آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ

﴿قَالَ﴾ يُوسُفَ لَهَا عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ أَيْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَأَعْتَصِمُ بِاللَّهِ مِمَّا دَعَوْتِنِي إِلَيْهِ، ﴿إِنَّهُ رَبِّي﴾ يُرِيدُ أَنَّ زَوْجَكِ قِطْفِيرَ (١) سَيِّدِي ﴿أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ أَيْ: أَكْرَمَ مَنْزِلِي. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقِيلَ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، يُرِيدُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، أَيْ: آوَانِي، وَمِنْ بَلَاءِ الْجُبِّ عَافَانِي.
﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ يَعْنِي: إِنْ فَعَلْتُ هَذَا فَخُنْتُهُ فِي أَهْلِهِ بَعْدَ مَا أَكْرَمَ مَثْوَايَ فَأَنَا ظَالِمٌ، وَلَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
وَقِيلَ: لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ: أَيْ لَا يَسْعَدُ الزُّنَاةُ.
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) ﴾.
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ وَالْهَمُّ هُوَ: الْمُقَارَبَةُ مِنَ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ فِيهِ. فَهَمُّهَا: عَزْمُهَا على المعصية والزنى.
وَأَمَّا هَمُّهُ: فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: حَلَّ الْهِمْيَانَ وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الْخَائِنِ (٢).
وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حَلَّ سَرَاوِيلَهُ وَجَعَلَ يُعَالِجُ ثِيَابَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِثْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ (٣).
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: جَرَى الشَّيْطَانُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ إِلَى جِيدِ يوسف وباليد ١٨١/أالْأُخْرَى إِلَى جِيدِ الْمَرْأَةِ حَتَّى جَمَعَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ هَذَا الْقَوْلَ، وَالْقَوْلُ مَا قَالَ مُتَقَدِّمُو هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِاللَّهِ أَنْ يَقُولُوا فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَرَادَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ مُرَاوَدَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ نَفْسِهِ جَعَلَتْ تَذْكُرُ لَهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ، وَتُشَوِّقُهُ إِلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: يَا يُوسُفُ مَا أَحْسَنَ شَعْرَكَ!.
قَالَ: هُوَ أَوَّلُ مَا يَنْتَثِرُ مِنْ جَسَدِي.
قَالَتْ: مَا أَحْسَنَ عَيْنَيْكَ!

(١) في تفسير الطبري: (إطفير).
(٢) أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس موقوفا. انظر: الدر المنثور: ٤ / ٥٢١. وسيأتي التعليق على هذه الروايات قريبا.
(٣) ساق السيوطي الروايات عنهم في الدر المنثور: ٤ / ٥٢١-٥٢٢.

صفحة رقم 228

قَالَ: هِيَ أَوَّلُ مَا تَسِيلُ عَلَى وَجْهِي فِي قَبْرِي.
قَالَتْ: مَا أَحْسَنَ وَجْهَكَ!
قَالَ: هُوَ لِلتُّرَابِ يَأْكُلُهُ (١).
وَقِيلَ: إِنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ فَرَاشَ الْحَرِيرِ مَبْسُوطٌ، فَقُمْ فَاقْضِ حَاجَتِي.
قَالَ: إذًا يَذْهَبُ نَصِيبِي مِنَ الْجَنَّةِ.
فَلَمْ تَزَلْ تُطْمِعُهُ وَتَدْعُوهُ إِلَى اللَّذَّةِ، وَهُوَ شَابٌّ يَجِدُ مِنْ شَبَقِ الشَّبَابِ مَا يَجِدُهُ الرَّجُلُ، وَهِيَ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، حَتَّى لَانَ لَهَا مِمَّا يَرَى مِنْ كَلَفِهَا، وَهَمَّ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَدَارَكَ عَبْدَهُ وَنَبِيَّهُ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي ذَكَرَهُ (٢).
وَزَعْمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ (٣)، وَقَالَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: ﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا، وَلَكِنَّهُ رَأَى الْبُرْهَانَ فَلَمْ يَهُمَّ.
وَأَنْكَرَهُ النُّحَاةُ وَقَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ لَا تُؤَخِّرُ ﴿لَوْلَا﴾ عَنِ الْفِعْلِ، فَلَا تَقُولُ: لَقَدْ قُمْتُ (٤) لَوْلَا زَيْدٌ، [وَهُوَ يُرِيدُ لَوْلَا زَيْدٌ لَقُمْتُ] (٥).
وَقِيلَ: هَمَّتْ بِيُوسُفَ أَنْ يَفْتَرِشَهَا، وَهَمَّ بِهَا يُوسُفُ أَيْ: تَمَنَّى أَنْ تَكُونَ لَهُ زَوْجَةً.

(١) انظر: تفسير الطبري: ١٦ / ٣٤.
(٢) أخرجه الطبري في الموضع السابق.
(٣) وأبدى ابن عطية وجها أن هذا لم يكن في حال النبوة، فقال في "المحرر الوجيز": (٧ / ٤٧٧-٤٧٨) :"والذي أقول في هذه الآية: إن كون يوسف نبيا في وقت هذه النازلة: لم يصح، ولا تظاهرت به رواية. وإذا كان ذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته، وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة، وإن فرضناه نبيا -في ذلك الوقت- فلا يجوز عليه -عندي- إلا الهم الذي هو الخاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تَكَّةٍ ونحو ذلك؛ لأن العصمة مع النبوة. وما روي من أنه قيل له: "تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء" فإنما معناه: العدة بالنبوة فيما بعد. وللهم بالشيء مرتبتان: فالأولى: تجوز عليه مع النبوة، والثانية الكبرى: لا تقع إلا مع غير نبي، لأن استصحاب خاطر المعصية والتلذذ بها معصية في نفسها تكتب... ". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "دقائق التفسير": (٣ / ٢٧٢-٢٧٣) :"الهم: اسم جنس تحته نوعان، كما قال الإمام أحمد: الهم همان: هم خطرات، وهم إصرار. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه، وإذا تركها لله كتبت له حسنة... ويوسف هم هما تركه لله، لذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه... وأما ما ينقل من أنه حل سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده، وأمثال ذلك، فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك فهو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء وقدحا فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله. لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرفا واحدا".
(٤) في "ب": همت.
(٥) ساقطة من "ب".

صفحة رقم 229

وَهَذَا التَّأْوِيلُ وَأَمْثَالُهُ غَيْرُ مُرْضِيَةٍ لِمُخَالَفَتِهَا أَقَاوِيلَ الْقُدَمَاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُؤْخَذُ عَنْهُمُ الدِّينُ وَالْعِلْمُ (١).
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي فَعَلَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَالصَّغَائِرُ تَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ (٢).

(١) قال العلامة الشنقيطي في تفسيره "أضواء البيان: تفسير القرآن بالقرآن" (٣ / ٦٠-٦٢) :"والجواب الثاني- وهو اختيار أبي حيان: أن يوسف لم يقع منه هم أصلا، بل هو منفي عنه لوجود البرهان. وهذا الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية، لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب: أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه، كقوله: "فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين": أي: إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه، فالأول: دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب، لأن جواب الشروط وجواب "لولا" لا يتقدم، ولكن يكون المذكور قبله دليلا عليه كالآية المذكورة. وكقوله: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"، أي: إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم. وعلى هذا القول: معنى الآية، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، أي: لولا أن رآه هم بها. فما قبل "لولا" هو دليل الجواب المحذوف، كما هو الغالب في القرآن واللغة. ونظير ذلك قوله تعالى: "إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها"، فما قبل "لولا" دليل الجواب، أي: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به. واعلم أن جماعة من علماء العربية أجازوا تقديم جواب "لولا" وتقديم الجواب في سائر الشروط: وعلى هذا القول يكون جواب "لولا" في قوله: "لولا أن رأى برهان ربه"، هو ما قبله من قوله: "وهم بها". وإلى جواز التقديم المذكور ذهب الكوفيون، ومن أعلام البصريين: أبو العباس المبرد، وأبو زيد الأنصاري". وقال الشيخ أبو حيان الأندلسي في "البحر المحيط" (٥ / ٢٩٤-٢٩٥) ما نصه: "طوَّل المفسرون في تفسير هذين الهمَّيْن، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق، والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: لقد فارقت لولا أن عصمك الله، ولا تقول: إن جواب "لولا" متقدم عليها، وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري وأبو العباس المبرد، بل نقول: إن جواب "لولا" محذوف لدلالة ما قبله عليه، كما تقول جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت، فيقدرونه: إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قوله: أنت ظالم على ثبوت الظلم، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل، وكذلك هنا التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها، فكان موجد الهمِّ على تقدير انتفاء رؤية البرهان، ولكنه وجد رؤية البرهان، فانتفى الهمُّ". وبعد أن رد على الزجاج اعتراضا لغويا، قال: "وأما أقوال السلف -والتي ساق بعضها الإمام البغوي هنا- فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا مع كونها قادحة في فساق المسلمين فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة. والذى روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب لأنهم قدَّروا جواب "لولا" محذوفا ولا يدل عليه دليل، لأنهم لم يقدروا "لهمَّ بها"، ولا يدل كلام العرب على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط، لأن ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يُحذف الشيء لغير دليل عليه". ثم يقول أبو حيان: "وقد طهرنا كتابنا هذا -أي: تفسيره البحر المحيط- عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب ومساق الآيات التي وردت في هذه السورة مما يدل على العصمة وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين" وانظر: "الإسرائيليات والموضوعات" لمحمد محمد أبو شهبة ص (٣٠٧-٣١٩)، تفسير المنار لمحمد رشيد رضا: (١٢ / ٢٨٠-٢٨٦).
(٢) انظر فيما سبق ص (٢١٨) هامش (٥).

صفحة رقم 230

رُوِيَ أَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ حِينَ خَرَجَ مِنَ السِّجْنِ وَأَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ، قَالَ يُوسُفُ: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: وَلَا حِينَ هَمَمْتَ بِهَا يَا يُوسُفُ؟ فَقَالَ يُوسُفُ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ الْآيَةَ (١).
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ ذُنُوبَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ لِيُعَيِّرَهُمْ، وَلَكِنْ ذَكَرَهَا لِيُبَيِّنَ مَوْضِعَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِئَلَّا يَيْئَسَ أَحَدٌ مِنْ رَحْمَتِهِ (٢).
وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْتَلَاهُمْ بِالذُّنُوبِ لِيَتَفَرَّدَ بِالطَّهَارَةِ وَالْعِزَّةِ، وَيَلْقَاهُ جَمِيعُ الْخُلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى انْكِسَارِ الْمَعْصِيَةِ.
وَقِيلَ: لِيَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً لِأَهْلِ الذُّنُوبِ فِي رَجَاءِ الرَّحْمَةِ وَتَرْكِ الْإِيَاسِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَقَائِقِ: الْهَمُّ هَمَّانِ: هَمُّ ثَابِتٌ، وَهُوَ إِذَا كَانَ مَعَهُ عَزْمٌ وَعَقْدٌ وَرِضًا، مِثْلُ هَمِّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَالْعَبْدُ مَأْخُوذٌ بِهِ، وَهَمٌّ عَارِضٌ وَهُوَ الْخَطْرَةُ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ وَلَا عَزْمٍ، مِثْلُ هَمِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالْعَبْدُ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَعْمَلْ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا،

(١) ليس هذا من كلام يوسف عليه السلام، بل هو من كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة، لا يرتاب فيها من تدبر القرآن، حيث قال تعالى: "وقال الملك ائتوني به، فلما جاءه الرسول، قال: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، إن ربي بكيدهن عليم. قال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء. قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم". فهذا كلام امرأة العزيز، ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر بعد إلى الملك، ولا سمع كلامه ولا رآه. ولكن لما ظهرت براءته في غيبته كما قالت امرأة العزيز: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" أي: لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته. فحينئذ "قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي، فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين". وقد قال كثير من المفسرين: إن هذا من كلام يوسف، ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول، وهو قول في غاية الفساد، ولا دليل عليه، بل الأدلة تدل على نقيضه. انظر: "دقائق التفسير" لشيخ الإسلام ابن تيمية: (٣ / ٢٧٣).
(٢) ويوسف عليه السلام لم يذكر الله تعالى عنه أنه ارتكب ذنبا، وهو سبحانه لا يذكر لنبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر استغفاره منه، ولم يذكر عن يوسف استغفارا من تلك الكلمة، كما لم يذكر عنه استغفارا من مقدمات الفاحشة، فعلم أنه لم يفعل ذنبا في هذا ولا هذا، بل إن ما فعله كان من الحسنات المبرورة والمساعي المشكورة. انظر: دقائق التفسير": (٣ / ٢٦٢، ٢٨٠).

صفحة رقم 231

وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ، مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا" (١).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْبُرْهَانِ: قَالَ قَتَادَةُ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: يَا يُوسُفُ تَعْمَلُ عَمَلَ السُّفَهَاءِ وَأَنْتَ مَكْتُوبٌ فِي الْأَنْبِيَاءِ!.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: انْفَرَجَ لَهُ سَقْفُ الْبَيْتِ فَرَأَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَاضًّا عَلَى أُصْبُعِهِ (٢).
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مُثِّلَ لَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَنَامِلِهِ (٣).
وَقَالَ السُّدِّيُّ: نُودِيَ يَا يُوسُفُ تُوَاقِعُهَا! إِنَّمَا مَثَلُكَ مَا لَمْ تُوَاقِعْهَا مَثَلُ الطَّيْرِ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ لَا يُطَاقُ، وَمَثَلُكَ إِنْ تُوَاقِعْهَا مَثَلُهُ إِذَا مَاتَ وَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَثَلُكَ مَا لَمْ تُوَاقِعْهَا مَثَلُ الثَّوْرِ الصَّعْبِ الَّذِي لَا يُطَاقُ، وَمَثَلُكَ إِنْ وَاقَعْتَهَا مَثَلُ الثَّوْرِ يَمُوتُ فَيَدْخُلُ النَّمْلُ فِي أَصْلِ قَرْنَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ قَالَ: حَلَّ سَرَاوِيلَهُ وَقَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ، فَإِذَا بِكَفٍّ قَدْ بَدَتْ بَيْنَهُمَا بِلَا مِعْصَمٍ وَلَا عَضُدٍ مَكْتُوبٍ عَلَيْهَا ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (الِانْفِطَارِ -١١)، فَقَامَ هَارِبًا وَقَامَتْ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا الرُّعْبُ عَادَتْ وَعَادَ فَظَهَرَتْ تِلْكَ الْكَفُّ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا: ﴿ولا تقربوا الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ (الْإِسْرَاءِ -٣٢) فَقَامَ هَارِبًا وَقَامَتْ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا الرُّعْبُ عَادَتْ وَعَادَ، فَظَهَرَ، وَرَأَى تِلْكَ الْكَفَّ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ (الْبَقَرَةِ -٢٨١) فَقَامَ هَارِبًا وَقَامَتْ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا الرُّعْبُ عَادَتْ وَعَادَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَدْرِكْ عَبْدِي قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ الْخَطِيئَةَ، فَانْحَطَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَاضًّا عَلَى أُصْبُعِهِ، يَقُولُ: يَا يُوسُفُ تَعْمَلُ عَمَلَ السُّفَهَاءِ وَأَنْتَ مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْأَنْبِيَاءِ (٤).
وَرُوِيَ أَنَّهُ مَسَحَهُ بِجَنَاحِهِ فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَنَامِلِهِ.

(١) أخرجه البخاري في التوحيد، باب (يريدون أن يبدلوا كلام الله) : ٨ / ١٩٨، وفي الرقاق: باب من همَّ بحسنة عن ابن عباس، ٧ / ١٧٨، ومسلم في الإيمان، باب إذا همَّ العبد بحسنة كتبت، وإذا همَّ بسيئة لم تكتب، برقم (٢٠٥) : ١ / ١١٧، من طريق عبد الرزاق بسنده لصحيفة همام بن منبه، انظر: المصنف لعبد الرزاق، كتاب الجامع: ١١ / ٢٨٧، ومن طريقه أخرجها البغوي في شرح السنة: ١٤ / ٣٣٧، ٣٣٨. وراجع: صحيفة همام بن منبه بتحقيق الدكتور رفعت فوزي ص (١٨٨-١٨٩).
(٢) انظر الروايات عنهم في: الدر المنثور: ٤ / ٥٢١-٥٢٣.
(٣) إذا خرجت منه الشهوة فإنه لا فضل له في ترك الهم بها، لو أنه حصل منه.
(٤) وهل نزلت هذه الآيات الكريمة على أحد قبل نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟.

صفحة رقم 232

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعَّبٍ الْقُرَظِيُّ: رَفَعَ يُوسُفُ رَأْسَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ حِينَ هَمَّ بِهَا فَرَأَى كِتَابًا فِي حَائِطِ الْبَيْتِ: "لا تقربوا الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا".
وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي الْبُرْهَانِ أَنَّهُ رَأَى مِثَالَ الْمَلِكِ (١).
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْبُرْهَانُ النُّبُوَّةُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي صَدْرِهِ حَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ (٢).
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: كَانَ فِي الْبَيْتِ صَنَمٌ فَقَامَتِ الْمَرْأَةُ وَسَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ، فَقَالَ لَهَا يُوسُفُ: لِمَ فَعَلْتِ هَذَا؟.
فَقَالَتِ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ أَنْ يَرَانِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
فَقَالَ يُوسُفُ: أَتَسْتَحِينَ مِمَّا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَفْقَهُ؟ فَأَنَا أَحَقُّ أَنْ أَسْتَحِيَ مِنْ رَبِّي، وَهَرَبَ (٣).

(١) انظر تخريج هذه الروايات في: الدر المنثور: ٤ / ٥٢١-٥٢٤.
(٢) وقريب من هذا القول قول من قال: إن البرهان أنه علم ما أحلَّ الله مما حرم الله، فرأى تحريم الزنى، روي عن محمد بن كعب القرظي. قال ابن قتيبة: رأى حجة الله عليه وهي البرهان. قال ابن الجوزي: في "زاد المسير": (٤ / ٢٠٩) :"وهذا هو القول الصحيح وما تقدَّمه فليس بشيء، وإنما هي أحاديث من أعمال القصاص، وقد أشرت إلى فسادها في كتاب "المغني في التفسير". وكيف يُظَنُّ بنبي لله كريم أنه يخوّف ويرعّب ويضطر إلى ترك هذه المعصية وهو مُصِرٌّ؟! وهذا غاية القبح.
(٣) قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره: (١٦ / ٤٩) بعد أن ساق تلك الروايات المختلفة المضطربة: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن همِّ يوسف وامرأة العزيز كل واحد منهما بصاحبه، لولا أن رأى يوسف برهان ربه، وذلك آية من آيات الله زجرته عن ركوب ما همَّ به يوسف من الفاحشة = وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنى = ولا حجة للعذر قاطعة بأيّ ذلك كان من أيّ. والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى، والإيمان به، وترك ما عدا ذلك إلى عالمه". وقال الشيخ الشنقيطي في "أضواء البيان": (٣ / ٦٨) :"وهذه الأقوال التي رأيت نسبتها إلى هؤلاء العلماء منقسمة إلى قسمين: قسم لم يثبت نقله عمن نقل عنه بسند صحيح، وهذا لا إشكال في سقوطه. وقسم ثبت عن بعض من ذكر. ومن ثبت عنه منهم شيء من ذلك، فالظاهر الغالب على الظن، المزاحم لليقين: أنه إنما تلقاه عن الإسرائيليات؛ لأنه لا مجال للرأي فيه، ولم يرفع منه قليل ولا كثير إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبهذا تعلم أنه لا ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف بأنه جلس بين رجلي امرأة كافرة أجنبية، يريد أن يزني بها، اعتمادا على مثل هذه الروايات مع أن في الروايات المذكورة ما تلوح عليه لوائح الكذب، كقصة الكف التي خرجت له أربع مرات، وفي ثلاث منهن لا يبالي بها، لأن ذلك -على فرض صحته- فيه أكبر زاجر لعوام الفساق، فما ظنك بخيار الأنبياء! مع أننا قدمنا دلالة القرآن على براءته من جهات متعددة، وأوضحنا أن الحقيقة لا تتعدى أحد أمرين: إما أن يكون لم يقع منه هم بها أصلا، بناء على تعليق همه على عدم رؤية البرهان، وقد رأى البرهان. وإما أن يكون همه الميل الطبيعي المزموم بالتقوى. والعلم عند الله تعالى".

صفحة رقم 233
معالم التنزيل
عرض الكتاب
المؤلف
محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي
تحقيق
محمد عبد الله النمر
الناشر
دار طيبة للنشر والتوزيع
سنة النشر
1417
الطبعة
الرابعة
عدد الأجزاء
8
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية