
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية على أنّ أكثر النّفوس نزّاعة للشّهوة، ميّالة للهوى، ذات نزعة شريرة، تحتاج إلى مجاهدة ومكافحة ومراقبة وتحذير.
جاء في الخبر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما تقولون في صاحب لكم، إن أنتم أكرمتموه وأطعمتموه وكسوتموه أفضى بكم إلى شرّ غاية، وإن أهنتموه وأعريتموه وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية؟! قالوا: يا رسول الله! هذا شرّ صاحب في الأرض. قال: فو الذي نفسي بيده إنها لنفوسكم التي بين جنوبكم».
واستدلّ أهل السّنّة بآية: إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي على أن الطّاعة والإيمان لا يحصلان إلا من الله، وعلى أن انصراف النّفس من الشّر لا يكون إلا برحمته.
ودلّت الآية أيضا على مدى فضل الله وإحسانه فهو غفور لذنوب عباده، رحيم بهم إذا هم تابوا وأنابوا وأحسنوا العمل، أي يغفر للمستغفر لذنوبه، المعترف على نفسه، ويرحمه ما استغفره واسترحمه مما ارتكبه.
الفصل التّاسع من قصّة يوسف يوسف في رئاسة الحكم ووزارة الماليّة
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٤ الى ٥٧]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)

المفردات اللغوية:
أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أجعله خالصا لنفسي دون شريك. فَلَمَّا كَلَّمَهُ أي فلما أتوا به فكلّمه، وشاهد منه الرّشد والدّهاء. مَكِينٌ ذو مكانة ومنزلة. أَمِينٌ مؤتمن على كلّ شيء.
خَزائِنِ الْأَرْضِ أرض مصر. إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ذو حفظ وعلم بأمرها، وقيل: كاتب حاسب.
وَكَذلِكَ أي كإنعامنا عليه بالخلاص من السّجن. فِي الْأَرْضِ أرض مصر. يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ينزل من بلاد مصر أي مكان أراد، فصار صاحب الأمر والحكم بعد الضّيق والحبس. وفي القصّة كما يقول السّيوطي: أن الملك توّجه وختّمه وولاه مكان العزيز، وعزله، ومات بعد، فزوّجه امرأته، فوجدها عذراء، وولدت له ولدين، وأقام العدل بمصر، ودانت له الرّقاب.
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ في الدّنيا والآخرة. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل نوفّي أجورهم عاجلا وآجلا. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ من أجر الدّنيا. وَكانُوا يَتَّقُونَ الشّرك والفواحش، لعظمه ودوامه.
المناسبة:
بعد أن تحقق الملك الأكبر من أمر النّسوة بناء على طلب يوسف عليه السّلام، وظهرت له براءته وعفّته، طلب إحضاره إليه من السّجن، ليصطفيه لنفسه، فلما سمع منه تعبير رؤياه، أعجب به وبعلمه وحسن أدبه، وأعزّه وأنزله لديه مكانة عالية، وآمنه على نفسه، وائتمنه على كلّ شيء، وسلّمه مقاليد الحكم والسّلطة، وفوّض إليه تصريف وإدارة الأمور السياسيّة والماليّة في جميع أنحاء مصر.
التفسير والبيان:
المراد بالملك هنا: الملك الأكبر، وليس العزيز على الرّأي الرّاجح، لطلب يوسف منه أن يجعله على خزائن الأرض، ولأنه كان قبل ذلك خالصا للعزيز، والآن يريد الملك الأكبر (الرّيان بن الوليد) استخلاصه لنفسه.

والمعنى: وقال الملك: أحضروه إليّ من سجنه، أجعله من خاصّتي وأهل مشورتي وموضع ثقتي، فلما خاطبه الملك وتعرّف عليه، ورأى فضله وعلمه وبراعته، وحسن أدبه، وسموّ أخلاقه، قال له: إنك عندنا اليوم وما بعده أصبحت ذا مكانة وعزّة وأمانة تؤتمن على كلّ شيء في أمور الحكم، وصاحب التّصرف التّام في شؤون البلاد.
روي أن يوسف لما خرج من السّجن اغتسل وتنظّف ولبس ثيابا جددا، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك من خيره، وأعوذ بعزّتك وقدرتك من شرّه، ثم سلّم عليه بالعربيّة، فقال الملك: ما هذا اللسان؟ فقال: لسان عمي إسماعيل، ودعا له بالعبريّة، فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي.
وكان إبراهيم وأولاده وحفدته من العرب القحطانيين، وكان ملوك مصر من العرب الذين يسمون بالرّعاة (الهكسوس).
قال يوسف: اجعلني أيها الملك على خزائن الأرض: وهي الخزن التي تخزن فيها الغلال، وهي الأهرام التي يجمع فيها الغلّات لما يستقبلونه من السّنين التي أخبرهم بشأنها، أي ولّني عليها، لأشرف عليها، وأتصرّف فيها حتى أجعل توازنا اقتصاديا بين سنوات الخصب وسني القحط، فأنقذ البلاد من المجاعة التي تهدد أهلها، بحسب الرؤيا التي رأيت لأني حفيظ عليم، أي خازن أمين، ذو علم وبصيرة بما يتولاه. وفي هذا إيماء لأهمية التّخطيط والتّنظيم المالي وإقامة التوازن بين الموارد الماليّة والنفقات.
فأجابه الملك إلى طلبه، وجعله وزير المال والخزانة، وأطلق له سلطة التّصرف في شؤون الحكم، لما لمس لديه من رجاحة عقل، وخبرة وضبط وسياسة، وحسن تصرّف، وقدرة على إحكام النّظام.
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا.. أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا على يوسف في

تقريبه إلى قلب الملك، وإنجائه من السّجن، مكّنّا له في الأرض، أي أقدرناه على ما يريد، وجعلنا له مكانة ومنزلة في أرض مصر، فانتقل من كونه مملوكا إلى أن أصبح مالكا آمرا ناهيا، ذا نفوذ وسلطة، مطاعا بعد أن كان تابعا لغيره مطواعا، حرّا طليقا بعد أن كان سجينا أسيرا، وذلك لما تحلّى به من صبر، وإطاعة لله عزّ وجلّ، وعفّة وخلق وعقل حكيم، فإنه صبر على أذى إخوته، وفي الحبس بسبب امرأة العزيز، وعفّ عن السّوء والفحشاء، وامتنع من اقتراف المنكر، فأعقبه الله النّصر والتّأييد، وأصبح في منصب سيّده السّابق الذي اشتراه من مصر، العزيز زوج التي راودته، قال مجاهد: وأسلم الملك على يدي يوسف عليه السّلام.
وما أضاعه ربّه ورحمه وصانه، والله تعالى يخصّ برحمته من يشاء ورحمته وسعت كل شيء، فيعطي الملك والغنى والصّحة ونحوها من يريد من عباده.
وقوله تعالى: بِرَحْمَتِنا أي بإحساننا، والرّحمة: النّعمة والإحسان.
وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي لا نضيع ثواب الذين يحسنون أعمالهم، فنمنحهم في الدّنيا سعادة وعزّا ومكانة، وفي الآخرة خلودا في الجنان.
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ.. أي إنّ ثواب الآخرة للمؤمنين الأتقياء، وهو التّنعم في الجنان خير وأعظم وأكثر من خير الدّنيا وما فيها من متاع العزّ والسّلطان، والجاه والملك، والمال والزّينة ونحو ذلك.
والله تعالى يخبر بهذا أن ما ادّخره لنبيّه يوسف عليه السّلام في الدّار الآخرة أعظم وأكثر وأجلّ مما أنعم عليه من التّصرّف والنّفوذ في الدّنيا، كقوله في حقّ سليمان عليه السّلام: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص ٣٨/ ٣٩- ٤٠].
ومن جمع له الله السّعادتين في الدّنيا والآخرة، كان فضل الله عليهم أكثر،

وعطاؤه أتمّ، لقيامهم بواجب الطّاعة، واجتنابهم المعصية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدتنا الآيات إلى ما يلي:
١- إنّ الحوار وسيلة التّعارف والتّعرف على فضائل الإنسان ومعارفه، وبه يزن العاقل مقادير الرّجال.
٢- إن المقوّمات العالية من علم وخلق وأدب وحسن تصرّف تبوئ صاحبها المنزلة السّامية والمكانة الرّفيعة.
٣- يجوز طلب الولاية وإظهار كون الشّخص مستعدّا لها، إذا كان من أجل التّعريف للمغمور غير المعروف، وكان الشّخص واثقا من نفسه ودينه وعلمه، وأهلا لما يطلب.
وأما النّهي عن طلب الإمارة في
قوله صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرّحمن بن سمرة فيما أخرجه الشيخان: «لا تسأل الإمارة»
والنّهي عن مدح النّفس في قوله تعالى:
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم ٥٣/ ٣٢] فالمراد به في الحديث لمن لا يثق بنفسه من القيام بحقّ الولاية لضعفه وعجزه، أو لأغراض نفسه، والمراد بالآية تزكية النّفس حال العلم بكونها غير متزكية، وكل من المحذورين لا ينطبق على النّبي يوسف عليه السّلام وأمثاله الأنبياء، لأنه يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان، ولأن السّعي في إيصال النّفع إلى المستحقين ودفع الضّرر عنهم أمر مستحسن في العقول، وعلم يوسف أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الحقوق إلى الفقراء، فرأى أن قيامه بهذه الأمور فرض متعيّن عليه، وقال يوسف عن نفسه: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ عند من لا يعرفه، فأراد تعريف نفسه.

٤- يباح للرّجل الفاضل أن يعمل للرّجل الفاجر، والسّلطان الكافر، إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحقّ وسياسة الخلق إلا بالاستعانة به، وكان مفوّضا في فعله لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء. وأما إذا كان عمله بحسب مراد الفاجر وهواه، فلا يجوز.
فإن كان المولّي ظالما فللعلماء قولان: أحدهما- جواز تولّي العمل له إذا عمل بالحقّ فيما تقلّده: لأن يوسف عليه السّلام ولّي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار بفعله لا بفعل غيره.
الثاني: أنه لا يجوز ذلك: لما فيه من إعانة الظّالم على ظلمه، وتزكيته ودعمه وتأييده بتقلّد أعماله. وأما فرعون يوسف فكان صالحا، وعن مجاهد: أن الملك أسلم على يده. وإنما الطّاغي فرعون موسى، ثم إنّ يوسف نظر في مصالح الأمة والبلاد وأملاك الملك دون أعماله، فزالت التّبعة عنه.
٥- للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل إذا دعته الضرورة إليه، كالكسب المعيشي ونحوه.
٦- قوله تعالى: وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السّلام كان من المحسنين.
٧- غمرت رحمة الله وفضله وإحسانه يوسف عليه السّلام لصبره وتقواه، وإنه سبحانه ما أضاع يوسف لصبره في الجبّ، وفي الرّقّ، وفي السّجن، وعلى أذى إخوته، وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة.
٨- إن ثواب الآخرة وعطاء الله فيها أجلّ وأعظم وأكثر من عطاء الدّنيا لمن كان مؤمنا تقيّا، لأن أجر الآخرة دائم، وأجر الدّنيا منقطع، وظاهر الآية:
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ | العموم في كلّ مؤمن متّق، وهي تدلّ دلالة خاصة على |