
أخنه في غيبته الآن بالكذب عليه «١».
والثالث: أنه قول العزيز، والمعنى: ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، فلم أغفل عن مجازاته على أمانته، حكى القولين الماوردي.
قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ قال ابن عباس: لا يصوِّب عمل الزناة، وقال غيره:
لا يرشد من خان أمانته ويفضحه في عاقبته.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
قوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ، في القائل لهذا ثلاثة أقوال، وهي تقدمت في الآية قبلها.
فالذين قالوا: هو يوسف، اختلفوا في سبب قوله لذلك على خمسة أقوال: أحدها: أنه لما قال:
«ليعلم أني لم أخنه بالغيب» غمزه جبريل عليه السّلام، فقال: ولا حين هممت؟ فقال: «وما أبرّئ نفسي» رواه عكرمة عن ابن عباس «٢»، وبه قال الأكثرون. والثاني: أن يوسف لما قال: «لم أخنه» ذكر أنه قد همّ بها، فقال: «وما أبرّئ نفسي»، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنه لمّا قال ذلك،
- وقال الحافظ ابن كثير في «التفسير» ٢/ ٥٩٣ ما ملخصه: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي، ذلك ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته لأن النفس أمّارة بالسوء، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أي: إلا من عصمه الله تعالى، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا القول هو الأشهر والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. وقد حكاه الماوردي في تفسيره. وانتدب لنصره الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فأفرده بتصنيف على حدة، وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف عليه السلام، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، وابن أبي هذيل، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي والقول الأول أقوى وأظهر، لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف- عليه السلام- عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك.
(٢) باطل مصنوع. أخرجه الطبري ١٩٤٣٥ و ١٩٤٣٦ و ١٩٤٣٧ من طرق عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس، وسماك ضعيف في روايته عن عكرمة، وقد اختلط بأخرة، وهذا قول باطل، وإن ثبت عن ابن عباس، فإنما يكون تلقاه عن كتب الأقدمين.

خاف أن يكون قد زكَّى نفسه، فقال: «وما أبرّئ نفسي»، قاله الحسن. والرابع: أنه لما قاله، قال له الملك الذي معه: اذكر ما هممت به، فقال: «وما أبرّئ نفسي»، قاله قتادة. والخامس: أنه لما قاله، قالت امرأة العزيز: ولا يوم حللتَ سراويلك؟ فقال: «وما أبرّئ نفسي»، قاله السدي «١».
والذين قالوا: هذا قول امرأة العزيز، فالمعنى: وما أبرّئ نفسي من سوء الظن بيوسف، لأنه قد خطر لي.
قوله تعالى: لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة، ويعقوب إِلا رويساً: «بالسوء إِلا» بتحقيق الهمزتين. وقرأ أبو عمرو، وابن شنبوذ عن قنبل بتحقيق الثانية وحذف الأولى. وروى نظيف عن قنبل بتحقيق الأولى وقلب الثانية ياءً. وقرأ أبو جعفر، وورش، ورويس بتحقيق الأولى وتليين الثانية بين بين، مثل: «السُّوء عِلاَّ». وروى ابن فليح بتحقيق الثانية وقلب الأولى واواً، وأدغمها في الواو قبلها، فتصير واواً مكسورة مشددة قبل همزة «إِلا».
قوله تعالى: إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي قال ابن الأنباري: قال اللغويون: هذا استثناء منقطع، والمعنى:
إِلا أن رحمة ربي عليها المعتمَد. قال أبو صالح عن ابن عباس: المعنى: إِلا من عصم ربي وقيل «ما» بمعنى «من». قال الماوردي: ومن قال: هو من قول امرأة العزيز، فالمعنى: إِلا من رحم ربي في قهره لشهوته، أو في نزعها عنه. ومن قال: هو قول العزيز، فالمعنى: إِلا من رحم ربي بأن يكفيَه سوء الظن، أو يثبِّته، فلا يعجل. قال ابن الأنباري: والقول بأن هذا قول يوسف أصح لوجهين: أحدهما:
لأن العلماء عليه. والثاني: لأن المرأة كانت عابدة وثن، وما تضمنته الآية أليق أن يكون قول يوسف من قول من لا يعرف الله تعالى.
وقال المفسرون: فلما تبين الملك عذر يوسف وعَلِم أمانته، قال: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أي: أجعله خالصاً لي، لا يشركني فيه أحد.
فإن قيل: فقد رويتم في بعض ما مضى أن يوسف قال في مجلس الملك: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب»، فكيف قال الملك: «ائتوني به» وهو حاضر عنده؟! فالجواب: أن أرباب هذا القول يقولون: أمر الملك باحضاره ليقلِّده الأعمال في غير المجلس الذي استحضره فيه لتعبير الرؤيا. قال وهب: لما دخل يوسف على الملك، وكان الملك يتكلَّم بسبعين لساناً، كان كلما كلَّمه بلسان، أجابه يوسف بذلك اللسان، فعجب الملك، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة، فقال إِني أحب أن أسمع رؤياي منك شِفاهاً، فذكرها له، قال: فما ترى أيها الصِّدِّيق؟
قال: أرى أن تزرع زرعاً كثيراً في هذه السنين المخصبة، وتجمع الطعام، فيأتيك الناس فيمتارون، وتجمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد، فقال الملك: ومن لي بهذا؟ فقال يوسف: «اجعلني على خزائن الأرض». قال ابن عباس: ويريد بقوله: مَكِينٌ أَمِينٌ أي: قد مكَّنتكَ في ملكي وائتمنتكَ فيه.
وقال مقاتل: المكين: الوجيه، والأمين: الحافظ.

قوله تعالى: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي: خزائن أرضك. وفي المراد بالخزائن قولان:
أحدهما: خزائن الأموال، قاله الضحاك، والزجاج. والثاني: خزائن الطعام فحسب، قاله ابن السائب.
قال الزجاج: وإِنما سأل ذلك لأن الأنبياء بُعثوا بالعدل، فعلم أنه لا أحد أقوَم بذلك منه. وفي قوله تعالى: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ثلاثة أقوال: أحدها: حفيظ لِما ولَّيتني، عليم بالمجاعة متى تكون، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: حفيظ لما استودعتني، عليم بهذه السنين، قاله الحسن. والثالث: حفيظ للحساب، عليم بالألسن، قاله السدي، وذلك أن الناس كانوا يَرِدُون على الملك من كل ناحية فيتكلمون بلغات مختلفة.
واختلفوا، هل وَّلاه الملك يومئذ، أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه وَّلاه بعد سنة.
(٨١٥) روى الضحاك عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل: اجعلني على خزائن الأرض، لاستعمله من ساعته، ولكنه أَخَّر ذلك سنة».
(٨١٦) وذكر مقاتل أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لو أن يوسف قال إِني حفيظ عليم إِن شاء الله، لملك من وقته».
قال مجاهد: أسلم الملك على يد يوسف. وقال أهل السِّيَر: أقام في بيت الملك سنة، فلما انصرمت دعاه الملك، فتوَّجه، وردَّاه بسيفه، وأمر له بسرير من ذهب، وضرب عليه كِلَّةً من إِستبرق، فجلس على السرير كالقمر، ودانت له الملوك، ولزم الملك بيته وفوَّض أمره إِليه، وعزل قُطَفِير عما كان عليه، وجعل يوسف مكانه، ثم إِن قطفير هلك في تلك الليالي، فزوَّج الملكُ يوسفَ بامرأة قطفير، فلما دخل عليها، قال: أليس هذا خيراً مما تريدين؟ فقالت: أيها الصِّدِّيق لا تلمني، فاني كنت امرأة حسناء في مُلك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، فغلبتني نفسي، فلما بنى بها يوسف وجدها عذراء، فولدت له ابنين، إفراييم، وميشا، واستوثق له ملك مصر.
والقول الثاني: أنه ملَّكه بعد سنة ونصف، حكاه مقاتل عن ابن عباس.
والثالث: أنه سلَّم إِليه الأمر من وقته، قاله وهب، وابن السائب.
فان قيل: كيف قال يوسف إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ولم يقل: إِن شاء الله؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن ترك الاستثناء أوجب عقوبة بأن أخِّر تمليكُه، على ما ذكرنا عن النبي صلّى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه أضمر الاستثناء، كما أضمروه في قولهم: وَنَمِيرُ أَهْلَنا.
والثالث: أنه أراد أن حفظي وعِلمي يزيدان على حفظ غيري وعِلمه، فلم يحتج هذا إِلى الاستثناء، لعدم الشك فيه، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو ممن يضع الحديث ويكذب فهذا خبر باطل.