
(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي إن النفس البشرية لكثيرة الأمر بعمل السوء، لما فيها من دواعى الشهوات الجسمية والأهواء النفسية، بما ركب فيها من القوى والآلات لتحصيل اللذات، وما يوسوس الشيطان ويزيّنه لها من النزغات، ومن ذلك أن حرّضت زوجى على سجن يوسف وقد كان ذلك مما يسوءه، فالعفيف النزيه لا يرضى أن يزنّ بالريبة كما يسوء زوجى، إذ لا يرضى أن يكون عرضه مضغة للأفواه، وحديث الناس فى أنديتهم وأسمارهم.
(إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي إلا نفسا رحمها ربى فصرف عنها السوء والفحشاء بعصمته كنفس يوسف عليه السلام.
ثم عللت ما سلف بقولها:
(إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربى عظيم المغفرة، فيغفر ما يعترى النفوس بمقتضى طباعها، إذ ركب فيها الشهوات الجسمية والأهواء النفسية.
تولية يوسف رئيسا لحكومة مصر
وما وقع لإخوته معه حينئذ
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)
المعنى الجملي
بعد انتهاء التحقيق فى أمر النسوة وظهور براءة يوسف من كل سوء، طلب الملك إحضاره إليه من السجن بعد أن وفّى له بما اشترط لمجيئه- فلما جاءه وسمع كلامه فهم من فحوى حديثه، ومن أمانته على مال العزيز وعرضه وحسن تصرفه، ومن سيرته الحسنة

فى السجن، ومن علمه وفهمه فى تأويله للرؤيا، ومن حرصه على إظهار شرفه وكرامته فى مسألة النسوة ما دل على أنه أهل لأن يرفع إلى أعلى المراتب، ويولّى أسمى المناصب وذلك هو ما فعله الملك لحصافة رأيه وبصره بأقدار الرجال، ولم يصرفه عن ذلك كونه غريبا أو فقيرا أو مملوكا، كما تشير إلى ذلك الآيتان.
الإيضاح
(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي وقال الملك أحضروه من السجن إلىّ بعد أن وفيت له بما طلب: أجعله خالصا لى وموضع ثقتى، فلا يشاركه أحد فى إدارة ملكى ولا تكون وساطة بينه وبينى. وقد جرت عادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم، قال ابن عباس: إن الرسول أتاه فقال ألق عنك ثياب السجن، والبس ثيابا جددا، وقم إلى الملك، فدعا له أهل السجن ودعا لهم وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رآه غلاما حدثا، فقال أيعلم هذا رؤياى ولم يعلمها السحرة والكهنة؟ وأقعده قدامه، وقال لا تخف وألبسه طوقا من ذهب وثيابا من حرير وأعطاه دابة مسرجة مزيّنة كدابة الملك وضرب الطبل بمصر- إن يوسف خليفة الملك.
(فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) أي فأتوه به فلما كلمه وسمع ما أجاب به، قال له إنك لدينا ذو مكانة سامية، ومنزلة عالية، وأمانة تامة، فأنت غير منازع فى تصرفك، ولا متهم فى أمانتك.
وفى هذا إيماء إلى أن الحوار بين المتخاطبين يظهر معارف الإنسان وأخلاقه، وآدابه وجميع شمائله، فيقدره من يعرف أقدار الرجال ويزنهم بفضائلهم ومزاياهم.
والظاهر أن الملك كلمه مشافهة بدون ترجمان، لأن يوسف كان قد عرف اللغة المصرية من العزيز وامرأته بمحادثته إياهما ومع حاشية الوزير من حين قدم مصر، ومن محادثته صاحبيه فى السجن.
وقد تكون اللغة التي كان يتكلم بها يوسف لغة جده إبراهيم وأولاده وحفدته وكانوا من العرب القحطانيين ثم تفرعت من هذه العربية الإسماعيلية فالمصرية والعبرانية