
قال أهل المعاني: أراد لكل مؤمن لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين وأفعالهم إلى قوله تعالى وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ.
قال الفراء: العلّة الجالبة لهذه الواو إن الله تعالى أخبرهم إن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير الذبح والتذبيح وإن طرح الواو في قوله وَيُذَبِّحُونَ ويقتلون فإنه أراد تفسير صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يتركونهن حبالى لأنفسهنّ ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم»
[١٥٧] «١» أي دعوا شبانهم أحياء وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ أي أعلم ودليله قراءة عبد الله بن مسعود وإذ قال ربكم به وأذن ويأذن بمعنى واحد مثل أوعد وتوعد.
لَئِنْ شَكَرْتُمْ نعمتي وآمنتم وأطعتم لَأَزِيدَنَّكُمْ في النعمة قال ابن عيينة: الشكر بقاء النعمة ومن الزيادة ومرضاة المؤمن، وقيل الشكر قيد للموجود وقيد للمفقود.
وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ نعمتي فصددتموها ولم تشكروها.
إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ إلى قوله فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن خلقه حَمِيدٌ محمود في أفعاله لأنه فيها سيفصل أو يعدل.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٩ الى ١٧]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ يعني من كان بعد قوم نوح وعاد وثمود.
وكان ابن مسعود يقرأها: وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ثم يقول كذب النسابون جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ.
قال ابن مسعود: يعني عضوا على أيديهم غيظا.
قال ابن زيد وقرأ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ «١».
ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا فرجعوا بأيديهم إلى أفواههم.
مجاهد وقتادة: كذبوا الرسل وردّوا ما حلوا به.
الأخفش وأبو عبيدة: أي تركوا ما أمروا به وكفوا عنه ولم يمضوه ولم يؤمنوا.
تقول العرب للرجل إذا أمسك عن الجواب فلم يجب وسكت: قد ردّ يده في فيه.
قال القيسي: إنا لم نسمع واحدا من العرب يقول ردّ يده في فيه إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى إنهم عضوا على الأيدي حيفا وغيظا.
كقول الشاعر:
تردون في فيه غش الحسود «٢»
يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أنامله العشر وقال الهذلي:
قد أفنى أنامله أزمة | فأضحى يعض على الوظيفا «٣» |
وأنشد
لو أن سلمى أبصرت تخددي | ودقة في عظم ساقي ويدي |
وبعد أهلي وجفاء عودي | عضت من الوجد بأطراف اليد «٥» |
(٢) تفسير القرطبي: ٩/. [.....]
(٣) لسان العرب: ١٥/ ٤٢٤.
(٤) سورة آل عمران: ١١٩.
(٥) لسان العرب: ١٤/ ٣٤٨، ومعاني القرآن للنحاس: ٣/ ٥٣٠.

قال الكلبي: يعني من الأمم ردّوا بأيديهم إلى أفواههم أي في أفواه أنفسهم إشارة إلى الرسل إن اسكتوا.
مقاتل: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ على أفواه الرسل حين يسكتونهم بذلك وَقالُوا يعني الأمم للرسل، إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ موجب الريبة موقع للتهمة قالَتْ رُسُلُهُمْ إلى قوله تعالى مِنْ ذُنُوبِكُمْ من تعجله وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني الموت فلا يعاجلكم بالعذاب والعقاب قالُوا الرسل إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا في الصورة والهيئة ولستم بملائكة وإنما يريدون بقولكم أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بينة على صحة دعواكم، والسلطان في القرآن على وجهين وجه ملائكة ووجه بينة كقوله وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ «١» وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ «٢» فصحة قوله إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ «٣» بهذا وقوله: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «٤».
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوة والحكمة إلى قوله وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا بيّن لنا الرشد وبصرنا طريق النجاة، وَلَنَصْبِرَنَّ اللام للقسم مجازه لنصبرن عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله تعالى فِي مِلَّتِنا يعنون الآن ترجعوا وحتى ترجعوا إلى ديننا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هلاكهم ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أي مقامه وقيامه بين يدي، فأضاف قيام العبد إلى نفسه، كما يقول يذهب على ضربك أي ضربي إياك، وسوف رويتكك أي برويتي إياك. قال الله وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «٥» أي رزقي إليكم فإن شئت قلت ذلك لمن يخاف قيامي عليه ومراقبتي له، مثاله قوله أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «٦».
وقال الأخفش: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أي عذابي.
وَخافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُوا واستنصروا الله عليها «٧».
قال ابن عباس ومقاتل: يعني الأمم، وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل
(٢) سورة سبأ: ٢١.
(٣) سورة يونس: ٦٨.
(٤) سورة إبراهيم: ١٠.
(٥) سورة الواقعة: ٨٢.
(٦) سورة الرعد: ٣٣.
(٧) تفسير الطبري: ١٣/ ٢٥٣.

صادقين فعذبنا، نظيره قوله تعالى ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «١» وقالوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «٢» الآية.
وقال مجاهد وقتادة: يعني الرسل وذلك أنهم لما تبينوا من إيمان قومهم استنصروا عدوّهم ودعوا على قومهم بالعذاب.
بيانه قوله تعالى في قصة نوح ولوط وموسى وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.
مجاهد: معاند للحق ويجانبه.
وقال إبراهيم: الناكب عن الحق.
ابن عباس: المعرض.
وقتادة: العنيد الذي لا يقول لا إله إلّا الله.
مقاتل: المستكبر.
ابن كيسان: الشامخ بالحق.
ابن زيد: المخالف للحق.
والعرب تقول: شر الإبل العنيد الذي يخرج من الطريق خيره، المريد العاصي، ويقال عند العرب إذا لم يرقا دمه «٣».
وقال أهل المعاني: المعاند والعنيد هو المعارض لك بالخلاف وأصله من العند وهو الناحية.
قال الشاعر:
إذا نزلت فاجعلوني وسطا | إني كبير لا أطيق العندا «٤» |
قال الشاعر:
(٢) سورة الأنفال: ٣٢.
(٣) كذا في المخطوط.
(٤) تاج العروس: ١/ ١٠٨. [.....]
(٥) سورة الكهف: ٧٩.

أتوعدني وراء بني رياح | كذبت لتقصرن يداك دوني «١» |
أبو عبيدة: من الأضداد.
وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الآخر من ورائك أي سوف يأتيك وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه «٢».
وقال الشاعر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه | يكون وراءه فرج قريب «٣» |
مقاتل: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ يعني بعده.
وكان أستاذنا أبو القاسم الحبيبي يقول: الأصل في هذا أنّ كل ما ورائي عندك شيء من خلفك وقدام فهو [....] «٤»، وَيُسْقى مِنْ ماءٍ ثم بين ذلك لنا فقال صَدِيدٍ وهو القيح والدم.
قتادة: هو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه.
محمد بن كعب والربيع بن أنس: هو غسالة أهل النار وذلك ما يسيل من ابن الزنا يسقى الكافر يَتَجَرَّعُهُ يتحساه ويشربه ويجرع لا بمرة واحدة لمرارته وحرارته وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ لا يكاد أستقبله مجازه ولا يستسيغه كقوله لَمْ يَكَدْ يَراها «٥» أي لم يرها.
قال ابن عباس: لم يحبوه، وقيل لا يحبّونه.
وروى أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية يعطى إليه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه فقطع أمعاءه وحتى يخرج من دبره.
يقول الله وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ «٦» وقال يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ «٧» وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من أعضائه فيجد ألم الموت وسقمه.
(٢) راجع تفسير القرطبي: ٩/ ٣٥٠. ٣٥١.
(٣) المعني: ١/ ١٥٢.
(٤) كلمة غير مقروءة.
(٥) سورة النور: ٤٠.
(٦) سورة محمد: ١٥.
(٧) سورة الكهف: ٢٩.