آيات من القرآن الكريم

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ
ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ

(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى
آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي بَيَانِ مَا وَقَعَ بَيْنَ يُوسُفَ فِي طُفُولَتِهِ، وَأَبِيهِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَاسْتَدَلَّ أَبُوهُ بِرُؤْيَاهُ، عَلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ النَّاسِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ أَمَلُهُ، وَشَغَفَ بِهِ قَلْبُهُ، فَكَانَ مَبْدَأً لِكُلِّ مَا حَدَثَ لَهُ مِنَ الْوَقَائِعِ الْمُحْرِقَةِ، وَمِنَ الْعَاقِبَةِ الْمُشْرِقَةِ، فَهَذِهِ الرُّؤْيَا لَا يَظْهَرُ تَأْوِيلُهَا إِلَّا فِي آخِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَأَصْحَابُ الْقَصَصِ الْمُنْتَحَلَةِ فِي عَصْرِنَا يَحْتَذُونَ أُسْلُوبَ قِصَّةِ يُوسُفَ فِي سُورَتِهِ هَذِهِ بِوَضْعِ خَبَرٍ مُشْكَلٍ خَفِيٍّ يَشْغَلُ فِكْرَ الْقَارِئِ فِي أَوَّلِهَا، وَيَظَلُّ يَنْتَظِرُ وُقُوعَ مَا يَحِلُّ إِشْكَالَهُ، وَيُفَسِّرُ مَآلَهُ، فَلَا يُصِيبُهُ إِلَّا فِي آخِرِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ ((الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ)) إِلَخْ.
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ) هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ أَحْسَنِ الْقَصَصِ فَهُوَ بَدَلٌ مِنْهُ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ. وَالْأَكْثَرُونَ يُعِدُّونَهُ بَدْءَ كَلَامٍ جَدِيدٍ يُقَدِّرُونَ لَهُ مُتَعَلِّقًا: اذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِلَخْ. وَالتَّاءُ هُنَا بَدَلٌ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ مَسْمُوعٌ مِنَ الْعَرَبِ فِي نِدَاءِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْفَصِيحُ كَسَرُهَا وَسَمِعَ فَتَحَهَا وَضَمَّهَا أَيْضًا: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) فِي الْمَنَامِ بِدَلِيلِ مَا يَأْتِي بَعْدُ، ثُمَّ بَيْنَ الصِّفَةِ الَّتِي رَأْي عَلَيْهَا هَذِهِ الْجَمَاعَةَ

صفحة رقم 209

السَّمَاوِيَّةَ بِقَوْلِهِ: (رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) وَالسُّجُودُ: التَّطَامُنُ وَالِانْحِنَاءُ الَّذِي سَبَبُهُ الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ أَوِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعْظِيمِ، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُمْ: سَجَدَ الْبَعِيرُ؛ إِذَا خَفَضَ رَأْسَهُ لِرَاكِبِهِ عِنْدَ رُكُوبِهِ، وَكَانَ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ فِي تَحِيَّةِ التَّعْظِيمِ فِي بِلَادِ فِلَسْطِينَ وَمِصْرَ وَغَيْرِهِمَا وَاسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى انْقِيَادِ تَعَالَى - وَتَسْخِيرِهِ وَهَذَا سُجُودٌ طَبِيعِيٌّ غَيْرُ إِرَادِيٍّ، وَلَا يَكُونُ السُّجُودُ عِبَادَةً إِلَّا بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ مِنَ السَّاجِدِ لِلتَّقْرِيبِ إِلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ سُلْطَانًا ذَاتِيًّا غَيْبِيًّا فَوْقَ سُلْطَانِ الْأَسْبَابِ الْمَعْهُودَةِ. وَكَانَ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ
عَنْ سُجُودِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا إِرَادَةٌ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ كَذَا وَكَذَا سَاجِدَةً لِي، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ وَالِدَهُ أَنَّهُ رَآهَا سَاجِدَةً سُجُودًا، كَأَنَّهُ عَنْ إِرَادَةٍ وَاخْتِيَارٍ كَسُجُودِ الْعُقَلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ، فَأَعَادَ فِعْلَ ((رَأَيْتُ)) وَجَعَلَ مَفْعُولَهُ ضَمِيرَ الْعُقَلَاءِ وَجَمَعَ صِفَةَ هَذَا السُّجُودِ جَمْعَ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ، فَعَلِمَ أَبُوهُ أَنَّ هَذِهِ رُؤْيَا إِلْهَامٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تُعَدَّ مِنْ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، الَّتِي تُثِيرُهَا فِي النَّوْمِ الْخَوَاطِرُ وَالْأَفْكَارُ، وَلَا سِيَّمَا خَوَاطِرُ غُلَامٍ صَغِيرٍ كَيُوسُفَ يَخَافُ أَبُوهُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ بَلَغَ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ يَا بُنَيَّ: تَصْغِيرٌ لِكَلِمَةِ ((ابْنٍ)) فِي نِدَاءِ الْعَطْفِ وَالتَّحَبُّبِ، وَقَصَّ الرُّؤْيَا عَلَى فُلَانٍ كَقَصَّ الْقِصَّةَ مَعْنَاهُ أَخْبَرَهُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الدِّقَّةِ وَالْإِحَاطَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَقَدْ يَفْهَمُ مِنْهُ الْمُعَبِّرُ الْبَصِيرُ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ لِلرَّائِي الْقَاصِّ، أَوِ الْمَعْنَى الَّذِي تُؤَوِّلُ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِذَا كَانَتْ رُؤْيَا حَقٍّ كَمَا يَقَعُ لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - قَبْلَ وَحْيِ التَّكْلِيمِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَقَدْ فَهِمَ هَذَا يَعْقُوبُ وَاعْتَقَدَ أَنَّ يُوسُفَ سَيَكُونُ نَبِيًّا عَظِيمًا ذَا ظُهُورٍ وَسُلْطَانٍ يَسُودُ بِهِ أَهْلَهُ حَتَّى أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَإِخْوَتَهُ، وَخَافَ أَنْ يَسْمَعَ إِخْوَتُهُ مَا سَمِعَهُ وَيَفْهَمُوا مَا فَهِمَهُ فَيَحْسُدُوهُ وَيَكِيدُوا لِإِهْلَاكِهِ، فَنَهَاهُ أَنْ يَقُصَّ رُؤْيَاهُ عَلَيْهِمْ، وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا أَيْ: إِنْ تَقْصُصْهَا عَلَيْهِمْ يَحْسُدُوكَ فَيُدَبِّرُوا وَيَحْتَالُوا لِلْإِيقَاعِ بِكَ تَدْبِيرًا شَيْطَانِيًّا يُحَكِّمُونَهُ بِالتَّفْكِيرِ وَالرَّوِيَّةِ، كَمَا يَفْعَلُ الْأَعْدَاءُ فِي الْمَكَايِدِ الْحَرْبِيَّةِ، يُقَالُ: كَادَهُ إِذَا وَجَّهَ إِلَيْهِ الْكَيْدَ مُبَاشَرَةً، وَكَادَ لَهُ إِذَا دَبَّرَ الْكَيْدَ لِأَجْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ لِمَضَرَّتِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَوْ لِمَنْفَعَتِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي تَدْبِيرِ يُوسُفَ لِإِبْقَاءِ أَخِيهِ بَعْدَهُ: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ٧٦ وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظَاهِرُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهَا، لَا تَفُوتُهُ فُرْصَةٌ لَهَا فَيُضَيِّعُهَا. هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنِفٍ لِلسَّبَبِ النَّفْسِيِّ لِهَذَا الْكَيْدِ، وَهُوَ أَنَّهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي النَّزْغِ بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَمَا تَعَرَّضَ لَهُ دَاعِيَةٌ مِنْ هَوَى النَّفْسِ، وَشَرِّهَا الْحَسَدُ الْغَرِيزِيُّ فِي الْإِنْسَانِ، كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ يُوسُفُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَسُوءِ تَأْثِيرِهِ وَحُسْنِ عَاقِبَتِهِ بِقَوْلِهِ: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) ١٠٠ وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ
أَنَّ يُوسُفَ قَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ. وَمَا قَصَّهُ اللهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي رُوِيَ بِالتَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ،

صفحة رقم 210
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية