
أن يكون «إنه ربي» يعني الله عزّ وجلّ «أحسن مثواي» أي: توّلاني في طول مُقامي.
قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي: إن فعلت هذا فخنته في أهله بعد ما أكرمني فأنا ظالم.
وقيل: الظّالمون ها هنا: الزّناة.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٤]
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)
قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ الهم بالشيء في كلام العرب: حديث المرء نفسه بمواقعته ما لم يواقع. فأما همّ أزليخا، فقال المفسرون: دعته إِلى نفسها واستلقت له. واختلفوا في همِّه بها على خمسة أقوال «١» :
أما قوله: يرده لسان العرب، فليس كما ذكر، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب، قال تعالى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- القصص: ١٠- فقوله: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ إما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به، وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة، يناقض بعضها بعضا. مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة، والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب، لأنهم قدروا جواب (لولا) محذوفا، ولا يدل عليه دليل، لأنهم لم يقدروا: لهمّ بها، ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط، لأن ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه، وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين، ومن أراد أن يقف على ما نقل عن المفسرين في هذه الآية فليطالع ذلك في تفسير الزمخشري وابن عطية وغيرهما. [.....]

أحدها: أنه كان من جنس همّها، ولولا أن الله تعالى عصمه لفعل، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، وهو قول عامة المفسرين المتقدمين، واختاره من المتأخرين جماعة منهم ابن جرير، وابن الأنباري. وقال ابن قتيبة: لا يجوز في اللغة: هممت بفلان، وهمّ بي، وأنت تريد اختلاف الهمَّين. واحتجَ منْ نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر، ويدل عليه ما سنذكره من أمر البرهان الذي رآه. قالوا: ورجوعه عما همّ به من ذلك خوفاً من الله تعالى يمحو عنه سيّئ الهمِّ، ويوجب له علوَّ المنازل.
(٨٠٧) ويدل على هذا الحديث الصّحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إِلى غار، فانطبقت عليهم صخرة، فقالوا: ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله. فقال أحدهم: اللهم إِنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إلّا بمائة دينار، فلمّا أتيت بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة أُرعدتْ وقالت: إِن هذا لعملٌ ما عملته قطُّ، فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار، فإن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرِج عنا، فزال ثلث الحجر». والحديث معروف، وقد ذكرته في «الحدائق»، فعلى هذا نقول: إِنما همت، فترقَّت همَّتها إِلى العزيمة، فصارت مصرَّة على الزنا. فأما هو، فعارضه ما يعارض البشر من خَطَرَاتِ القلب، وحديث النفس، من غير عزم، فلم يلزمه هذا الهمُّ ذنباً، فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه.
(٨٠٨) وقد قال عليه السلام: «عفي لأمّتي عمّا حدّثت به أنفسها ما لم تتكلّم أو تعمل».
(٨٠٩) وقال عليه السّلام: «هلك المصرّون» وليس الإِصرار إِلا عزم القلب، فقد فرَّق بين حديث النفس وعزم القلب. وسئل سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بالهمة؟ فقال: إذا كانت عزما.
- وأخرجه البخاري ٢٢٧٢ ومسلم ٢٧٤٣ وأحمد ٢/ ١١٦ من طريقين عن سالم، عن ابن عمر به.
- وله شواهد منها: حديث أبي هريرة: أخرجه البزار ١٨٦٩ وابن حبان ٩٧٢ وإسناده حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» ٨/ ١٤٢ و ١٤٣: رواه البزار والطبراني في «الأوسط» بأسانيد ورجال البزار وأحد أسانيد الطبراني رجالهما رجال الصحيح. وحديث النعمان بن بشير: أخرجه أحمد ٢/ ١٤٢ والبزار ٣١٧٨ و ٣١٧٩ و ٣١٨٠.
وذكره الهيثمي في «المجمع» ٨/ ١٤٢ وقال: ورجال أحمد ثقات. وحديث أنس: أخرجه أحمد ٣/ ١٤٢ و ١٤٣ والبزار ١٨٦٨ والطبراني في «الدعاء» ٢٠٠. وقال الهيثمي في «المجمع» ٨/ ١٤٠: رواه أحمد مرفوعا، ورواه أبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح. فهذا حديث مشهور.
صحيح. أخرجه البخاري ٢٥٢٨ و ٥٢٦٩ و ٦٦٦٤ ومسلم ١٢٧ وأبو داود ٢٢٠٩ والترمذي ١١٨٣ والنسائي ٦/ ١٥٦ و ١٥٧ وابن ماجة ٢٠٤٤ والبيهقي ٧/ ٢٩٨ والطيالسي ٢٤٥٩ وابن حبان ٤٣٣٤ من طرق عن قتادة، عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة به.
حسن. أخرجه أحمد ٢/ ١٦٥- ٢١٩ والبيهقي في «الشعب» ٧٢٣٦ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في أثناء حديث، وإسناده حسن، وجوّده المنذري في «الترغيب» ٣٦٢٨. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠/ ١٩٠- ١٩١: رجال أحمد رجال الصحيح غير حبان بن زيد، ووثقه ابن حبان. قلت: وقال عنه الحافظ في «التقريب» : ثقة.

(٨١٠) ويؤيده الحديث الصّحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «يقول الله تعالى: إِذا همّ عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها عليه سيئة». واحتج القاضي أبو يعلى على أن همته لم تكن من جهة العزيمة، وإِنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله: قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي وقولِه:
كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ وكل ذلك إِخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية، وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إلى العزم.
فإن قيل: فقد سوّى القرآن بين الهمتين، فلم فرقتم؟
فالجواب: أن الاستواء وقع في بداية الهمة، ثم ترقت همتها إِلى العزيمة، بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه، ولم تتعد همته مقامها، بل نزلت عن رتبتها، وانحل معقودها. بدليل هربه منها، وقوله: قالَ مَعاذَ. ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حلّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل، فإنه لو كان هذا، دل على العزم، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا.
والقول الثاني: أنها همت به أن يفترشها، وهمّ بها، أي: تمنَّاها أن تكون له زوجة، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والقول الثالث: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها فلما رأى البرهان، لم يقع منه الهم، فقُدِّم جواب «لولا» عليها، كما يقال: قد كنتَ من الهالكين، لولا أن فلاناً خلَّصك لكنت من الهالكين، ومنه قول الشاعر:
فَلا يَدْعُني قَوْمِي صَرِيْحاً لِحُرَّةٍ | لئن كُنْتُ مَقْتُولاً وتَسْلَم عَامِرُ |
وجزى ربُّه عَنِّي عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ | بِتَرْكي وَخِذْلاَني جَزَاءً موفَّراً |
لَمَّا جْفَا إِخوانُه مُصْعَبَاً | أدَّى بِذَاكَ البيَعَ صَاعاً بِصاعِ |
طلبا لعرفك يا ابن يحيى بعد ما | تقطّعت بي دونك الأسباب |
إِنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلَك شَتَّى | فَالْزَمِي الخَفْضَ وانعمي تَبْيَضِّضي |

هُمَا تَفَلا في فِيَّ مِن فَمَوَيْهِمَا | عَلَى النَّابِحِ العَاوِي أشدُّ لِجَامِيا |
والقول الرابع: أنه همّ أن يضربها ويدفعها عن نفسه، فكان البرهان الذي رآه من ربه أن الله أوقع في نفسه أنه إِن ضربها كان ضربه إِياها حجة عليه، لأنها تقول: راودني فمنعته فضربني، ذكره ابن الأنباري.
والقول الخامس: أنه همّ بالفرار منها، حكاه الثعلبي، وهو قول مرذول، أفَتراه أراد الفرار منها، فلما رأى البرهان أقام عندها؟! قال بعض العلماء: كان همّ يوسف خطيئة من الصغائر الجائزة على الأنبياء، وإِنما ابتلاهم بذلك ليكونوا على خوف منه، وليعرفهم مواقع نعمته في الصفح عنهم، وليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة. قال الحسن: إِن الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرا لهم، ولكن لئلا تقنطوا من رحمته. يعني الحسن أن الحجة للأنبياء ألزم، فاذا قبل التوبة منهم، كان إِلى قبولها منكم أسرع.
(٨١١) وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «ما من أحد يلقى الله تعالى إِلا وقد همّ بخطيئة أو عملها، إِلا يحيى بن زكريا، فإنه لم يهم ولم يعملها».
قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ جواب «لولا» محذوف. قال الزجاج: المعنى: لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما همّ به. قال ابن الأنباري: لزنى، فلما رأى البرهان كان سبب انصراف الزنا عنه. وفي البرهان ستة أقوال:
أحدها: أنه مُثّل له يعقوب. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: نُودي يا يوسف، أتزني فتكون مثل الطائر الذي نُتف ريشه فذهب يطير فلم يستطع؟ فلم يعط على النداء شيئاً، فنودي الثانية، فلم يعط على النداء شيئاً فتمثل له يعقوب فضرب صدره، فقام، فخرجت شهوته من أنامله. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضَّاً على أنامله، فأدبر هارباً، وقال: وحقِّك يا أبت لا أعود أبدا. وقال أبو صالح عن ابن عباس: رأى مثال يعقوب في الحائط عاضَّاً

على شفتيه. وقال الحسن: مثّل له جبريل في صورة يعقوب في سقف البيت عاضَّا على إِبهامه أو بعض أصابعه. وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وابن سيرين، والضحاك في آخرين. وقال عكرمة: كل ولد يعقوب، قد ولد له اثنا عشر ولداً، إلاَّ يوسف فانه ولد له أحد عشر ولداً، فنُقص بتلك الشهوة ولداً.
والثاني: أنه جبريل عليه السلام. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: مثِّل له يعقوب فلم يزدجر، فنودي: أتزني فتكون مثل الطائر نتف ريشه؟! فلم يزدجر حتى ركضه جبريل في ظهره، فوثب.
والثالث: أنها قامت إِلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال لها يوسف: أي شيء تصنعين؟
قالت: أستحي من إِلهي هذا أن يراني على هذه السوأة، فقال: أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع، ولا أستحي من إِلهي القائم على كل نفس بما كسبت؟ فهو البرهان الذي رأى، قاله عليّ بن أبي طالب، وعليّ بن الحسين، والضحاك.
والرابع: أنّ الله تعالى بعث إِليه ملكاً، فكتب في وجه المرأة بالدّم: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا «١»، قاله الضحاك عن ابن عباس. وروي عن محمد بن كعب القرظي: أنه رأى هذه الآية مكتوبة بين عينيها، وفي رواية أخرى عنه، أنه رآها مكتوبة في الحائط. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: بدت فيما بينهما كف ليس فيها عضد ولا معصم، وفيها مكتوب وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا، فقام هاربا، وقامت، فلمّا ذهب عنهما الرّوع عادت وعاد، فلما قعد إِذا بكفٍّ قد بدت فيما بينهما فيها مكتوب وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»
الآية، فقام هارباً، فلما عاد، قال الله تعالى لجبرئيل: أدركْ عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل عاضّاً على كفه أو أصبعه وهو يقول: يا يوسف، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء؟!. وقال وهب بن منبه: ظهرت تلك الكف وعليها مكتوب بالعبرانية أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «٣»، فانصرفا، فلما عادا رجعت وعليها مكتوب وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ «٤»، فلما عادا عادت وعليها مكتوب وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى الآية، فعاد، فعادت الرابعة وعليها مكتوب وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، فولَّى يوسف هاربا «٥».
والخامس: أنه سيّدُه العزيز دنا من الباب، رواه ابن إِسحاق عن بعض أهل العلم. وقال ابن إِسحاق: يقال: إِن البرهان خيال سيِّده، رآه عند الباب فهرب.
والسادس: أن البرهان أنه علِم ما أحل الله مما حرّم الله، فرأى تحريم الزنا، روي عن محمد بن كعب القرظي. قال ابن قتيبة: رأى حجة الله عليه، وهي البرهان، وهذا هو القول الصحيح، وما تقدَّمه فليس بشيء، وإِنما هي أحاديث من أعمال القصاص، وقد أشرت إِلى فسادها في كتاب «المغني في التفسير». وكيف يُظن بنبيٍّ لله كريمٍ أنه يخوَّف ويرعَّب ويُضطر إِلى ترك هذه المعصية وهو مصرّ؟! هذا غاية القبح.
(٢) سورة البقرة: ٢٨١.
(٣) سورة الرعد: ٣٣.
(٤) سورة الانفطار: ١٠- ١١.
(٥) هذه الآثار جميعا من الإسرائيليات، لا حجة في شيء منها، وتقدم ما فيه كفاية.