استدلال بعض غلاة المتصوفة بالآية على أنه يجوز للإنسان أن يضع ولده وعياله في أرض مضيعة اتكالا اه منه.

صفحة رقم 223

حيان بعد نقله وقد يقال: إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء إذ لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث الماء فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء اه، وقال بعضهم: إن طلب الماء لم يكن مهما له عليه السلام لما أن الوادي مظنة السيول والمحتاج للماء يدخر منها ما يكفيه وكان المهم له طلب الثمرات فوصف ذلك بكونه غير صالح للزرع بيانا لكمال الافتقار إلى المسئول فتأمل. عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ظرف لأسكنت كقولك: صليت بمكة عند الركن، وزعم أبو البقاء أنه صفة واد أبو بدل منه، واختار بعض الأجلة الأول إذ المقصود إظهار كون ذلك الإسكان مع فقدان مباديه لمحض التقرب إلى الله تعالى والالتجاء إلى جواره الكريم كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الحرمة المؤذن بعزة الملتجأ وعصمته عن المكاره، فإنهم قالوا: معنى كون البيت محرما أن الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به أو أنه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه الجبابرة في كل عصر أو لأنه منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذا سمي عتيقا على ما قيل (١)، وأبعد من قال إنه سمي محرما لأن الزائرين يحرمون على أنفسهم عند زيارته أشياء كانت حلالا عليهم، وسماه عليه السلام بيتا باعتبار ما كان فإنه كان مبنيا قبل، وقيل: باعتبار ما سيكون بعد وهو ينزع إلى اعتبار عنوان الحرمة كذلك.
رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي لأن يقيموا، فاللام جارة والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، والجار والمجرور متعلق- بأسكنت- المذكور، وتكرير النداء وتوسيطه لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة فإنها عماد الدين ولذا خصها بالذكر من بين سائر شعائره، والمعنى على ما يقتضيه كلام غير واحد على الحصر أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستسعدين بجوارك الكريم متقربين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين رحمتك التي آثرت بها سكان حرمك.
وهذا الحصر- على ما ذكروا- مستفاد من السياق فإنه عليه السلام لما قال: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ نفى أن يكون سكانهم للزراعة ولما قال: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ أثبت أنه مكان عبادة فلما قال: لِيُقِيمُوا أثبت أن الإقامة عنده عبادة وقد نفى كونها للكسب فجاء الحصر مع ما في رَبَّنا من الإشارة إلى أن ذلك هو المقصود.
وعن مالك أن التعليل يفيد الحصر، فقد استدل بقوله تعالى: لِتَرْكَبُوها [النحل: ٨] على حرمة أكلها، وفي الكشف أن استفادة الحصر من تقدير محذوف مؤخر يتعلق به الجار والمجرور أي ليقوموا أسكنتهم هذا الإسكان، أخبر أولا أنه أسكنهم، بواد قفر فأدمج فيه حاجتهم إلى الوافدين وذكر وجه الإيثار لشرف الجوار بقوله: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ثم صرح ثانيا بأنه إنما آثر ذلك ليعمروا حرمك المحرم وبنى عليه الدعاء الآتي، ومن الدليل على أنه غير متعلق بالمذكور تخلل رَبَّنا ثانيا بين الفعل ومتعلقه وهذا بين ولا وجه لاستفادة ذلك من تكرار رَبَّنا إلا من هذا الوجه اه، واختار بعضهم ما ذكرناه أولا في وجه الاستفادة وقال: إنه معنى لطيف ولا ينافيه الفصل بالنداء لأنه اعتراض لتأكيد الأول وتذكيره فهو كالمنبه عليه فلا حاجة إلى تعلق الجار بمحذوف مؤخر واستفادة الحصر من ذلك، وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، ويجعل النداء مؤكدا للأول يندفع ما قيل: إن النداء له صدر الكلام فلا يتعلق ما بعده بما قبله فلا بد من تقدير متعلق، ووجه الاندفاع ظاهر، وقيل: اللام لام الأمر والفعل مجزوم بها، والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها ولا يخفى بعده، وأبعد منه ما قاله أبو الفرج بن

(١) وقيل: العتيق مقابل الجديد اه منه.

صفحة رقم 224

الجوزي: إن اللام متعلقة بقوله: اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ وفي قوله: لِيُقِيمُوا بضمير الجمع على ما في البحر دلالة على أن الله تعالى أعلمه بأن ولده إسماعيل عليه السلام سيعقب هنالك ويكون له نسل فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ أي أفئدة من أفئدتهم تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي تسرع إليهم شوقا وودادا- فمن- للتبعيض، ولذا قيل: لو قال عليه السلام: أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم، وهو مبني على الظاهر من إجابة دعائه عليه السلام وكون الجمع المضاف يفيد الاستغراق. وروي عن ابن جبير أنه قال: لو قال عليه السلام: أفئدة الناس لحجت البيت اليهود والنصارى.
وتعقب بأنه غير مناسب للمقام إذ المسئول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهها إلى البيت للحج وإلا لقيل تهوى إليه فإن عين الدعاء بالبلدية قد حكي بعبارة أخرى اه. وأنت تعلم أنه لا منافاة بين الشرطية في المروي وكون المسئول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم، وقد جاء نحو تلك الشرطية عن ابن عباس، ومجاهد كما في الدر المنثور. وغيره، على أن بعضهم جعل هذا دعاء بتوجيه القلوب إلى البيت. فقد أخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن الحكم قال: سألت عكرمة. وطاوسا. وعطاء بن أبي رباح عن هذه الآية فَاجْعَلْ إلى آخره فقالوا: البيت تهوى إليه قلوبهم يأتونه، وفي لفظ قالوا: هواهم إلى مكة أن يحجوا نعم هو خلاف الظاهر، وجوز أن تكون مِنْ للابتداء كما في قولك: القلب منه سقيم تريد قلبه فكأنه قيل: أفئدة ناس، واعترضه أبو حيان بأنه لا يظهر كونها للابتداء لأنه لا فعل هنا يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها إذ لا يصح ابتداء جعل أفئدة من الناس.
وتعقبه بعض الأجلة بقوله: وفيه بحث فإن فعل الهوى للأفئدة يبتدأ به لغاية ينتهي إليها، ألا يرى إلى قوله: إِلَيْهِمْ وفيه تأمل اه وكأن فيه إشارة إلى ما قيل: من أن الابتداء في مِنْ الابتدائية إنما هو من متعلقها لا مطلقا، وإن جعلناها متعلقة- بتهوى- لا يظهر لتأخيره ولتوسيط الجار فائدة، وذكر مولانا الشهاب في توجيه الابتداء وترجيحه على التبعيض كلاما لا يخلو عن بحث فقال: اعلم أنه قال في الإيضاح أنه قد يكون القصد إلى الابتداء دون أن يقصد انتهاء مخصوص إذا كان المعنى لا يقتضي إلا المبتدأ منه كأعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، وزيد أفضل من عمرو.
وقد قيل: إن جميع معاني مِنْ دائرة على الابتداء، والتبعيض هنا لا يظهر فيه فائدة كما في قوله: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: ٤] فإن كون قلب الشخص وعظمه بعضا منه معنى مكشوف غير مقصود بالإفادة فلذا جعلت للابتداء والظرف مستقر للتفخيم كأن ميل القلب نشأ من جملته مع أن ميل جملة كل شخص من جهة قلبه كما أن سقم قلب العاشق نشأ منه مع أنه إذا صلح صلح البدن كله، وإلى هذا نحا المحققون من شراح الكشاف لكنه معنى غامض فتدبره، والأفئدة مفعول أول- لا جعل- وهو جمع فؤاد وفسروه على ما في البحر. وغيره بالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد، يقال: فأدت اللحم أي شويته ولحم فئيد أي مشوي، وقيل: الأفئدة هنا القطع من الناس بلغة قريش وإليه ذهب ابن بحر، والمفعول الثاني جملة «تهوى» وأصل الهوى الهبوط بسرعة وفي كلام بعضهم السرعة، وكان حقه أن يعدى باللام كما في قوله:

حتى إذا ما هوت كف الوليد لها طارت وفي كفه من ريشها تبك
وإنما عدي بإلى لتضمينه معنى الميل كما في قوله:
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ما مؤمن الجن كأنجاسها
ولما كان ما تقدم كالمبادئ لإجابة دعائه عليه السلام وإعطاء مسؤوله جاء بالفاء في قوله: «فاجعل» إلى آخره وقرأ هشام «أفئيدة» بياء بعد الهمزة نص عليه الحلواني عنه، وخرج ذلك على الإشباع كما في قوله:

صفحة رقم 225

أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الأذناب
ولما كان ذلك لا يكون إلا في ضرورة الشعر عند بعضهم قالوا: إن هشاما قرأ بتسهيل الهمزة كالياء فعبر عنها الراوي بالياء فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضا من الهمزة. وتعقب ذلك الحافظ أبو عمرو الداني بأن النقلة عن هشام كانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها فهم أجل من أن يعتقد فيهم مثل ذلك. وقرئ «آفدة» على وزن ضاربة وفيه احتمالان: أحدهما أن يكون قدمت فيه الهمزة على الفاء فاجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة فقلبت ألفا فوزنه أعفلة كما قيل في أدور جمع دار قلبت فيه الواو المضمومة همزة ثم قدمت وقلبت الفاء فصار آدر.
وثانيهما أنه اسم فاعل من أفد يأفد بمعنى قرب ودنا ويكون بمعنى عجل، وهو صفة لمحذوف أي جماعة أو جماعات آفدة. وقرئ «أفدة» بفتح الهمزة من غير مد وكسر الفاء بعدها دال، وهو إما صفة من أفد بوزن خشنة فيكون بمعنى آفدة في القراءة الأخرى أو أصله أفئدة فنقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها ثم طرحت وهو وجه مشهور عند الصرفيين والقراء.
قال الأولون: إذا تحركت الهمزة بعد ساكن صحيح تبقى أو تنقل حركتها إلى ما قبلها وتحذف، ولا يجوز جعلها بين بين لما فيه من شبه التقاء الساكنين، وقال صاحب النشر من الآخرين: الهمزة المتحركة بعد حرف صحيح ساكن كمسؤولا وأفئدة وقرآن وظمآن فيها وجه واحد وهو النقل وحكى فيه وجه ثان وهو بين بين وهو ضعيف جدا وكذا قال غيره منهم، فما قيل: إن الوجه إخراجها بين بين ليس بالوجه. وقرأت أم الهيثم «أفودة» بالواو المكسورة بدل الهمزة، قال صاحب اللوامح: وهو جمع وفد، والقراءة حسنة لكني لا أعرف هذه المرأة بل ذكرها أبو حاتم اه. وقال أبو حيان: يحتمل أنه أبدل الهمزة في فؤاد ثم جمع وأقرت الواو في الجمع إقرارها في المفرد أو هو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح وقلب إذ الأصل أوفدة، وجمع فعل على أفعلة شاذ ونجد وأنجدة ووهى وأوهية، وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «إفادة» على وزن امارة ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا: أشاح في وشاح فالوزن فعالة أي فاجعل ذوي وفادة، ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة أي ذوي إفادة وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم. وقرأ مسلمة بن عبد الله «تهوى» بضم التاء مبنيا للمفعول من أهوى المنقول بهمزة التعدية من هوى اللازم كأنه قيل: يسرع بها إليهم.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وجماعة من أهله.
ومجاهد «تهوى»
مضارع هو بمعنى أحب، وعدي بإلى لما تقدم وَارْزُقْهُمْ أي ذريتي الذين أسكنتهم هناك. وجوز أن يريدهم والذين ينحازون إليهم من الناس، وإنما لم يخص عليه السلام الدعاء بالمؤمنين منهم كما في قوله: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة: ١٢٦] اكتفاء- على ما قيل- بذكر إقامة الصلاة.
مِنَ الثَّمَراتِ من أنواعها بأن تجعل بقربهم قرى يحصل فيها ذلك أو تجبى إليهم من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلا الأمرين حتى أنه يجتمع في مكة المكرمة البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد. أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي أن الطائف كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقا للحرم. وفي رواية أن جبريل عليه السلام اقتلعها فجاء وطاف بها حول البيت سبعا ولذا سميت الطائف ثم وضعها قريب مكة. وروي نحو ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري أن الله تعالى نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه السلام. والظاهر أن إبراهيم عليه السلام لم يكن مقصوده من هذا الدعاء نقل أرض منبتة من فلسطين أو قرية من قرى الشام وإنما مقصوده عليه السلام أن يرزقهم سبحانه من الثمرات وهو لا يتوقف على النقل، فلينظر ما وجه الحكمة فيه، وأنا لست على يقين من صحته ولا أنكر والعياذ بالله تعالى أن الله جل وعلا على

صفحة رقم 226

كل شيء قدير وأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء سائر مراسم العبودية واستدل به على أن تحصيل منافع الدنيا إنما هي ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات، ولا يخفى ما في دعائه عليه السلام من مراعاة حسن الأدب والمحافظة على قوانين الضراعة وعرض الحاجة واستنزال الرحمة واستجلاب الرأفة، ولذا من عليه بحسن القبول وإعطاء المسئول، ولا بدع في ذلك من خليل الرحمن عليه السلام.
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ من الحاجات وغيرها، وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي أن مراده عليه السلام ما نخفي من حب إسماعيل وأمه وما نعلن لسارة من الجفاء لهما، وقيل: ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة وما نعلن من البكاء والدعاء، وقيل: ما نخفي من كآبة الافتراق وما نعلن مما جرى بيننا وبين هاجر عند الوداع من قولها: إلى من تكلنا؟ وقولي لها: إلى الله تعالى، وما في جميع هذه الأقوال موصولة والعائد محذوف والظاهر العموم وهو المختار، والمراد بما نخفي على ما قيل ما يقابل ما نُعْلِنُ سواء تعلق به الإخفاء أو لا أي تعلم ما نظهره وما لا نظهره فإن علمه تعالى متعلق بما لا يخظر بباله عليه السلام من الأحوال الخفية، وتقديم ما نُخْفِي على ما نُعْلِنُ لتحقيق المساواة بينهما في تعلق العلم على أبلغ وجه فكان تعلقه بما يخفى أقدم منه بما يعلن أو لأن مرتبة السر والخفاء متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن الا وهو قبل ذلك خفي فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى أقدم من تعلقه بحالته الثانية، وجعل بعضهم ما مصدرية والتقديم والتأخير لتحقيق المساواة أيضا، ومن هنا قيل: أي تعلم سرنا كما تعلم علننا.
والمقصود من فحوى كلامه عليه السلام أن إظهار هذه الحاجات وما هو مباديها وتتماتها ليس لكونها غير معلومة لك بل إنما هو لإظهار العبودية والتخشع لعظمتك والتذلل لعزتك وعرض الافتقار لما عندك والاستعجال لنيل أياديك، وقيل: أراد عليه السلام أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا وأرحم بنا من أنفسنا فلا حاجة لنا إلى الطلب لكن ندعوك لإظهار العبودية إلى آخره، وقد أشار السهروردي إلى أن ظهور الحال يغني عن السؤال بقوله:

ويمنعني الشكوى إلى الناس أنني عليل ومن أشكو إليه عليل
ويمنعني الشكوى إلى الله أنه عليم بما أشكوه قبل أقول
وتكرير النداء للمبالغة في الضراعة والابتهال، وضمير الجماعة- كما قال بعض المحققين- لأن المراد ليس مجرد علمه تعالى بما يخفى وما يعلن بل بجميع خفايا الملك والملكوت وقد حققه عليه السلام بقوله على وجه الاعتراض: وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ لما أن علمه تعالى ذاتي فلا يتفاوت بالنسبة إليه معلوم دون معلوم، وقال أبو حيان: لا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم وبين إضافته إلى جمع المتكلم اهـ. ومما نقلنا يعلم وجه إضافة رب هنا إلى ضمير الجمع، ولا أدري ماذا أراد أبو حيان بكلامه هذا، وما يرد عليه أظهر من أن يخفى، وإنما قال عليه السلام: وَما يَخْفى إلى آخره دون أن يقول: ويعلم ما في السموات والأرض تحقيقا لما عناه بقوله: تَعْلَمُ ما نُخْفِي من أن علمه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبة خفاء بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقات. وكلمة فِي متعلقة بمحذوف وقع صفة- لشيء- أي لشيء كائن فيهما أعم من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئية منهما، وجوز أن تتعلق- بيخفى- وهو كما ترى. وتقديم الأرض على السماء مع توسيط لا بينهما باعتبار القرب والبعد من المستعدين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا. والمراد من السَّماءِ ما يشمل السموات كلها ولو أريد من الْأَرْضِ جهة السفل ومن

صفحة رقم 227

السماء جهة العلو كما قيل جاز (١)، والالتفات من الخطاب إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم والإيذان بعمومه لأنه ليس بشأن يختص به أو بمن يتعلق به بل شامل لجميع الأشياء فالمناسب ذكره تعالى بعنوان مصحح لمبدئية الكل، وعن الجبائي أن هذا من كلام الله تعالى شأنه وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: ٣٤] والأكثرون على الأول. ومِنْ على الوجهين للاستغراق الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي مع كبر سني ويأسي عن الولد- فعلى- بمعنى مع كما في قوله:

إني على ما ترين من كبري أعرف من أين تؤكل الكتف
والجار والمجرور في موضع الحال، والتقييد بذلك استعظاما للنعمة وإظهار الشكر لها، ويصح جعل «على» بمعناها الأصلي والاستعلاء مجازي كما في البحر، ومعنى استعلائه على الكبر أنه وصل غايته فكأنه تجاوزه وعلا ظهره كما يقال: على رأس السنة، وفيه من المبالغة ما لا يخفى، وقال بعضهم: لو كانت للاستعلاء لكان الأنسب جعل الكبر مستعليا عليه كما في قولهم: على دين، وقوله: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ [الشعراء: ١٤] بل الكبر أولى بالاستعلاء منهما حيث يظهر أثره في الرأس وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: ٤] نعم يمكن أن تجري على حقيقتها بجعلها متعلقة بالتمكن والاستمرار أي متمكنا مستمرا على الكبر فهو الأنسب كاظهار ما في الهيئة من الآية حيث لم يكن في أول الكبر اه وفيه غفلة عما ذكرنا إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه وهب له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، ووهب له إسحق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة، وفي رواية أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين، وإسحق لسبعين، وعن ابن جبير لم يولد لإبراهيم عليه السلام إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة إِنَّ رَبِّي ومالك أمري لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي لمجيبه فالسمع بمعنى القبول والإجابة مجاز كما في سمع الله تعالى لمن حمده، وقولهم: سمع الملك كلامه إذا اعتد به وقبله، وهو فعيل من أمثلة المبالغة وأعمله سيبويه وخالف في ذلك جمهور البصريين، وخالف الكوفيون فيه وفي أعمال سائر أمثلتها، وهو إذا قلنا بجواز عمله مضاف لمفعوله أن أريد به المستقبل، وقيل: إنه غير عامل لأنه قصد به الماضي أو الاستمرار، وجوز الزمخشري أن يكون مضافا لفاعله المجازي فالأصل سميع دعاؤه بجعل الدعاء نفسه سامعا، والمراد أن المدعو وهو الله تعالى سامع. وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد لاستلزامه أن يكون من باب الصفة المشبهة وهو متعد ولا يجوز ذلك إلا عند الفارسي حيث لا يكون لبس نحو زيد ظالم العبيد إذا علم أن له عبيدا ظالمين، وهاهنا فيه البأس لظهور أنه من إضافة المثال للمفعول انتهى، وهو كلام متين.
والقول بأن اللبس منتف لأن المعنى على الإسناد المجازي كلام واه لأن المجاز خلاف الظاهر فاللبس فيه أشد ومثله القول بأن عدم اللبس إنما يشترط في إضافته إلى فاعله على القطع، وهذا كما قال بعض الأجلة مع كونه من تتمة الحمد والشكر لما فيه من وصفه تعالى بأن قبول الدعاء عادته سبحانه المستمرة تعليل على طريق التذييل للهبة المذكورة وفيه إيذان بتضاعيف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاء بقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:
١٠٠] فاقترنت الهبة بقبول الدعوة، وذكر بعضهم أن موقع قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ وتذييله موقع الاعتراض بين أدعيته عليه السلام في هذا المكان تأكيدا للطلب بتذكير ما عهد من الإجابة، يتوسل إليه سبحانه بسابق نعمته تعالى في شأنه كأنه عليه السلام يقول اللهم استجب دعائي في حق ذريتي في هذا المقام فإنك لم تزل سميع الدعاء وقد دعوتك على الكبر أن تهب لي ولدا فأجبت دعائي وهبت لي إسماعيل وإسحاق ولا يخفى أن إسحاق عليه السلام لم يكن
(١) قيل وهو أوفق بافراد السماء اه منه.

صفحة رقم 228

مولودا عند دعائه عليه السلام السابق فالوجه أن لا يجعل ذلك اعتراضا بل يحمل على أن الله تعالى حكى جملا مما قاله إبراهيم عليه السلام في أحايين مختلفة تشترك كلها فيما سيق له الكلام من كونه عليه السلام على الإيمان والعمل الصالح وطلب ذلك لذريته وأن ولده الحقيقي من تبعه على ذلك فترك العناد والكفر، وقد ذكر هذا صاحب الكشف.
ومما يعضده ما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ إلخ: قال هذا بعد ذلك بحين، ووحد عليه السلام الضمير في رب وإن كان عقيب ذكر الولدين لما أن نعمة الهبة فائضة عليه عليه السلام خاصة وهما من النعم لا من المنعم عليهم رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ معدلا لها فهو مجاز من أقمت العود إذا قومته، وأراد بهذا الدعاء الديمومة على ذلك، وجوز بعضهم أن يكون المعنى مواظبا عليها، وبعض عظماء العلماء أخذ الأمرين في تفسير ذلك على أن الثاني قيد للأول مأخوذ من صيغة الاسم والعدول عن الفعل كما أن الأول مأخوذ من موضوعه على ما قيل، فلا يلزم استعمال اللفظ في معنيين مجازيين، وتوحيد ضمير المتكلم مع شمول دعوته عليه السلام لذريته أيضا حيث قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي للإشعار بأنه المقتدى في ذلك وذريته أتباع له فإن ذكرهم بطريق الاستطراد «ومن» للتبعيض، والعطف كما قال أبو البقاء على مفعول «اجعل» الأول أي ومن ذريتي مقيم الصلاة.
وفي الحواشي الشهابية أن الجار والمجرور في الحقيقة صفة للمعطوف على ذلك أي وبعضا من ذريتي ولولا هذا التقدير كان ركيكا، وإنما خص عليه السلام هذا الدعاء ببعض ذريته لعلمه من جهته تعالى أن بعضا منهم لا يكون مقيم الصلاة بأن يكون كافرا أو مؤمنا لا يصلي، وجوز أن يكون علم من استقرائه عادة الله تعالى في الأمم الماضية أن يكون في ذريته من لا يقيمها وهذا كقوله: وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: ١٢٨] رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ ظاهره دعائي هذا المتعلق بجعلي وجعل بعض ذريتي مقيمي الصلاة ولذلك جيء بضمير الجماعة، وقيل: الدعاء بمعنى العبادة أي تقبل عبادتي. وتعقب بأن الأنسب أن يقال فيه دعاءنا حينئذ.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وهبيرة عن حفص «دعائي» بياء ساكنة في الوصل، وفي رواية البزي عن ابن كثير أنه يصل ويقف بياء.
وقال قنبل: إنه يشم الياء في الوصل ولا يثبتها ويقف عليها بالألف رَبَّنَا اغْفِرْ لِي أي ما فرط مني مما أعده ذنبا وَلِوالِدَيَّ أي لأمي وأبي، وكانت أمه على ما روي عن الحسن مؤمنة فلا إشكال في الاستغفار لها، وأما استغفاره لأبيه فقد قيل في الاعتذار عنه إنه كان قبل أن يتبين له أنه عدو لله سبحانه والله تعالى قد حكى ما قاله عليه السلام في أحايين مختلفة، وقيل: إنه عليه السلام نوى شرطية الإسلام والتوبة وإليه ذهب ابن الخازن، وقيل: أراد بوالده نوحا عليه السلام، وقيل: أراد بوالده آدم وبوالدته حواء عليهما السلام وإليه ذهب بعض من قال بكفر أمه والوجه ما تقدم.
وقالت الشيعة: إن والديه عليه السلام كانا مؤمنين ولذا دعا لهما، وأما الكافر فأبوه والمراد به عمه أو جده لأمه، واستدلوا على إيمان أبويه بهذه الآية ولم يرضا ما قيل فيها حتى القول الأول بناء على زعمهم أن هذا الدعاء كان بعد الكبر وهبة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام له وقد كان تبين له في ذلك الوقت عداوة أبيه الكافر لله تعالى.
وقرأ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما. وأبو جعفر محمد. وزيد ابنا علي. وابن يعمر. والزهري. والنخعي «ولولدي» بغير ألف وبفتح اللام تثنية ولد يعني بهما إسماعيل وإسحاق. وأنكر عاصم الجحدري هذه القراءة ونقل أن في مصحف أبي «ولأبوي» وفي بعض المصاحف «ولذريتي» وعن يحيى بن يعمر «ولولدي» بضم الواو وسكون اللام

صفحة رقم 229

فاحتمل أن يكون جمع ولد كأسد في أسد ويكون قد دعا عليه السلام لذريته، وأن يكون لغة في الولد كما في قول الشاعر:

فليت زيادا كان في بطن أمه وليت زيادا كان ولد حمار
ومثل ذلك العدم والعدم، وقرأ ابن جبير «ولوالدي» بإسكان الياء على الإفراد كقوله: واغفر لأبي وَلِلْمُؤْمِنِينَ كافة من ذريته وغيرهم، ومن هنا قال الشعبي فيما رواه عنه ابن أبي حاتم: ما يسرني بنصيبي من دعوة نوح وإبراهيم عليهما السلام للمؤمنين والمؤمنات حمر النعم، وللإيذان باشتراك الكل في الدعاء بالمغفرة جيء بضمير الجماعة يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي يثبت ويتحقق، واستعمال القيام فيما ذكر إما مجاز مرسل أو استعارة، ومن ذلك قامت الحرب والسوق، وجوز أن يكون قد شبه الحساب برجل قائم على الاستعارة المكنية وأثبت له القيام على التخييل، وأن يكون المراد يقوم أهل الحساب فحذف المضاف أو أسند إلى الحساب ما لأهله مجازا، وجعل ذلك العلامة الثاني في شرح التخليص مثل ضربه التأديب مما فيه الإسناد إلى السبب الغائي أي يقوم أهله لأجله، وذكر السالكوتي أنه إنما قال مثله لأن الحساب ليس ما لأجله القيام حقيقة لكنه شبيه به في ترتبه عليه وفيه بحث.
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ خطاب لكل من توهم غفلته تعالى، وقيل للنبي ﷺ كما هو المتبادر، والمراد من النهي تثبيته عليه الصلاة والسلام على ما هم عليه من عدم ظن أن الغفلة تصدر منه عز شأنه كقوله تعالى: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [القصص: ٨٨] وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص: ٨٧] أي دم على ذلك، وهو مجاز كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء: ١٣٦] وفيه إيذان بكون ذلك الحسبان واجب الاحتراز عنه في الغاية حتى نهى عنه من لا يمكن تعاطيه، وجوز أن يكون المراد من ذلك على طريق الكناية أو المجاز بمرتبتين الوعيد والتهديد، والمعنى لا تحسبن الله تعالى يترك عقابهم للطفه وكرمه بل هو معاقبهم على القليل والكثير، وأن يكون ذلك استعارة تمثيلية أي لا تحسبنه تعالى يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ولكن معاملة الرقيب المحاسب على النقير والقطمير، وإلى هذه الأوجه أشار الزمخشري. وتعقب الوجه الأول بأنه غير مناسب لمقام النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يتوهم منه عدم الدوام على ما هو عليه من عدم الحسبان ليثبت، وفيه نظر.
وفي الكشف الوجه هو الأول لأن في إطلاق الغافل عليه سبحانه وإن كان على المجاز ركة يصان كلام الله تعالى عنها، وفي الكناية النظر إلى المجموع فلم يجسر العاقل عليه تعالى عنه، ويجوز أن يكون الأول مجازا في المرتبة الثانية بجعل عدم الغفلة مجازا عن العلم، ثم جعله مجازا عن الوعيد غير سديد لعدم منافاة إرادة الحقيقة.
والأسلم من القيل والقال ما ذكرناه أولا من كون الخطاب لكل من توهم غفلته سبحانه وتعالى لغير معين، وهو الذي اختاره أبو حيان، وعن ابن عيينة أن هذا تسلية للمظلوم (١) وتهديد للظالم فقيل له: من قال هذا؟ فغضب وقال:
إنما قاله من علمه، وقد نقل ذلك في الكشاف فاستظهر صاحب الكشف كونه تأييدا لكون الخطاب لغير معين، وجوز أن يكون جاريا على الأوجه إذ على تقدير اختصاص الخطاب به عليه الصلاة والسلام أيضا لا يخلو عن التسلية للطائفتين فتأمل، والمراد بالظالمين أهل مكة الذين عدت مساويهم فيما سبق أو جنس الظالمين وهم داخلون دخولا أوليا، والآية على ما قال الطيبي مردودة إلى قوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا وقُلْ لِعِبادِيَ واختار جعلها تسلية له عليه الصلاة والسلام وتهديدا للظالمين على سبيل العموم.
(١) وروي نحوه عن ميمون بن مهران اه منه.

صفحة رقم 230

وقرأ طلحة «ولا تحسب» بغير نون التوكيد إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنيوية ولا يعجل عقوبتهم، وهو استئناف وقع تعليلا للنهي السابق أي لا تحسبن الله تعالى غافلا عن عقوبة أعمالهم لما ترى من التأخير إنما ذلك لأجل هذه الحكمة، وإيقاع التأخير عليهم مع أن المؤخر إنما هو عذابهم قيل: لتهويل الخطب وتفظيع الحال ببيان أنهم متوجهون إلى العذاب مرصدون لأمر ما لا أنهم باقون باختيارهم، وللدلالة على أن حقهم من العذاب هو الاستئصال بالمرة وأن لا يبقى منهم في الوجود عين ولا أثر، وللإيذان بأن المؤخر ليس من جملة العذاب وعنوانه، ولو قيل: إنما يؤخر عذابهم لما فهم ذلك.
وقرأ السلمي والحسن والأعرج والمفضل عن عاصم، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو. وغيرهم «نؤخرهم» بنون العظمة وفيه التفات لِيَوْمٍ هائل تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي ترتفع أبصار أهل الموقف فيدخل في زمرتهم الظالمون المعهودون دخولا أوليا أي تبقى مفتوحة لا تطرف- كما قال الراغب- من هول ما يرونه، وفي البحر شخص البصر أحد النظر ولم يستقر مكانه، والظاهر أن اعتبار عدم الاستقرار لجعل الصيغة من شخص الرجل من بلده إذا خرج منها فإنها يلزمه عدم القرار فيها أو من شخص بفلان إذا ورد عليه ما يقلقه كما في الأساس.
وحمل بعضهم الألف واللام على العهد أي أبصارهم لأنه المناسب لما بعده والظاهر مما روي عن قتادة فقد أخرج عبد بن حميد. وغيره عنه أنه قال في الآية: شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد إليهم، واختار بعضهم حمل «أل» على العموم قال: لأنه أبلغ في التهويل، ولا يلزم عليه التكرير مع بعض الصفات الآتية، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما قيل فيه مُهْطِعِينَ مسرعين إلى الداعي قاله ابن جبير. وقتادة، وقيده في البحر يقول: بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف، وقال الأخفش: مقبلين للإصغاء وأنشد:

بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع
وقال مجاهد: مديمين النظر لا يطرفون، وقال أحمد بن يحيى: المهطع الذي ينظر في ذلّ وخشوع لا يقلع بصره، وروى ابن الأنباري أن الإهطاع التجميح وهو قبض الرجل ما بين عينيه، وقيل: إن الإهطاع مد العنق والهطع طول العنق، وذكر بعضهم أن أهطع وهطع بمعنى وإن كل المعاني تدور على الإقبال مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء، قاله ابن عرفة. والقتيبي.
وأنشد الزجاج قول الشماخ يصف إبلا ترعى أعلى الشجر:
يباكرن العضاه بمقنعات نواجذهن كالحد الوقيع
وأنشده الجوهري لكون الإقناع انعطاف الإنسان إلى داخل الفم يقال: فم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخله وهو الظاهر، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المقنع بالرافع رأسه أيضا وأنشد له قول زهير:
هجان وحمر مقنعات رؤوسها وأصفر مشمول من الزهر فاقع
ويقال: أقنع رأسه نكسه وطأطأه فهو من الأضداد، قال المبرد. وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة اه، وقيل: ومن المعنى الأول قنع الرجل إذا رضي بما هو فيه كأنه رفع رأسه عن السؤال: وقد يقال: إنه من الثاني كأنه طأطأ رأسه ولم يرفعه للسؤال ولم يستشرف إلى غير ما عنده، ونصب الوصفين على أنهما حالان من مضاف محذوف أي أصحاب الأبصار بناء على أنه يقال: شخص زيد ببصره أو الأبصار تدل على أصحابها فجاءت الحال من المدلول عليه ذكر ذلك أبو البقاء، وجوز أن يكون مُهْطِعِينَ منصوبا بفعل مقدر أي تبصرهم مهطعين ومُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ على هذا قيل: حال من المستتر في مُهْطِعِينَ فهي حال متداخلة وإضافته غير حقيقية فلذا وقع حالا وقال بعض الأفاضل: إن

صفحة رقم 231

في اعتبار الحالية من أصحاب حسبما ذكر أولا ما لا يخفى من البعد والتكلف، والأولى والله تعالى أعلم جعل ذلك حالا مقدرة من مفعول يُؤَخِّرُهُمْ وقوله سبحانه: تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ بيان حال عموم الخلائق. ولذلك أوثر فيه الجملة الفعلية، فإن المؤمنين المخلصين لا يستمرون على تلك الحال بخلاف الكفار حيث يستمرون عليها ولذلك عبر عن حالهم بما يدل على الدوام والثبات، فلا يرد على هذا توهم التكرار بين مُهْطِعِينَ وتَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ على بعض التفاسير، وبنحو ذلك رفع التكرار بين الأول، وقوله تعالى: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ بمعنى لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم حسبما كان يرجع إليهم كل لحظة، فالطرف باق على أصل معناه وهو تحريك الجفن، والكلام كناية عن بقاء العين مفتوحة على حالها. وجوز أن يراد بالطرف نفس الجفن مجازا لأنه يكون فيه ذلك أي لا ترجع إليهم أجفانهم التي يكون فيها الطرف، وقال الجوهري: الطرف العين ولا يجمع أنه في الأصل مصدر فيكون واحدا ويكون جمعا وذكر الآية، وفسره بذلك أبو حيان أيضا وأنشد قول الشاعر:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي... حتى يواري جارتي مأواها
وليس ما ذكر متعينا فيه وهو معنى مجازي له وكذا النظر، وجوز إرادته على معنى لا يرجع إليهم نظرهم لينظروا إلى أنفسهم فضلا عن شيء آخر بل يبقون مبهوتين، ولا ينبغي كما في الكشف أن يتخيل تعلق إِلَيْهِمْ بما بعده على معنى لا يرجع نظرهم إلى أنفسهم أي لا يكون منهم نظر كذلك لأن صلة المصدر لا تتقدم، والمسألة في مثل ما نحن فيه خلافية، ودعوى عدم الجمع ادعاها جمع، وادعى أبو البقاء أنه قد جاء مجموعا هذا. وأنت خبير بأن لزوم التكرار بين مُهْطِعِينَ ولا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ على بعض التفاسير متحقق ولا يدفعه اعتبار الحالية من مفعول يُؤَخِّرُهُمْ على أن بذلك لا يندفع عرق التكرار رأسا بين تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ وكل من الأمرين المذكورين كما لا يخفى على من صحت عين بصيرته. وفي إرشاد العقل السليم أن جملة لا يَرْتَدُّ إلخ حال أو بدل من مُقْنِعِي إلخ أو استئناف والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الإبصار وتأخيره عما هو من تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكور من المناسبة لتربية هذا المعنى، وكأنه أراد بذلك دفع التكرار، وفي انفهام- لا يزول- إلخ من ظاهر التركيب خفاء، واعتبر بعضهم عدم الاستقرار في الشخوص وعدم الطرف هنا، فاعتراض عليه بلزوم المنافاة، وأجيب بأن الثاني بيان حال آخر وان أولئك الظالمين تارة لا تقر أعينهم وتارة يبهتون فلا تطرف أبصارهم، وقد جعل الحالتان المتنافيتان لعدم الفاصل كأنهما في حال واحد كقول امرئ القيس:
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا... كجلمود صخر حطه السيل من عل
وهذا يحتاج إليه على تقدير اعتبار ما ذكر سواء اعتبر كون الشخوص وما بعده من أحوال الظالمين بخصوصهم أم لا، والأولى أن لا يعتبر في الآية ما يحوج لهذا الجواب، وأن يختار من التفاسير ما لا يلزمه صريح التكرار، وأن يجعل شخوص الأبصار حال عموم الخلائق وما بعده حال الظالمين المؤخرين فتأمل.
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهشة، ومنه قيل للجبان، والأحمق: قلبه هواء أي لا قوة ولا رأي فيه، ومن ذلك قول زهير:
كأن الرحل منها فوق صعل... من الظلمان جؤجؤه هواء
وقول حسان:
ألا بلغ أبا سفيان عني... قأنت مجوف نخب هواء
وروي معنى ذلك عن أبي عبيدة. وسفيان، وقال ابن جريج: صفر من الخير خالية منه، وتعقب بأنه لا يناسب

صفحة رقم 232

المقام. وأخرج ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال: أي تمور في أجوافهم إلى حلوقهم ليس لها مكان تستقر فيه، والجملة في موضع الحال أيضا والعامل فيها إما يَرْتَدُّ أو ما قبله من العوامل الصالحة للعمل. وجوز أن تكون جملة مستقلة، وإلى الأول ذهب أبو البقاء وفسر هَواءٌ بفارغة، وذكر أنه إنما أفرد مع كونه خبرا لجمع لأنه بمعنى فارغة وهو يكون خبرا عن جمع كما يقال: أفئدة فارغة لأن تاء التأنيث فيه يدل على تأنيث الجمع الذي في أفئدتهم، ومثل ذلك أحوال صعبة وأفعال فاسدة، وقال مولانا الشهاب: الهواء مصدر ولذا أفرد، وتفسيره باسم الفاعل كالخالي بيان للمعنى المراد منه المصحح لحمل فلا ينافي المبالغة في جعل ذلك عين الخلاء، والمتبادر من كلام غير واحد أن الهواء ليس بمعنى الخلاء بل بالمعنى الذي يهب على الذهن من غير إعمال مروحة الفكر، ففي البحر بعد سرد أقوال لا يقضي ظاهرها بالمصدرية أن الكلام تشبيه محض لأن الأفئدة ليست بهواء حقيقة. ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها من الرجاء والطمع في الرحمة. وأن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في الصدور وأنها تجيء وتذهب وتبلغ الحناجر. وهذا في معنى ما روي آنفا عن ابن جبير. وذكر في إرشاد العقل السليم ما هو ظاهر في أن الكلام على التشبيه أيضا حيث قال بعد تفسير ذلك بما ذكرنا أولا: كأنها نفس الهواء الخالي عن كل شاغل هذا ثم إنهم اختلفوا في وقت حدوث تلك الأحوال فقيل عند المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ وقيل: عند إجابة الداعي والقيام من القبور. وقيل عند ذهاب السعداء إلى الجنة والأشقياء إلى النار فتذكر ولا تغفل وَأَنْذِرِ النَّاسَ خطاب لسيد المخاطبين ﷺ بعد إعلامه أن تأخير عذابهم لماذا وأمر له بإنذارهم وتخويفهم منه فالمراد بالناس الكفار المعبر عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهر إتيان العذاب وإلى ذلك ذهب أبو حيان وغيره.
ونكتة العدول إليه من الإضمار على ما قاله شيخ الإسلام الإشعار بأن المراد بالإنذار هو الزجر عما هم عليه من الظلم شفقة عليهم لا التخويف للإزعاج والإيذاء فالمناسب عدم ذكرهم بعنوان الظلم، وقال الجبائي: وأبو مسلم:
المراد بالناس ما يشمل أولئك الظالمين وغيرهم من المكلفين، والإنذار كما يكون للكفار يكون لغيرهم كما في قوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: ١١] والإتيان يعم الفريقين من كونهما في الموقف وإن كان لحوقه بالكفار خاصة، وأيا ما كان- فالناس- مفعول أول- لأنذر- وقوله سبحانه: يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ مفعوله الثاني على معنى أنذرهم هوله وما فيه. فالإيقاع عليه مجازي أو هو بتقدير مضاف، ولا يجوز أن يكون ظرفا للإنذار لأنه في الدنيا، والمراد بهذا اليوم اليوم المعهود وهو اليوم الذي وصف بما يذهب الألباب وهو يوم القيامة، وقيل: هو يوم موتهم معذبين بالسكرات ولقاء الملائكة عليهم السلام بلا بشرى. وروي ذلك عن أبي مسلم، أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، وتعقب بأنه يأباه القصر السابق، وأجيب بما فيه ما فيه. فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي فيقولون، والعدول عنه إلى ما في النظم الجليل للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعليته لما ينالهم من الشدة المنبئ عنها القول وفي العدول عن الظالمين المتكفل بما ذكر مع اختصاره وسبق الوصف به للإيذان على ما قيل بأن الظلم في الجملة كاف في الإفضاء إلى ما أفضوا إليه من غير حاجة إلى الاستمرار عليه كما ينبئ عنه صيغة اسم الفاعل، والمعنى- على ما قال الجبائي وأبو مسلم- الذين ظلموا منهم وهم الكفار، وقيل: يقول كل من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذرين وغيرهم من الأمم الخالية: رَبَّنا أَخِّرْنا أي عن العذاب أو أخر عذابنا، ففي الكلام تقدير مضاف أو تجوز في النسبة، قال الضحاك. ومجاهد: إنهم طلبوا الرد إلى الدنيا والإمهال إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي أمد وحدّ من الزمان قريب، وقيل:
إنهم طلبوا رفع العذاب والرجوع إلى حال التكليف مدة يسيرة يعملون فيها ما يرضيه سبحانه.
والمعنى على ما روي عن أبي مسلم أخر آجالنا وابقنا أياما نُجِبْ دَعْوَتَكَ أي الدعوة إليك وإلى توحيدك

صفحة رقم 233

أو دعوتك لنا على ألسنة الرسل عليهم السلام، ففيه إيماء إلى أنهم صدقوهم في أنهم رسل الله سبحانه وتعالى.
وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيما جاؤوا به أي نتدارك ما فرطنا به من إجابة الدعوة واتباع الرسل عليهم السلام، ولا يخلو ذكر الجملتين عن تأكيد والمقام حري به، وجمع إما باعتبار اتفاق الجميع على التوحيد وكون عصيانهم للرسول ﷺ عصيانا لهم جميعا عليهم السلام، وإما باعتبار أن المحكي كلام ظالمي الأمم جميعا والمقصود بيان وعد كل أمة بالتوحيد واتباع رسولها على ما قيل.
أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ على تقدير القول معطوفا على «فيقول» والمعطوف عليه هذه الجملة أي فيقال لهم توبيخا وتبكيتا: ألم تؤخروا في الدنيا ولم تكونوا حلفتم إذ ذاك بألسنتكم بطرا وأشرا وسفها وجهلا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنياوية أو بألسنة الحال ودلالة الأفعال حيث بنيتم مشيدا وأملتم بعيدا ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال إلى هذه الأحوال والأهوال، وفيه إشعار بامتداد زمان التأخير وبعد مداه أو مالكم من زوال وانتقال من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى: «وأقسما بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت» وروي هذا عن مجاهد، وأيّا ما كان «فمالكم» إلخ جواب القسم، و «من» صلة لتأكيد النفي، وصيغة الخطاب فيه لمراعاة حال الخطاب في «أقسمتم» كما في حلف بالله تعالى ليخرجن وهو أدخل في التوبيخ من أن يقال- ما لنا- مراعاة لحال المحكي الواقع في جواب قسمهم، وقيل هو ابتداء كلام من قبل الله تعالى جوابا لقولهم: «ربنا أخرنا» أي ما لكم من زوال عن هذه الحال وجواب القسم لا يبعث الله من في القبور محذوفا وهو خلاف المتبادر.
وهذا أحد أجوبة يجاب بها أهل النار على ما في بعض الآثار. فقد ذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا، يقولون:
رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر: ١١] فيجيبهم الله عز وجل ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: ١٢] ثم يقولون: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: ١٢] فيجيبهم جل شأنه فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [السجدة: ١٤] الآية، ثم يقولون: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيجيبهم تبارك وتعالى أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ الآية، ثم يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر: ٣٧] فيجيبهم جل جلاله أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:
٣٧] فيقولون: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ [المؤمنون: ١٠٦] فيجيبهم جل وعلا اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: ١٠٨] فلا يتكلمون بعدها إن هو إلا زفير وشهيق، وعند ذلك انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم، اللهم إنا نعوذ بك من غضبك ونلوذ بكنفك من عذابك ونسألك التوفيق للعمل الصالح في يومنا لغدنا والتقرب إليك بما يرضيك قبل أن يخرج الأمر من يدنا.
وَسَكَنْتُمْ من السكنى بمعنى التبوء والاستيطان وهو بهذا المعنى مما يتعدى بنفسه تقول سكنت الدار واستوطنتها إلا أنه عدي هنا بفي حيث قيل: فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جريا على أصل معناه فإنه منقول عن سكن بمعنى قر وثبت وحق ذلك التعدية بفي، وجوز أن يكون المعنى وقررتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتهم في الظلم بالكفر والمعاصي غير محدثين أنفسكم بما لقوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات، وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيذان بأن غائلة الظلم آئلة إلى صاحبه، والمراد بهم- كما قال بعض المحققين- إما جميع من تقدم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاص الاستمهال والخطاب السابق بالمنذرين، وإما أوائلهم من قوم

صفحة رقم 234

نوح وهود على تقدير عمومها للكل، وهذا الخطاب وما يتلوه باعتبار حال أواخرهم. وَتَبَيَّنَ لَكُمْ أي ظهر لكم على أتم وجه بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد، وفاعل تَبَيَّنَ مضمر يعود على ما دل عليه الكلام أي فعلنا العجب بهم أو حالهم أو خبرهم أو نحو ذلك، وكيف في محل نصب- بفعلنا- وجملة الاستفهام ليست معمولة- لتبين- لأنه لا يعلق، وقيل: الجملة فاعل «تبين» بناء على جواز كونه جملة وهو قول ضعيف للكوفيين.
وذهب أبو حيان إلى ما ذهب إليه الجماعة ثم ذكر أنه لا يجوز أن يكون الفاعل «كيف» لأنه لا يعمل فيها ما قبلها إلا فيما شذ من قولهم: على كيف تبيع الأحمرين وقولهم: انظر إلى كيف تصنع. وقرأ السلمي فيما حكاه عنه أبو عمرو الداني «ونبين» بنون العظمة ورفع الفعل، وحكى ذلك أيضا صاحب اللوامح عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وذلك على إضمار مبتدأ أي ونحن نبين والجملة حالية، وقال المهدوي عن السلمي أنه قرأ بنون العظمة إلا أنه جزم الفعل عطفا على تكونوا أي أو لم نبين لكم وَضَرَبْنا لَكُمُ أي في القرآن العظيم على تقدير اختصاص الخطاب بالمنذرين أو على ألسنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تقدير عمومه لجميع الظالمين.
الْأَمْثالَ أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة لتعتبروا وتقيسوا أعمالكم على أعمالهم وما لكم على ما لهم وتنتقلوا من حلول العذاب العاجل إلى العذاب الآجل فتردعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي، وجوز أن يراد من الأمثال ما هو جمع مثل بمعنى الشبيه أي بينا لكم أنهم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب: وروي هذا عن مجاهد، والجمل الثلاث في موقع الحال من ضمير أَقْسَمْتُمْ أي أقسمتم أن ليس لكم زوال والحال أنكم سكنتم في مساكن المهلكين بظلمهم وتبين لكم فعلنا العجيب بهم ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثال، وقوله سبحانه: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ حال من الضمير الأول في فَعَلْنا بِهِمْ أو من الثاني أو منهما جميعا، وقدم عليه قوله تعالى: وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ لشدة ارتباطه على ما قيل بما قبله أي فعلنا بهم ما فعلنا والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم العظيم الذي استفرغوا في عمله المجهود وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم، والمراد بيان تناهيه في استحقاق ما فعل بهم، أو وقد مكروا مكرهم المذكور في ترتيب مبادئ البقاء ومدافعة أسباب الزوال فالمقصود إظهار عجزهم واضمحلال قدرتهم وحقارتها عند قدرة الله سبحانه قاله شيخ الإسلام، وهو ظاهر في أن هذا من تتمة ما يقال لأولئك الذين ظلموا، وهو المروي عن محمد بن كعب القرظي، فقد أخرج عنه ابن جرير أنه قال: بلغني أن أهل النار ينادون رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ إلخ فيرد عليهم بقوله سبحانه: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ إلى قوله تعالى لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ وذكره ابن عطية احتمالا، وقيل غير ذلك مما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا. وظاهر كلام غير واحد أن استفادة المبالغة في مَكَرُوا مَكْرَهُمْ من الإضافة.
وفي الحواشي الشهابية أن مَكْرَهُمْ منصوب على أنه مفعول مطلق لأنه لازم فدلالته على المبالغة لقوله تعالى الآتي: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ إلخ لا لأن إضافة المصدر تفيد العموم أي أظهروا كل مكر لهم أو لأن إضافته وأصله التنكير لإفادة أنهم معروفون بذلك وللبحث فيه مجال وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي جزاء مكرهم على أن الكلام على حذف مضاف، وجوز أن لا يكون هناك مضاف محذوف، والمعنى مكتوب عنده تعالى مكرهم ومعلوم له سبحانه وذلك كناية عن مجازاته تعالى لهم عليه، وأيا ما كان فإضافة مكر إلى الفاعل وهو الظاهر المتبادر، وقيل:

صفحة رقم 235

إنه مضاف إلى مفعوله على معنى عنده تعالى مكرهم الذي يمكرهم به وتعقبه أبو حيان بأن المحفوظ أن مكر لازم ولم يسمع متعديا، وأجيب بأنه يجوز أن يكون المكر متجوزا به أو مضمنا معنى الكيد أو الجزاء، والكلام في نسبة المكر إليه تعالى وأنه إما باعتبار المشاكلة أو الاستعارة مشهور، وذكر بعض المحققين أن المراد بهذا المكر ما أفاده قوله تعالى: كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ لا أنه وعيد مستأنف. والجملة حال من الضمير في «مكروا» أي مكروا مكرهم وعند الله تعالى جزاؤه أو هو ما أعظم منه. والمقصود بيان فساد رأيهم حيث باشروا فعلا مع تحقق ما يوجب تركه وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ أي وإن كان مكرهم في غاية الشدة والمتانة، وعبر عن ذلك بكونه معدى لإزالة الجبال عن مقارها لكونه مثلا في ذلك. وَإِنْ شرطية وصلية عند جمع، والمراد أنه سبحانه مجازيهم على مكرهم ومبطله إن لم يكن في هذه الشدة وإن كان فيها، ولا بد على هذا الوجه من ملاحظة الإبطال وإلا فالجزاء المجرد عن ذلك لا يكاد يتأتى معه النكتة التي يدور عليها ما في إن الوصلية من التأكيد المعنوي. وجوز أن يكون المعنى أنه تعالى يقابلهم بمكرهم، ولا يمنع من ذلك كون مكرهم في غاية الشدة فهو سبحانه وتعالى أشد مكرا، ولا حاجة حينئذ إلى ملاحظة الإبطال فتدبر. وعن الحسن وجماعة أن إِنْ نافية واللام لام الجحود كانَ تامة، والمراد بالجبال آيات الله تعالى وشرائعه ومعجزاته الظاهرة على أيدي الرسل السالفة عليهم السلام التي هي كالجبال في الرسوخ والثبات والقصد إلى تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الآيات والنبوات. وجوز أن تكون كانَ ناقصة وخبرها إما محذوف أو الفعل الذي دخلت عليه اللام على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين. وأيد هذا الوجه بما روي عن ابن مسعود من أنه قرأ «وما كان» بما النافية، وتعقب بأن فيه معارضة للقراءة الدالة على عظم مكرهم كقراءة الجمهور، وأجيب بأن الجبال في تلك القراءة يشار بها إلى ما راموا إبطاله من الحق كما أشرنا إليه وفي هذه على حقيقتها فلا تعارض إذ لم يتواردا على محل واحد نفيا وإثباتا. ورد بأنه إذا جعل الحق شبيها بالجبال في الثبات كان مثلها بل أدون منها في هذا المعنى، فإذا نفى إزالته إياه انتفى إزالته جبال الدنيا وحينئذ يجيء الإشكال.
وتعقبه الشهاب بأن هذا غير وارد لأن المشبه لا يلزم أن يكون أدون من المشبه به في وجه الشبه بل فقد يكون بخلافه ولو سلم فقد يقدر على إزالة الأقوى دون الآخر لمانع كالشجاع يقدر على قتل أسد ولا يقدر على قتل رجل مشبه به لامتناعه بعدة أو حصن ولا حصن أحصن وأحمى من تأييد الله تعالى شأنه للحق بحيث تزول الجبال يوم تنسف نسفا ولا يزول انتهى، وإلى تفسير الْجِبالُ على هذه القراءة بما ذكرنا شيخ الإسلام ثم قال: وأما كونها عبارة عن أمر النبي لله وأمر القرآن العظيم- كما قيل- فلا مجال له إذ الماكرون هم المهلكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين. وإن خص الخطاب بالمنذرين وسيظهر لك قريبا إن شاء الله تعالى جواز ذلك على بعض الأقوال في الآية، والجملة حال من الضمير في مَكَرُوا لا من قوله تعالى وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وجوز أبو البقاء. وغيره أن تكون مخففة من الثقيلة والمعنى إن كان مكرهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات من الآيات والشرائع والمعجزات، والجملة أيضا حال من الضمير المذكور أي مكروا مكرهم المعهود وأن الشأن كان مكرهم لإزالة الحق من الآيات والشرائع على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك وكان شأن الحق مانعا من مباشرة المكر لإزالته.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن وثاب والكسائي لِتَزُولَ بفتح اللام الأولى ورفع الفعل- فإن- على ذلك عند البصريين مخففة واللام هي الفارقة، وعند الكوفيين نافية واللام بمعنى إلا، والقصد إلى تعظيم مكرهم فالجملة حال من قوله تعالى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي عنده تعالى جزاء مكرهم أو المكر بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبال أن في غاية الشدة. وقرئ «لتزول» بالفتح والنصب، وخرج ذلك على لغة جاءت في فتح لام كي. وقرأ عمر.

صفحة رقم 236

وعلي وأبيّ وعبد الله وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو إسحاق السبيعي وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم ورحمهم «وإن كاد» بدال مكان النون و «لتزول» بالفتح والرفع، وهي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ونقل أبو حاتم عن أبي رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال وحمل ذلك بعضهم على التفسير لمخالفته لسواد المصحف مخالفة ظاهرة هذا ومن الناس من قال: إن الضمير في مَكَرُوا للمنذرين، والمراد بمكرهم ما أفاده قوله عز وجل: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال: ٣٠] وغيره من أنواع مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام: ولعل الوجه حينئذ أن يكون قوله تعالى: «وقد مكروا» إلخ حالا من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحال أنهم مع ما فعلوا من الأقسام المذكور مع ما ينافيه قد مكروا مكرهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجرد الأقسام الذي وبخوا به بل اجترءوا على مثل هذه العظيمة. وقوله سبحانه: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ حال من ضمير مَكَرُوا حسبما ذكر من قبل. وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ إلى آخره مسوق لبيان عدم تفاوت الحال في تحقيق الجزاء بين كون مكرهم قويا وضعيفا كما مرت الإشارة إليه، وعلى تقدير كون إِنْ نافية فهو حال من ضمير مَكَرُوا والجبال عبارة عن أمر النبي ﷺ وقد مكروا والحال أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائع والآيات التي هي كالجبال في القوة، وعلى تقدير كونها مخففة من الثقيلة واللام مكسورة يكون حالا منه أيضا، على معنى أن ذلك المكر العظيم منهم كان لهذا الغرض، والقصد إلى أنه لم يصح أن يكون منهم مكر كذلك لما أن شأن الشرائع أعظم من أن يمكر بها. وعلى تقدير فتح اللام فهو حال من قوله تعالى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ كما ذكر سابقا اه. ويجوز أن يراد بمكرهم شركهم كما أخرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عباس، والجبال على حقيقتها وأمر الجملة على ما قال.
وحاصل المعنى لم يكن الصادر عنهم مجرد الأقسام مع ما ينافيه بل اجترءوا على الشرك وقالوا: «اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إذا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا» وقد روي عن الضحاك أنه صرح بأن ما نحن فيه كهذه الآية، ثم إن القول بجعل الضمير للمنذرين قول بعدم دخول هذا الكلام في حيز ما يقال، وهو الظاهر كما قيل، وكذا حمل الجبال على معناها الحقيقي. وفي البحر الذي يظهر أن زاول الجبال مجاز ضرب مثلا لمكر قريش وعظمه والجبال لا تزول، وفيه من المبالغة في ذم مكرهم ما لا يخفى.
وأما ما روي أن جبلا زال بحلف امرأة اتهمها زوجها وكان ذلك الجبل من حلف عليه كاذبا مات فحملها للحلف فمكرت بأن رمت نفسها من الدابة وكانت وعدت من اتهمت به أن يكون في المكان الذي وقعت فيه من الدابة فأركبها زوجها وذلك الرجل وحلفت على الجبل أنها ما مسها غيرهما فنزلت سالمة وأصبح الجبل قد اندك وكانت المرأة من عدنان.
وما روي من قصة نمروذ بن كوش بن كنعان أو بخت نصر واتخاذ الأنسر وصعودهما إلى قرب السماء في قصة طويلة مشهورة، وما فعل بعضهم من حمل الجبال على دين الإسلام والقرآن وحمل المكر على اختلافهم فيه من قولهم: هذا سحر، هذا شعر، هذا إفك فأقول ينبو عنها ظاهر اللفظ، وبعيد جدا قصة الأنسر اه.
واستبعد ذلك أيضا- كما نقل الإمام- القاضي وقال: إن الخطر في ذلك عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه، وما جاء خبر صحيح معتمد ولا حاجة في تأويل الآية إليه، ونعم ما قال في خبر النسور فإنه وإن جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه. وعن مجاهد. وابن جبير. وأبي عبيدة. والسدي. وغيرهم إلا أن في الأسانيد ما لا يخفى على من نقر.

صفحة رقم 237

وقد شاع ذلك من أخبار القصاص وخبرهم واقع عن درجة القبول ولو طاروا إلى النسر الطائر، ومثل ذلك فيما أرى خبر المتهمة فافهم والله تعالى أعلم فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ تثبيت له ﷺ على ما هو عليه من الثقة بالله سبحانه والتيقن بإنجاز وعده تعالى بتعذيب الظالمين المقرون بالأمر بانذارهم كما يفصح عنه الفاء، وقال الطيبي: واستحسنه التلميذ أنه يجوز أن يحمل الوعد على المفاد بقوله تعالى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وقد جعله وجها آخر لما ذكره الزمخشري من تفسيره له بقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: ٥١] وكَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: ٢١] وفيه نظر لأنه لا اختصاص لذلك- كما قيل- بالتعذيب لا سيما الأخروي، وإضافة مُخْلِفَ إلى الوعد عند الجمهور من إضافة اسم الفاعل إلى المفعول الثاني كقولهم: هذا معطي درهم زيدا، وهو لما كان يتعدى إلى اثنين جازت إضافته إلى كل منهما فينصب ما تأخر، وأنشد بعضهم نظيرا لذلك قوله:

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع
وذكر أبو البقاء أن هذا قريب من قولهم: يا سارق الليلة أهل الدار. وفي الكشاف أن تقديم الوعد ليعلم أنه تعالى لا يخلف الوعد أصلا كقوله سبحانه: لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران: ٩، الرعد: ٣١] ثم قال جل شأنه: رُسُلَهُ ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا وليس من شأنه إخلاف المواعيد كيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته.
ونظر فيه ابن المنير بأن الفعل إذا تقيد بمفعول انقطع احتمال إطلاقه وهو هنا كذلك فليس تقديم الوعد دالا على إطلاق الوعد بل على العناية والاهتمام به لأن الآية سيقت لتهديد الظالمين بما وعد سبحانه على ألسنة رسله عليهم السلام فالمهم ذكر الوعد وكونه على ألسنة الرسل عليهم السلام لا يتوقف عليه التهديد والتخويف. وقال صاحب الإنصاف: إن هذا النظر قوي إلا أن ما اعترض عليه هو القاعدة عند أهل البيان، كما قال الشيخ عبد القاهر في قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: ١٠٠] أنه قدم شُرَكاءَ للإيذان بأنه لا ينبغي أن يتخذ لله تعالى شركاء مطلقا ثم ذكر «الجن» تحقيرا أي إذا لم يتخذ من غير الجن فالجن أحق بأن لا يتخذوا.
وتعقب بأنه لا يدفع السؤال بل يؤيده، وكذا ما ذكره الفاضل الطيبي فإنه مع تطويله لم يأت بطائل فالوجه ما في الكشف من أن ذلك الإعلام إنما نشأ من جعل الاهتمام بشأن الوعد فهو ما سيق له الكلام وما عداه تبع، وإفادة هذا الأسلوب الترقي كإفادة اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: ٢٥] الإجمال والتفصيل. نعم إن الظاهر من حال صاحب الكشاف أنه أضمر فيما قرره اعتزالا وهذه مسألة أخرى، وقيل: مُخْلِفَ هنا متعد إلى واحد كقوله تعالى: لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ فاضيف إليه وانتصب رُسُلَهُ بوعده إذ هو مصدر ينحل إلى أن والفعل وقرأت فرقة «مخلف» وعده رسله بنصب «وعده» وإضافة مُخْلِفَ إلى رُسُلَهُ ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وهذه القراءة تؤيد إعراب الجمهور في القراءة الأولى وأنه مما يتعدى «مخلف» هنا إلى مفعولين إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يماكر وقادر لا يقادر ذُو انتِقامٍ من أعدائه لأوليائه فالجملة تعليل للنهي المذكور وتذييل له وحيث كان الوعد عبارة عن تعذيبهم خاصة كما مرت إليه الإشارة لم يذيل- كما قال بعض المحققين- بأن يقال: «إن الله لا يخلف الميعاد» بل تعرض لوصف العز والانتقام المشعرين بذلك والمراد بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبر عنه بالمكر.
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ظرف لمضمر مستأنف ينسحب عليه النهي المذكور أي ينجزه يوم إلى آخره أو معطوف عليه نحو فَارْتَقِبْ يَوْمَ [الدخان: ١٠] إلى آخره، وجعله بعض الفضلاء معمولا لا ذكر محذوفا كما قيل في شأن نظائره، وقيل: ظرف للانتقام وهو يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ بعينه ولكن له أحوال جمة بذكر كل مرة بعنوان

صفحة رقم 238

مخصوص، والتقييد مع عموم انتقامه سبحانه للأوقات كلها للافصاح عما هو المقصود من تعذيب الكفرة المؤخر إلى ذلك اليوم بموجب الحكمة المقتضية له.
وجوز أبو البقاء تعلقه بلا يخلف الوعد مقدرا بقرينة السابق، وفيه الوجه قبله من الحاجة إلى الاعتذار.
وقال الحوفي: هو متعلق- بمخلف- وإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ جملة اعتراضية، وفيه رد لما قيل: لا يجوز تعلقه بذلك لأن ما قبل إنّ لا يعمل فيما بعدها لأن لها الصدارة، ووجه أنها لكونها وما بعدها اعتراضا لا يبالى بها فاصلا.
وجوز الزمخشري انتصابه على البدلية من يَوْمَ يَأْتِيهِمُ وهو بدل كل من كل، وتبعه بعض من منع تعلقه- بمخلف- لمكان ماله الصدر. والعجب أن العامل فيه حينئذ- أنذر- فيلزم عليه ما لزم القائل بتعلقه بما ذكر فكأنه ذهب إلى أن البدل له عامل مقدر وهو ضعيف، وقوله تعالى: وَالسَّماواتُ عطف على المرفوع أي وتبدل السموات غير السموات، والتبديل قد يكون في الذات كما في بدلت الدراهم دنانير ومنه قوله تعالى: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: ٥٦] وقد يكون في الصفات كما في قولك: بدلت الحلقة خاتما إذا غيرت شكلها، ومنه قوله سبحانه: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: ٧٠] والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين نص ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال تبدل الأرض يزاد فيها وينقص منها وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وما فيها وتمد مد الأديم العكاظي وتصير مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. وتبدل السموات بذهاب شمسها وقمرها ونجومها وحاصله يغير كل عما عو عليه في الدنيا. وأنشد:

وما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت أعلم
وقال ابن الأنباري: تبدل السموات بطيها وجعلها مرة كالمهل ومرة وردة كالدهان.
وأخرج ابن أبي الدنيا. وابن جرير. وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: تبدل الأرض من فضة والسماء من ذهب.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه تكون الأرض كالفضة والسموات كذلك. وصح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: تبدل الأرض أرضا بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل فيها خطيئة. وروي ذلك مرفوعا أيضا، والموقوف- على ما قال البيهقي- أصح. وقد يحمل قول الإمام كرم الله تعالى وجهه على التشبيه.
وقال الإمام: لا يبعد أن يقال: المراد بتبديل الأرض جعلها جهنم وبتبديل السموات جعلها الجنة، وتعقب بأنه بعيد لأنه يلزم أن تكون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن والثابت في الكلام والحديث خلافه، وأجيب بأن الثابت خلقهما مطلقا لا خلق كليهما فيجوز أن يكون الموجود الآن بعضهما ثم تصير السموات والأرض بعضا منهما، وفيه أن هذا وإن صححه لا يقر به، والاستدلال على ذلك بقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: ١٨] وقوله سبحانه: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين: ٧] في غاية الغرابة من الإمام فإن في إشعار ذلك بالمقصود نظرا فضلا عن كونه دالا عليه. نعم جاء في بعض الآثار ما يؤيد ما قاله، فقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال في الآية: تصير السموات جنانا ويصير مكان البحر نارا أو تبدل الأرض غيرها.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: الأرض كلها نار يوم القيامة وجاء في تبديل الأرض روايات أخر. فقد أخرج ابن جرير عن ابن جبير أنه قال: تبدل الأرض خبزة بيضاء فيأكل المؤمن من تحت قدميه. وأخرج عن محمد بن كعب القرظي مثله. وأخرج البيهقي في البعث عن عكرمة كذلك.
وأخرج ابن مردويه عن أفلح مولى أبي أيوب أن رجلا من يهود سأل النبي ﷺ فقال: ما الذي تبدل به الأرض؟

صفحة رقم 239

فقال: خبزة فقال اليهودي: درمكة بأبي أنت فضحك ﷺ ثم قال: قاتل الله تعالى بيهود هل تدرون ما الدرمكة؟ لباب الخبز.
وقد تقدم
خبر أن الأرض تكون يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة وهو في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وحكى بعضهم أن التبديل يقع في الأرض ولكن تبدل لكل فريق بما يقتضيه حاله، ففريق من المؤمنين يكونون على خبز يأكلون منه وفريق يكونون على فضة وفريق الكفرة يكونون على نار، وليس تبديلها بأي شيء كان بأعظم من خلقها بعد إن لم تكن.
وذكر بعضهم أنها تبدل أولا صفتها على النحو المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ثم تبدل ذاتها ويكون هذا الأخير بعد أن تحدّث أخبارها، ولا مانع من أن يكون هنا تبديلات على أنحاء شتى.
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا أن الناس يوم تبدل على الصراط، وفيه من حديث ثوبان «أن يهوديا سأل رسول الله ﷺ أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هم في الظلمة دون الجسر»
ولعل المراد من هذا التبديل نحو خاص منه، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وتقديم تبديل الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظم أمرا بالنسبة إلينا.
وَبَرَزُوا أي الخلائق أو الظالمون المدلول عليهم بمعونة السياق كما قيل، والمراد بروزهم من أجداثهم التي في بطون الأرض.
وجوز أن يكون المراد ظهورهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها سرا ويزعمون أنها لا تظهر أو يعملون عمل من يزعم ذلك، ووجه إسناد البروز إليهم مع أنه على هذا لأعمالهم بأنه للإيذان بتشكلهم بأشكال تناسبها. وأنت تعلم أن الظاهر ظهورهم من أجداثهم، والعطف على تُبَدَّلُ والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع.
وجوز أبو البقاء أن تكون الجملة مستأنفة وأن تكون حالا من الْأَرْضُ بتقدير يرقد والرابط الواو.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَبَرَزُوا بضم الباء وكسر الراء مشددة، جعله مبنيا للمفعول على سبيل التكثير باعتبار المفعول لكثرة المخرجين لِلَّهِ أي لحكمه سبحانه ومجازاته الْواحِدِ الذي لا شريك له الْقَهَّارِ الغالب على كل شيء، والتعرض للوصفين لتهويل الخطب وتربية المهابة لأنهم إذا كانوا واقفين عند ملك عظيم قهار لا يشاركه غيره كانوا على خطر إذ لا مقاوم له ولا مغيث سواه وفي ذلك أيضا تحقيق إتيان العذاب الموعود على تقدير كون يَوْمَ تُبَدَّلُ بدلا من يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ.
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ عطف على بَرَزُوا. والعدول إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورة أو للدلالة على الاستمرار، وأما البروز فهو دفعي لا استمرار فيه وعلى تقدير حالية بَرَزُوا فهو معطوف على تُبَدَّلُ وجوز عطفه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونه ينجزه مثلا يَوْمَئِذٍ يوم إذ برزوا لله تعالى أو يوم إذ تبدل الأرض أو يوم إذ ينجز وعده، والرؤية إذا كانت بصرية فالمجرمين مفعولها وقوله تعالى: مُقَرَّنِينَ حال منه، وإن كانت علمية فالمجرمين مفعولها الأول مُقَرَّنِينَ مفعولها الثاني.
والمراد قرن بعضهم من بعض وضم كل لمشاركه في كفره وعمله كقوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير: ٧] على قول، وفي المثل إن الطيور على أشباهها تقع، أو قرنوا مع الشياطين الذين أغووهم كقوله تعالى:
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ [مريم: ٦٨] إلخ أو قرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملكات الرديئة والأعمال

صفحة رقم 240

السيئة غب تصورها وتشكلها بما يناسبها من الصور الموحشة والأشكال الهائلة، أو قرنوا مع جزاء ذلك أو كتابه فلا حاجة إلى حديث التصور بالصور، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم وجاء ذلك في بعض الآثار والظاهر أنه على حقيقة.
ويحتمل- على ما قيل- أن يكون تمثيلا لمؤاخذتهم على ما اقترفته أيديهم وأرجلهم، وأصل المقرن بالتشديد من جمع في قرن بالتحريك وهو الوثاق الذي يربط به فِي الْأَصْفادِ جمع صفد ويقال فيه صفاد وهو القيد الذي يوضع في الرجل أو الغل الذي يكون في اليد والعنق أو ما يضم به اليد والرجل إلى العنق ويسمى هذا جامعة ومن هذا قول سلامة بن جندل:

وزيد الخيل قد لاقى صفادا يعض بساعد وبعظم ساق
وجاء صفد بالتخفيف وصفد بالتشديد للتكثير وتقول: أصفدته إذا أعطيته فتأتي بالهمزة في هذا المعنى، وقيل:
صفد وأصفد معا في القيد والإعطاء، ويسمى العطاء صفدا لأنه يقيد. ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا. والجار والمجرور متعلق- بمقرنين- أو بمحذوف وقع حالا من ضميره أي مصفدين، وجوز أبو حيان كونه في موضع الصفة لمقرنين سَرابِيلُهُمْ أي قمصانهم جمع سربال مِنْ قَطِرانٍ هو ما يحلب من شجر الأبهل فيطبخ وتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بما فيه من الحدة الشديدة وقد تصل حرارته إلى الجوف وهو أسود منتن يسرع فيه اشتعال النار حتى قيل: إنه أسرع الأشياء اشتعالا. وفي التذكرة أنه نوعان غليظ براق حاد الرائحة ويعرف بالبرقي، ورقيق كمد ويعرف بالسائل والأول من الشربين خاصة والثاني من الأرز والسدر ونحوهما والأول أجود وهو حار يابس في الثالثة أو الثانية، وذكر في الزفت أنه من أشجار كالأرز وغيره، وأنه إن سال بنفسه يقال زفت وإن كان بالصناعة فقطران، ويقال فيه: قطران بوزن سكران.
وروي عن عمر. وعلي رضي الله تعالى عنهما أنهما قرآ به، وقطران بوزن سرحان ولم نقف على من قرأ بذلك، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع النصب على الحالية من المجرمين أو من ضميرهم في مُقَرَّنِينَ أو من مُقَرَّنِينَ نفسه على ما قيل رابطها الضمير فقط كما في كلمته فوه إلى في أو مستأنفة، وأيّا ما كان ففي سَرابِيلُهُمْ تشبيه بليغ وذلك أن المقصود أنه تطلى جلود أهل النار بالقطران حتى يعود طلاؤه كالسرابيل وكأن ذلك ليجتمع عليهم الألوان الأربعة من العذاب لذعه وحرقه وإسراع النار في جلودهم واللون الموحش والنتن على أن التفاوت بين ذلك القطران وما نشاهده كالتفاوت بين النارين فكان ما نشاهده منهما أسماء مسمياتها في الآخرة فبكرمه العميم نعود وبكنفه الواسع نلوذ، وجوز أن تكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن تشبه النفس الملتبسة بالملكات الرديئة كالكفر والجهل والعناد والغباوة بشخص لبس ثيابا من زفت وقطران، ووجه الشبه تحلى كل منهما بأمر قبيح مؤذ لصاحبه يستكره عند مشاهدته، ويستعار لفظ أحدهما للآخر، ولا يخفى ما في توجيه الاستعارة التمثيلية بهذا من المساهلة وهو ظاهر، على أن القول بهذه الاستعارة هنا أقرب ما يكون إلى كلام الصوفية، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون القطران المذكور عين ما لا بسوه في هذه النشأة وجعلوه شعارا لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعة لاشتداد العذاب، عصمنا الله تعالى من ذلك بلطفه وكرمه. وأنت تعلم أن التشبيه البليغ على هذا على حاله. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وأبو هريرة. وعكرمة. وقتادة. وجماعة من «قطران» على أنهما كلمتان منونتان أولاهما «قطر» بفتح القاف وكسر الطاء وهي النحاس مطلقا أو المذاب منه وثانيتهما «آن» بوزن عان بمعنى شديد الحرارة.
قال الحسن: قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت فتناهى حره وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تعلوها وتحيط بها

صفحة رقم 241

النار التي تسعر بأجسادهم المسربلة بالقطران، وتخصيص الوجوه بالحكم المذكور مع عمومه لسائر أعضائهم لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها كقوله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: ٢٤] ولكونها مجمع الحواس والمشاعر التي لم يستعملوها فيما خلقت له من إدراك الحق وتدبره، وهذا كما تطلع على أفئدتهم لأنها أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة وقد ملؤوها بالجهالات أو لخلوها كما قيل: عن القطران المغني عن ذكر غشيان النار، ووجهه تخليتها عنه بأن ذلك لعله ليتعارفوا عند انكشاف اللهب أحيانا ويتضاعف عذابهم بالخزي على رؤوس الأشهاد. وقرئ برفع الوجوه ونصب «النار» كأنه جعل ورود الوجوه على النار غشيانا لها مجازا. وقرئ «تغشى» أي تتغشى بحذف إحدى التاءين، والجملة كما قال أبو البقاء نصب على الحال كالجملة السابقة.
وفي الكشف وأفاد العلامة الطيبي أن- مقرنين- سرابيلهم من قطران- تغشى- أحوال من مفعول تَرَى جيء بها كذلك للترقي ولهذا جيء بالثانية جملة اسمية لأن سرابيل القطران الجامعة بين الأنواع الأربعة أفظع من الصفد، وأما تغشى فلتجديد الاستحضار المقصود في قوله تعالى: وَتَرَى لأن الثاني أهول والظاهر أن الثانيين منقطعان من حكم الرؤية لأن الأول في بيان حالهم في الموقف إلى أن يكب بهم في النار، والأخيرين لبيان حالهم بعد دخولها، وكأن الأول حرك من السامع أن يقول: وإذا كان هذا شأنهم وهم في الموقف فكيف بهم وهم في جهنم خالدون؟
فأجيب بقوله سبحانه: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وأوثر الفعل المضارع في الثانية لاستحضار الحال وتجدد الغشيان حالا فحالا، وأكثر المعربين على عدم الانقطاع لِيَجْزِيَ اللَّهُ متعلق بمضمر أي يفعل بهم ذلك ليجزي سبحانه كُلَّ نَفْسٍ أي مجرمة بقرينة المقام ما كَسَبَتْ من أنواع الكفر والمعاصي جزاء أو وفاقا، وفيه إيذان بأن جزاءهم مناسب لأعمالهم، وجوز على هذا الوجه كون النفس أعم من المجرمة والمطيعة لأنه إذا خص المجرمون بالعقاب علم اختصاص المطيعين بالثواب، مع أن عقاب المجرمين وهم أعداؤهم جزاء لهم أيضا كما قيل:
من عاش بعد عدوه... يوما فقد بلغ المنى
ويجوز على اعتبار العموم تعلق اللام- ببرزوا- على تقدير كونه معطوفا على تُبَدَّلُ والضمير للخلق ويكون ما بينهما اعتراضا فلا اعتراض أي برزوا للحساب ليجزي الله تعالى كل نفس مطيعة أو عاصية ما كسبت من خير أو شر إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لأنه لا يشغله سبحانه فيه تأمل وتتبع ولا يمنعه حساب عن حساب حتى يستريح بعضهم عند الاشتغال بمحاسبة الآخرين فيتأخر عنهم العذاب، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد سريع الانتقام، وذكر المرتضى في درره وجوها أخر في ذلك. هذا بَلاغٌ أي ما ذكر من قوله سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا إلى هنا، وجوز أن يكون الإشارة إلى القرآن وهو المروي عن ابن زيد أو إلى السورة والتذكير باعتبار الخبر وهو بَلاغٌ والكلام على الأول أبلغ فكأنه قيل: هذا المذكور آنفا كفاية في العظة والتذكير من غير حاجة إلى ما انطوى عليه السورة الكريمة أو كل القرآن المجيد من فنون العظات والقوارع، وأصل البلاغ بمعنى التبليغ وبهذا فسره الراغب في الآية، وذكر مجيئه بمعنى الكفاية في آية أخرى لِلنَّاسِ للكفار خاصة على تقدير اختصاص الإنذار بهم في قوله سبحانه: وَأَنْذِرِ النَّاسَ أو لهم وللمؤمنين كافة على تقدير شمولهم أيضا وإن كان ما شرح مختصا بالظالمين على ما قيل: وَلِيُنْذَرُوا بِهِ عطف على محذوف أي لينصحوا أو لينذروا به أو نحو ذلك فتكون اللام متعلقة بالبلاغ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف وتقديره ولينذروا به أنزل أو تلي، وقال الماوردي: الواو زائدة، وعن المبرد هو عطف مفرد على مفرد أي هذا بلاغ وإنذار، ولعله تفسير معنى لا إعراب. وقال ابن عطية: أي هذا بلاغ للناس وهو لينذروا به فجعل ذلك خبرا لهو محذوفا، وقيل: اللام لام الأمر، قال بعضهم: وهو حسن لولا قوله سبحانه: وَلِيَذَّكَّرَ فإنه منصوب لا غير،

صفحة رقم 242

وارتضى ذلك أبو حيان وقال: إن ما ذكر لا يخدشه إذ لا يتعين عطف لِيَذَّكَّرَ على الأمر بل يجوز أن يضمر له فعل يتعلق به، ولا يخفى أنه تكلف. وقرأ يحيى بن عمارة الذراع عن أبيه. وأحمد بن يزيد السلمي وَلِيُنْذَرُوا بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء إذا علم به فاستعد له قالوا: ولم يعرف لنذر بمعنى علم مصدر فهو كعسى وغيرها من الأفعال التي لا مصادر لها، وقيل: إنهم استغنوا بأن والفعل عن صريح المصدر، وفي القاموس نذر بالشيء كفرح علمه فحذره وأنذره بالأمر إنذارا ونذرا ونذيرا أعلمه وحذره.
وقرأ مجاهد وحميد بتاء مضمومة وكسر الذال وَلِيَعْلَمُوا بالنظر والتأمل بما فيه من الدلائل الواضحة التي هي إهلاك الأمم وإسكان آخرين مساكنهم وغيرهما مما تضمنه ما أشار إليه أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له أصلا، وتقديم الإنذار لأنه داع إلى التأمل المستتبع للعلم المذكور وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي ليتذكروا شؤون الله تعالى ومعاملته مع عباده ونحو ذلك فيرتدعوا عما يرديهم من الصفات التي يتصف بها الكفار ويتدرعوا بما يحظيهم لديه عزّ وجلّ من العقائد الحقة والأعمال الصالحة. وفي تخصيص التذكر بأولي الألباب إعلاء لشأنهم.
وفي إرشاد العقل السليم أن في ذلك تلويحا باختصاص العلم بالكفار ودلالة على أن المشار إليه بهذا القوارع المسوقة لشأنهم لا كل السورة المشتملة عليها وعلى ما سيق للمؤمنين أيضا فإن فيه ما يفيدهم فائدة جديدة، وللبحث فيه محال، وفيه أيضا أنه حيث كان ما يفيده البلاغ من التوحيد وما يترتب عليه من الأحكام بالنسبة إلى الكفرة أمرا حادثا وبالنسبة إلى أولي الألباب الثبات على ذلك عبر عن الأول بالعلم وعن الثاني بالتذكر وروعي ترتيب الوجود مع ما فيه من الختم بالحسنى. وذكر القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب. تكميل الرسل عليهم السلام للناس المشار إليه بالإنذار. واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها ما يتعلق بمعرفة الله تعالى المشار إليه بالعلم، واستصلاح القوة العملية التي هي التدرع بلباس التقوى المشار إليه بالتذكر، والظاهر أن المراد بأولي الألباب أصحاب العقول الخالصة من شوائب الوهم مطلقا، ولا يقدح في ذلك ما قيل: إن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقد ناسب مختتم هذه السورة مفتتحها وكثيرا ما جاء ذلك في سور القرآن حتى زعم بعضهم أن قوله تعالى: وَلِيُنْذَرُوا بِهِ معطوف على قوله سبحانه: لِتُخْرِجَ النَّاسَ وهو من البعد بمكان، نسأله سبحانه عزّ وجلّ أن يمن علينا بشآبيب العفو والغفران.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً قال ابن عطاء: أراد عليه السلام أن يجعل سبحانه قلبه آمنا من الفراق والحجاب، وقيل: اجعل بلد قلبي ذا أمن بك عنك وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ من المرغوبات الدنية والمشتهيات الحسية.
وقال جعفر رضي الله تعالى عنه: أراد عليه السلام لا تردني إلى مشاهدة الخلة ولا ترد أولادي إلى مشاهدة النبوة، وعنه أنه قال: أصنام الخلة خطرات الغفلة ولحظات المحبة، وفي رواية أخرى أنه عليه السلام كان آمنا من عبادة الأصنام في كبره وقد كسرها في صغره لكنه علم أن هوى كل إنسان صنمه فاستعاذ من ذلك.
وقال الجنيد قدس سره: أي امنعني وبني أن نرى لأنفسنا وسيلة إليك غير الافتقار، وقيل: كل ما وقف العارف عليه غير الحق سبحانه فهو صنمه، وجاء النفس هو الصنم الأكبر رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بالتعلق بها والانجداب إليها والاحتجاب بها عنك سبحانك فَمَنْ تَبِعَنِي في طريق المجاهدة والخلة ببذل الروح بين يديك فَإِنَّهُ مِنِّي طينته من طينتي وقلبه من قلبي وروحه من روحي وسره من سري ومشربه في الخلة من مشربي وَمَنْ عَصانِي وفعل ما يقتضي الحجاب عنك فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فلا أدعو عليه وأفوض أمره إليك. قيل: إن هذا منه

صفحة رقم 243

عليه السلام دعاء للعاصي بستر ظلمته بنوره تعالى ورحمته جل شأنه إياه بافاضة الكمال عليه بعد المغفرة.
ومن كلام نبينا ﷺ «اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون».
وفي أسرار التأويل أنه عليه السلام أشار بقوله: وَمَنْ عَصانِي إلى مقام الجمع ولذا لم يقل: «ومن عصاك» ويجوز أن يقال: إنما أضاف عصيانهم إلى نفسه لأن عصيان الخلق للخالق غير ممكن، وما من دابة إلا وربي آخذ بناصيتها فهم في كل أحوالهم مجيبون لداعي ألسنة مشيئته سبحانه وإرادته القديمة، وسئل عبد العزيز المكي لم لم يقل الخليل ومن عصاك؟ فقال لأنه عظم ربه عزّ وجلّ وأجله من أن يثبت أن أحدا يجترئ على معصيته سبحانه وكذا أجله سبحانه من أن يبلغ أحد ما مبلغ ما يليق بشأنه عز شأنه من طاعته حيث قال فَمَنْ تَبِعَنِي رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ قيل: إن من عادة الله تعالى أن يبتلي خليله بالعظائم لينزعه عن نفسه وعن جميع الخليقة لئلا يبقى بينه وبينه حجاب من الحدثان، فلذا أمر جل شأنه هذا الخليل أن يسكن من ذريته في وادي الحرم بلا ماء ولا زاد لينقطع إليه ولا يعتمد إلا عليه عزّ وجلّ، وناداه باسم الرب طمعا في تربية عياله وأهله بألطافه وإيوائهم إلى جوار كرامته رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ التي يصل العبد بها إليك ويكون مرآة تجليك فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ تميل يوصف الإرادة والمحبة ليسلكوهم إليك ويدلوهم عليك، قال ابن عطاء من انقطع عن الخلق بالكلية صرف الله تعالى إليه وجوه الخلق وجعل مودته في صدورهم ومحبته في قلوبهم، وذلك من دعاء الخليل عليه السلام لما قطع أهله عن الخلق والأسباب قل: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ قيل: أي ثمرات طاعتك وهي المقامات الرفيعة والدرجات الشريفة.
وقال الواسطي: ثمرات القلوب وهي أنواع الحكمة ورئيس الحكمة رؤية المنة والعجز عن الشكر على النعمة وهو الشكر الحقيقي ولذلك قال: لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أي يعلمون أنه لا يتهيأ لأحد أن يقوم بشكرك وثمرة الحكمة تزيل الأمراض عن القلوب كما أن ثمرة الأشجار تزيل أمراض النفوس. وقيل: أي ارزقهم الأولاد الأنبياء والصلحاء، وفيه إشارة إلى دعوته بسيد المرسلين ﷺ المعنى له بقوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا وأي الثمرات أشهى من أصفى الأصفياء وأتقى الأتقياء وأفضل أهل الأرض والسماء وحبيب ذي العظمة والكبرياء فهو عليه الصلاة والسلام ثمرة الشجرة الإبراهيمية وزهرة رياض الدعوة الخليلية بل هو ﷺ ثمرة شجرة الوجود. ونور حديقة الكرم والجود.
ونور حدقة كل موجود ﷺ عليه إلى اليوم المشهود رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ قال الخواص: ما نخفي من حبك وما نعلن من شكرك.
وقال ابن عطاء: ما نخفي من الأحوال وما نعلن من الآداب، وقيل: ما نخفي من التضرع في عبوديتك وما نعلن من ظاهر طاعتك في شريعتك، وأيضا ما نخفي من أسرار معرفتك وما نعلن من وظائف عبادتك، وأيضا ما نخفي من حقائق الشوق إليك في قلوبنا وما نعلن في غلبة مواجيدنا بإجراء العبرات وتصعيد الزفرات:

وا رحمتا للعاشقين تكلفوا ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح
وإن هم كتموا تحدث عنهم عند الوشاة المدمع السحاح
وقال السيد علي البندنيجي قدس سره:

صفحة رقم 244

كتمت هوى حبيه خوف إذاعة فلله كم صب أضر به الذيع
ولكن بدت آثاره من تأوهي إذا فاح مسك كيف يخفى له ضوع
وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ فيعلم ما خفي وما علن وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ قيل: الظالم من تجاوز طوره وتبختر على بساط الأنانية زاعما أنه قد تضلع من ماء زمزم المحبة واستغرق في لجى بحر الفناء، توعده الله تعالى بتأخير فضيحته إلى يوم تشخص فيه أبصار سكارى المعرفة والتوحيد وهو يوم الكشف الأكبر حين تبدو أنوار سطوات العزة فيستغرقون في عظمته بحيث لا يقدرون على الالتفات إلى غيره فهناك يتبين الصادق من الكاذب:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
وقوله سبحانه: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ شرح لأحوال أصحاب الابصار الشاخصة وهم سكارى المحبة على الحقيقة، قال ابن عطاء في: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ كهذه صفة قلوب أهل الحق متعلقة بالله تعالى لا تقر إلا معه سبحانه ولا تسكن إلا إليه وليس فيها محل لغيره وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ طلبوا تدارك ما فات وذلك بتهذيب الباطن والظاهر والانتظام في سلوك الصادقين وهيهات ثم هيهات، ثم أجيبوا بما يقصم الظهر ويفصم عرى الصبر وهو قوله سبحانه: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ الآية يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وذلك عند انكشاف أنوار حقيقة الوجود فيظهر هلاك كل شيء إلا وجهه.
وقيل: الإشارة في الآية إلى تبدل أرض قلوب العارفين من صفات البشرية إلى الصفات الروحانية المقدسة بنور شهود جمال الحق وتبدل سموات الأرواح من عجز صفات الحدوث وضعفها عن أنوار العظمة بإفاضة الصفات الحقة، وقيل: تبدل أرض الطبيعة بأرض النفس عند الوصول إلى مقام القلب، وسماء القلب بسماء السر، وكذا تبدل أرض النفس بأرض القلب، وسماء السر بسماء الروح، وكذا كل مقام يعبره السالك يتبدل ما فوقه وما تحته كتبدل سماء التوكل في توحيد الأفعال بسماء الرضا في توحيد الصفات، ثم سماء الرضا بسماء التوحيد عند كشف الذات وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ بسلاسل الشهوات سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وهو قطران أعمالهم النتنة وَتَغْشى تستر وُجُوهَهُمُ النَّارُ في جهنم الحرمان وسعير الإذلال والاحتجاب عن رب الأرباب. هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وهم علماء الحقيقة وأساطين المعرفة وعشاق الحضرة وأمناء خزائن المملكة، جعلنا الله تعالى وإياكم ممن ذكر فتذكر وتحقق في مقر التوحيد وتقرر بمنه سبحانه وكرمه.

صفحة رقم 245

الجزء الرابع عشر

صفحة رقم 247
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية