آيات من القرآن الكريم

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ
ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ

يقتضي حضوره مع النسوة عند الملك، وبعد هذا يقول الملك: ائْتُونِي بِهِ [يوسف: ٥٤].
وقالت فرقة من أهل التأويل: هذه الآية من قول امرأة العزيز، وكلامها متصل، أي قولي هذا وإقراري ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته بأن أكذب عليه أو أرميه بذنب هو بريء منه والتقدير- على هذا التأويل توبتي وإقراري ليعلم أني لم أخنه وأن الله لا يهدي...
وعلى أن الكلام من يوسف يجيء التقدير: وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين.
وقوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي الآية، هذه أيضا مختلف فيها هل هي من كلام يوسف أم من كلام المرأة، حسب التي قبلها:
فمن قال من كلام يوسف روى في ذلك: عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال:
لما قال يوسف: أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبريل: ولا حين هممت وحللت سراويلك، وقال نحوه ابن عباس وابن جبير وعكرمة والضحاك. وروي أن المرأة قالت له ذلك، قاله السدي، وروي أن يوسف تذكر من تلقائه ما كان هم به فقال: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، قاله ابن عباس أيضا.
ومن قال: إن المرأة قالت وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي فوجه كلامها الاعتذار عن وقوعها فيما يقع فيه البشر من الشهوات، كأنها قالت: وما هذا ببدع ولا ذلك نكير على البشر فأبرىء أنا منه نفسي، والنفوس أمارات بالسوء مائلة إليه.
وأمارة بناء مبالغة، وما في قوله: إِلَّا ما رَحِمَ مصدرية، هذا قول الجمهور فيها، وهو على هذا. استثناء منقطع، أي إلا رحمة ربي. ويجوز أن تكون بمعنى «من»، هذا على أن تكون النفس يراد بها النفوس إذ النفس تجري صفة لمن يعقل كالعين والسمع، كذا قال أبو علي، فتقدير الآية: إلا النفوس التي يرحمها الله.
قال القاضي أبو محمد: وإذن النفس اسم جنس، فصح أن تقع ما مكان «من» إذ هي كذلك في صفات من يعقل وفي أجناسه، وهو نص في كلام المبرد، وهو- عندي- معنى كلام سيبويه، وهو مذهب أبي علي- ذكره في البغداديات.
ويجوز أن تكون ما ظرفية، المعنى: أن النفس لأمارة بالسوء إلا مدة رحمة الله العبد وذهابه عن اشتهاء المعاصي.
ثم ترجى في آخر الآية بقوله: إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قوله عز وجل:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٤ الى ٥٧]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)

صفحة رقم 254

المعنى أن الملك لما تبينت له براءة يوسف مما نسب إليه، وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضا صبره وجلده، عظمت منزلته عنده وتيقن حسن خلاله فقال: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي أمّ يوسف عليه السلام بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فتأمل أن الملك قال أولا- حين تحقق علمه- ائْتُونِي بِهِ [يوسف: ٥٠] فقط، فلما فعل يوسف ما فعل، فظهرت أمانته وصبره وعلو همته وجودة نظره قال: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي، فلما جاءه وكلمه قال: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ فدل ذلك على أنه رأى من كلامه وحسن منطقه ما صدق به الخبر أو أربى عليه، إذ المرء مخبوء تحت لسانه ثم لما زاول الأعمال مشى القدمية حتى ولاه خطة العزيز.
وأَمِينٌ من الأمانة، وقالت فرقة هو بمعنى آمن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأنه يخرج من نمط الكلام وينحط إكرام يوسف كثيرا ويروى أن الملك لما أدنى يوسف قال له: إني أشاركك في كل شيء إلا أني أحب أن لا تشركني في أهلي وأن لا يأكل معي عبدي، فقال له يوسف: أتأنف أن آكل معك؟ أنا أحق أن آنف، أنا ابن إبراهيم الخليل، وابن إسحاق الذبيح، وابن يعقوب الصديق.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الحديث بعد وضعف، وقد قال ابن ميسرة: إنما جرى هذا في أول أمره، كان يأكل مع العزيز، فلما جرت قصد المرأة قالت للعزيز: أتدع هذا يواكلك؟ فقال له: اذهب فكل مع العبيد فأنف وقال ما تقدم.
اما ان الظاهر من قصته وقت محاورة الملك أنه كان على عبودية، وإلا كان اللائق به أن ينتحي بنفسه عن عمل الكافر، لأن القوم كانوا أهل أوثان ومحاورة يوسف لصاحبي السجن تقضي بذلك.
وسمى الله تعالى فرعون مصر ملكا إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه، ولو كان حيا لكان حكما له إذا قيل لكافر: ملك أو أمير، ولهذا كتب النبي ﷺ إلى هرقل فقال: «عظيم الروم»، ولم يقل: ملكا ولا أميرا، لأن ذلك حكم، والحق أن يسلم ويسلموا. وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيفما تقلب، ولو كتب له النبي عليه السلام: أمير الروم، لتمسك بتلك الحجة على نحو تمسك زياد في قوله: شهد- والله- لي أبو الحسن.
وقوله تعالى: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ الآية، فهم يوسف عليه السلام من الملك أنه عزم على تصريفه والاستعانة بنظره في الملك، فألقى يده في الفصل الذي تمكنه فيه المعدلة ويترتب له الإحسان إلى من يجب ووضع الحق على أهله وعند أهله.

صفحة رقم 255

قال بعض أهل التأويل: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فصل ما لا يعارض فيه، فيصلح منه ما شاء وأما إن كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره، فلا يجوز له ذلك.
قال القاضي أبو محمد:

وطلبة يوسف للعمل إنما هي حسبة منه عليه السلام لرغبته في أن يقع العدل، ونحو هذا هو دخول أبي بكر الصديق في الخلافة مع نهيه المستشير من الأنصار عن أن يتأمر على اثنين الحديث بكماله فجائز للفاضل أن يعمل وأن يطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه، وجائز أيضا للمرء أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره.
وخَزائِنِ لفظ عام لجميع ما تختزنه المملكة من طعام ومال وغيره. وحَفِيظٌ عَلِيمٌ صفتان تعم وجوه التثقيف والحيطة لا خلل معهما لعامل. وقد خصص الناس بهاتين الصفتين أشياء، مثل قولهم:
«حفيظ» بالحساب «عليم» بالألسن، وقول بعضهم: «حفيظ» لما استودعتني، «عليم» بسني الجوع، وهذا كله تخصيص لا وجه له، وإنما أراد باتصافه أن يعرف الملك بالوجه الذي به يستحق الكون على خزائن الأرض فاتصف بأنه يحفظ المجبي من كل جهة تحتاج إلى الحفظ. ويعلم التناول أجمع. وروي عن مالك بن أنس أنه قال: مصر خزانة الأرض، واحتج بهذه الآية.
وقوله خَزائِنِ الْأَرْضِ يريد أرض مصر إذ لم تكن مملكة فرعون إلا بها فقط، ويؤكد أن تسمى خزانة الأرض نصبتها في بلاد الأرض وتوسطها، فمنها ينقل الناس إلى أقطار الأرض وهي محل كل جالب.
وقوله تعالى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ الآية، الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به كهذه الأفعال المنصوصة، درجناه في الرتب ونقلناه فمكنا له في الأرض.
قال القاضي أبو محمد: فروي أن العزيز مات في تلك الليالي، وقال ابن إسحاق: بل عزله الملك ثم مات أطفير، فولاه الملك مكانه وزوجه زوجته، فلما دخلت عليه عروسا قال لها: أليس هذا خيرا مما كنت أردت؟ فقالت له: أيها الصديق كنت في غاية الجمال، وكنت شابة عذراء، وكان زوجي لا يطأ، فغلبتني نفسي في حبك، فدخل يوسف بها فوجدها بكرا، وولدت له ولدين. وروي أن الملك عزل العزيز، وولاه موضعه، ثم عظم ملك يوسف وتغلب على حال الملك أجمع، قال مجاهد: وأسلم الملك آخر أمره، ودرس أمر العزيز وذهبت دنياه، ومات وافتقرت زوجته، وزمنت وشاخت، فلما كان في بعض الأيام. لقيت يوسف في طريق، والجنود حوله ووراءه، وعلى رأسه بنود عليها مكتوب هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي، وَسُبْحانَ اللَّهِ، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: ١٠٨] فصاحت به وقالت: سبحان من أعز العبيد بالطاعة، وأذل الأرباب بالمعصية، فعرفها، وقالت له: تعطف عليّ وارزقني شيئا فدعاها وكلمها، وأشفق لحالها، ودعا الله تعالى، فرد عليها جمالها وتزوجها.
قال القاضي أبو محمد: وروي في نحو هذا من القصص ما لا يوقف على صحته، ويطول الكلام بسوقه. وقرأ الجمهور: «حيث يشاء» على الإخبار عن يوسف وقرأ ابن كثير وحده «حيث نشاء» بالنون على ضمير المتكلم. أي حيث يشاء الله من تصرف يوسف على اختلاف تصرفه، وحكى أبو حاتم هذه

صفحة رقم 256
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي
تحقيق
عبد السلام عبد الشافي محمد
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1422 - 2001
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية