
اللغَة: ﴿وَيْلٌ﴾ هلاكٌ ودمار ﴿يَسْتَحِبُّونَ﴾ يختارون ويفضّلون ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ يذيقونكم يقال: سامه الذلُّ أي أذاقه الذل ﴿تَأَذَّنَ﴾ أعلم إعلاماً لا شبهة فيه ﴿نَبَأُ﴾ النبأ: الخبر وجمعه أنباء ﴿سُلْطَانٍ﴾ حجة وبرهان ﴿فَاطِرِ﴾ مبدع ومخترع ﴿استفتحوا﴾ استنصروا على أعدائهم ﴿جَبَّارٍ﴾ الجبار: المتكبر الذي لا يرى لأحدٍ عليه حقاً ﴿عَنِيدٍ﴾ العنيد: المعاند للحق والمجانب له الذي يذهب عن طريق الحق، تقول العرب: شرُّ الإِبل العَنُود ﴿صَدِيدٍ﴾ الصديد: القيح الذي يسيل من أجساد أهل النار ﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ أي يتحسّاه ويتكلف بلعه بمرارة ﴿يُسِيغُهُ﴾ يبتلعه.
التفسِير: ﴿الر﴾ هذا الكتاب المعجز مؤلف من جنس هذه الحروف المقطعة فأتوا بمثله إن

استطعتم ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ أي هذا القرآن كتاب أنزلناه عليك يا محمد، لم تنشئْه أنت وإنما أوحيناه نحن إليك ﴿لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ أي لتخرج البشرية من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والإِيمان ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ أي بأمره وتوفيقه ﴿إلى صِرَاطِ العزيز الحميد﴾ أي لتهديهم إلى طريق الله العزيز الذي لا يُغالب، المحمود بكل لسان، الممجَّد في كل مكان ﴿الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي المالك لما في السماوات والأرض، الغني عن الناس، المسيطر على الكون وما فيه ﴿وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ قال الزجاج: ﴿وَيْلٌ﴾ كلمة تُقال للعذاب والهلكة، أي هلاك ودمارٌ للكافرين ويا ويلهم من عذاب الله الأليم، ثم وضّح صفات أولئك الكفار بقوله ﴿الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة﴾ أي يفضّلون ويؤثرون الحياة الفانية على الحياة الآخرة الباقية ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي يصرفون الناس ويمنعونهم عن دين الإسلام ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ أي يطلبون أن تكون دين الله معوجَّة لتوافق أهواءهم ﴿أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الذميمة في ضلالٍ عن الحق مبين، لا يُرجى لهم صلاح ولا نجاح ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ أي وما أرسلنا في الأمم الخالية رسولاً من الرسل إلا بلغة قومه ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ أي ليبيّن لهم شريعة الله ويفهمهم مراده، لتتمَّ الغاية من الرسالة ﴿فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ أي وليست وظيفة الرسل إلا التبليغ وأما أمر الهداية والإِيمان فذلك بيد الله يضلُّ من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته على ما سبق به قضاؤه المحكم ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ أي وهو العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ﴾ أي أرسلنا موسى بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه ﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ أن تفسيرية بمعنى أيْ والمعنى أي أخرج بني إِسرائيل من ظلمات الجهل والكفر إلى نور الإيمان والتوحيد قال أبو حيان: وفي قوله ﴿قَوْمَكَ﴾ خصوصٌ لرسالة موسى إلى قومه بخلاف قوله لمحمد ﴿لِتُخْرِجَ الناس﴾ مما يدل على عموم الرسالة ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله﴾ أي ذكّرهم بأياديه ونعمه عليهم ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي في التذكير بأيام الله لعبراً ودلالات لكل عبد منيب صابر على البلاء، شاكر للنعماء ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي اذكروا نعم الله الجليلة عليكم ﴿إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أي حين نجاكم من الذل والاستعباد من فرعون وزبانيته ﴿يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب﴾ أي يذيقونكم أسوأ أنواع العذاب ﴿وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ﴾ أي يذبحون الذكور ويستبقون الإناث على قيد الحياة مع الذل والصغار ﴿وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ﴾ أي وفي تلك المحنة ابتلاءٌ واختبار لكم من ربكم عظيم قال المفسرون: وكان سبب قتل الذكور أن الكهنة قالوا لفرعون إنّ مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون ذهاب ملكك على يديه، فأمر بقتل كل مولود ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ هذا من تتمة كلام موسى أي واذكروا أيضاً حين أعلم ربكم إعلاماً لا شبهة فيه لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي ﴿وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ أي ولئن جحدتم نعمتي بالكفر والعصيان فإن عذابي شديد، وعدَ بالعذاب
صفحة رقم 84
على الكفر، كما وعَدَ بالزيادة على الشكر ﴿وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً﴾ أي وقال موسى لبني إِسرائيل بعد أن أيس من إيمانهم لئن كفرتم أنتم وجميع الخلائق فلن تضروا الله شيئاً ﴿فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ أي هو غنيٌّ عن شكر عباده، مستحق للحمد في ذاته وهو المحمود وإن كفره من كفره ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ أي ألم يأتكم أخبار من قبلكم من الأمم المكذبة كقوم نوح وعاد وثمود ماذا حلَّ بهم لما كذبوا بآيات الله ﴿والذين مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي والأمم الذين جاءوا بعدهم ﴿لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله﴾ أي لا يحصي عددهم إلا الله ﴿جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات﴾ أي بالحجج الواضحات، والدلائل الباهرات ﴿فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيباً لهم وقال ابن مسعود: عضوا أصابعهم غيظاً ﴿وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ أي كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم به ﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ أي في شك عظيم من دعوتكم، وقلق واضطراب من دينكم ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ﴾ أي أجابهم الرسل بقولهم: أفي وجود الله ووحدانيته شك؟ والاستفهام للإنكار والتوبيخ لأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة ولهذا لفتوا الانتباه إلى براهين وجوده بقولهم ﴿فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ أي يدعوكم إلى الإِيمان ليغفر لكم ذنوبكم ﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي إن آمنتم أمدَّ في أعماركم إلى منتهى آجالكم ولم يعاقبكم في العاجل فيهلككم ﴿قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ أي ما أنتم إلا بشر مثلنا لا فضل لكم علينا ﴿تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا﴾ أي تريدون أن تصرفونا عن عبادة الأوثان التي كان عليها آباؤنا ﴿فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي فأتونا بحجة ظاهرة على صدقكم ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ أي قالت الرسل: نحن كما قلتم بشر مثلكم ﴿ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي يتفضل على من يشاء بالنبوة والرسالة قال الزمخشري: لم يذكروا فضلهم تواضعاً منهم وسلّموا لقولهم وأنهم بشرٌ مثلُهم في البشرية وحدها، فأمّا ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم ﴿وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي وما ينبغي لنا أن نأتيكم بحجة وآية مما اقترحتموه علينا إلا بمشئية الله وإذنه ﴿وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ أي على الله وحده فليعتمد المؤمنون في جميع أمورهم ﴿وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله﴾ أي قالت الرسل: أيُّ شيء يمنعنا من التوكل على الله؟ ﴿وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ أي والحال أنه قد بصّرنا طريق النجاة من عذابه ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ على مَآ آذَيْتُمُونَا﴾ أي ولنصبرنَّ على أذاكم قال ابن الجوزوي: وإنما قُصَّ هذا وأمثاله على نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليقتدي بمن قبله في الصبر وليعلم ما جرى لهم ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون﴾ ليس هذا تكراراً وإنما معناه الثبات على التوكل أي فليدوموا وليثبتوا على التوكل عليه وحده، وهنا يسفر الطغيان عن وجهه متبجحاً بالقوة المادية التي يملكها المتجبرون {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
صفحة رقم 85
مِلَّتِنَا} أي قال الكفار للرسل الأطهار والله لنطردنكم من ديارنا أو لترجعنَّ إلى ديننا ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين﴾ أي أوحى الله إلى الرسل لأهلكنَّ أعداءكم الكافرين المتجبرين ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي ولأمنحنكم سكنى أرضهم بعد هلاكهم ﴿ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ أي ذلك النصر للرسل وإهلاك الظالمين لمن خاف مقامه بين يديَّ وخاف عذابي ووعيدي قال في البحر: ولما أقسموا على إِخراج الرسل أو العودة في ملتهم أقسم تعالى على إهلاكهم، وأي إِخراجٍ أعظم من الإِهلاك بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبداً ﴿واستفتحوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ أي واستنصر الرسل بالله على قومهم وخسر وهلك كل متجبر معاند للحق ﴿مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ﴾ أي من وراء ذلك الكافر جهنم ويسقى فيها من ماءٍ صديد هو من قيح ودمٍ ﴿يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ أي يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته، ولا يكاد يستسيغه لقبحه وكراهته ﴿وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ أي يأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنَّه لا يموت ليستكمل عذابه ﴿وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ أي ومن بين يديه عذابٌ أشدُّ مما قبله وأغلظ.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة أنواعاً من البلاغة والبيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة في ﴿لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ حيث استعار الظلمات للكفر والضلال، والنور للهدى والإيمان، وكذلك ﴿وَيَأْتِيهِ الموت﴾ استعارة عن غواشي الكروب وشدائد الأمور، فقد يوصف المغموم بأنه في غمرات الموت مبالغة في عظيم ما يغشاه وأليم ما يلقاه.
٢ - الطباق بين ﴿يُضِلُّ ويَهْدِي﴾ وبين ﴿شَكَرْتُمْ وكَفَرْتُمْ﴾ وبين ﴿نُخْرِجَنَّ وتَعُودُنَّ﴾.
٣ - صيغة المبالغة في ﴿صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ وفي ﴿جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾.
٤ - جناس الاشتقاق في ﴿أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ﴾ وفي ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون﴾.
٥ - السجع في ﴿شَدِيدٍ، بَعِيدٍ، عَنِيدٍ﴾ الخ.
فَائِدَة: ذكر تعالى في البقرة ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] بغير واوٍ وهنا ﴿وَيُذَبِّحُونَ﴾ بالواو، والسرُّ في ذلك أنه في سورة البقرة جاء اللفظ تفسيراً لما سبق من قوله ﴿سواء العذاب﴾ [البقرة: ٤٩] فكأنه قال يسومونكم سوء العذاب ثم فسره بقوله ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] أما في هذه السورة فهو غير تفسير لأن المعنى أنهم يعذبونهم بأنواع من العذاب وبالتذبيح أيضاً فهو نوع آخر من العذاب غير الأول والله أعلم.