
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَأَدُّبٌ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ وَنَفْعٌ لِلْعُصَاةِ مِنَ النَّاسِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُهُ. وَالْمَعْنَى وَمَنْ عَصَانِي أُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَى رَحْمَتِكَ وَغُفْرَانِكَ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ عَصَى. وَهَذَا مِنْ غَلَبَةِ الْحِلْمِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَخَشْيَةٍ مِنَ اسْتِئْصَالِ عُصَاةِ ذُرِّيَّتِهِ. وَلِذَلِكَ مَتَّعَهُمُ اللَّهُ قَلِيلًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٢٦] وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ [سُورَة الزخرف: ٢٧]. وَسَوْقُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ هُنَا لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَبَرُّوا بِأَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَإِذْ كَانَ قَوْلُهُ: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَفْوِيضًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِمَنْ يُشْرك بِهِ.
[٣٧]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٣٧]
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)
جُمْلَةُ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ دُعَاءٍ آخَرَ. وَافْتُتِحَتْ بِالنِّدَاءِ لِزِيَادَةِ التَّضَرُّعِ. وَفِي كَوْنِ النِّدَاءِ تَأْكِيدًا لِنِدَاءٍ سَابِقٍ ضَرْبٌ مِنَ الرَّبْطِ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالنِّدَاءِ رَبْطُ الْمِثْلِ بِمِثْلِهِ.
وَأُضِيفَ الرَّبُّ هُنَا إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ خِلَافًا لِسَابِقِيهِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ الَّذِي افْتُتِحَ بِهِ فِيهِ حَظٌّ لِلدَّاعِي وَلِأَبْنَائِهِ. وَلَعَلَّ إِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَاضِرٌ مَعَهُ حِينَ الدُّعَاءِ كَمَا تَدُلُّ لَهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ- إِلَى قَوْلِهِ- وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٢٧]. وَذَلِكَ مِنْ معنى الشُّكْر الْمَسْئُول هُنَا.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذُرِّيَّتِي بِمَعْنَى بَعْضٍ، يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَهُوَ بَعْضُ ذُرِّيَّتِهِ، فَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ صَدَرَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ زَمَانٍ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَتَقَرِّي مَكَّةَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي دُعَائِهِ هَذَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٩]، فَذَكَرَ إِسْحَاقَ- عَلَيْهِ السّلام-.
والواد: الْأَرْضُ بَيْنَ الْجِبَالِ، وَهُوَ وَادِي مَكَّةَ. وغَيْرِ ذِي زَرْعٍ صِفَةٌ، أَيْ بَوَادٍ لَا يَصْلُحُ لِلنَّبْتِ لِأَنَّهُ حِجَارَةٌ، فَإِنَّ كَلِمَةَ ذُو تَدُلُّ عَلَى صَاحِبِ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُ، فَإِذَا قِيلَ: ذُو مَالٍ، فَالْمَالُ ثَابَتٌ لَهُ، وَإِذَا أُرِيدَ ضِدُّ ذَلِكَ قِيلَ غَيْرُ ذِي كَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [سُورَة الزمر: ٢٨]، أَيْ لَا يَعْتَرِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْعِوَجِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَقُلْ بِوَادٍ لَا يُزْرَعُ أَوْ لَا زَرْعَ بِهِ.
وعِنْدَ بَيْتِكَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِوَادٍ أَوْ حَالٌ.
وَالْمُحَرَّمُ: الْمُمَنَّعُ مِنْ تَنَاوُلِ الْأَيْدِي إِيَّاهُ بِمَا يُفْسِدُهُ أَوْ يَضُرُّ أَهْلَهُ بِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ فِي نُفُوسِ الْأُمَمِ مِنَ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ، وَبِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ هَلَكَةِ مَنْ يُرِيدُ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ. وَمَا أَصْحَابُ الْفِيلِ مِنْهُمْ بِبَعِيدٍ.
وَعَلَّقَ لِيُقِيمُوا بِ أَسْكَنْتُ، أَيْ عِلَّةُ الْإِسْكَانِ بِذَلِكَ الْوَادِي عِنْدَ ذَلِكَ الْبَيْتِ أَنْ لَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ شَاغِلٌ فَيَكُونَ الْبَيْتُ مَعْمُورًا أَبَدًا.
وَتَوْسِيطُ النِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ بِمُقَدِّمَةِ الدُّعَاءِ زِيَادَةٌ فِي الضَّرَاعَةِ. وَتَهَيَّأَ بِذَلِكَ أَنْ يُفَرِّعَ عَلَيْهِ الدُّعَاءَ لَهُمْ بِأَنْ يَجْعَلَ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ هِمَّةَ الصَّالِحِينَ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ.
وَالْأَفْئِدَةُ: جَمْعُ فُؤَادٍ، وَهُوَ الْقَلْبُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا النَّفْسُ وَالْعَقْلُ.
وَالْمُرَادُ فَاجْعَلْ أُنَاسًا يَهْوُونَ إِلَيْهِمْ. فَأَقْحَمَ لَفْظَ الْأَفْئِدَةِ لِإِرَادَةِ أَنْ يَكُونَ مَسِيرُ النَّاسِ إِلَيْهِمْ عَنْ شَوْقٍ وَمَحَبَّةٍ حَتَّى كَأَنَّ الْمُسْرِعَ هُوَ الْفُؤَادُ لَا الْجَسَدُ