آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]

وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥)
تفسير المفردات
راودته على الأمر مراودة: طلبت منه فعله مع المخادعة، فالمراود يتلطف فى طلبه تلطف المخادع ويحرص عليه، وقال الراغب: المراودة أن تنازع غيرك فى الإرادة فتريد منه غير ما يريد كما قال إخوة يوسف (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته ليرسل بنيامين معنا، وهيت لك بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وضمها أي أي هلم أقبل وبادر، وقد روى أنها لغة عرب حوران، واختيرت لأنها أخص ما يؤدى المراد مع النزاهة الكاملة، ومعاذ الله: أي أعوذ وأتحصن بالله من أن أكون من الجاهلين الفاسقين، وهمت به: أي همت لتبطش به لعصيانه أمرها، وهمّ بها ليقهرها فى الدفع عما أرادته ويرد عنفها بمثله، وبرهان ربه: إما النبوة التي تلى الحكم والعلم اللذين آتاه الله إياهما بعد بلوغ الأشد، وإما مراقبة الله تعالى ورؤية ربه متجليا له ناظرا إليه كما
جاء فى الحديث فى تفسير الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
والمخلصون: هم الذين اجتباهم الله واختارهم لطاعته، واستبقا الباب:
اى تسابقا إلى الباب وقصد كل منهما سبق الآخر إليه، فهو ليخرج وهى لتمنعه من الخروج، وقدّت قميصه من دبر: أي قطعته طولا من خلف، وألفيا: أي وجدا.

صفحة رقم 128

المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه، وعلل ذلك بحسن الرجاء فيه ثم بين عنايته سبحانه به وتمهيد سبل كماله بتمكينه فى الأرض- ذكر هنا مراودة امرأته له ونظرها إليه بغير العين التي نظر بها زوجها إليه وأرادت منه غير ما أراده هو وما أراد الله من فوقهما وأعدت العدة لذلك فغلقت الأبواب فهرب منها إلى باب المخدع فقدّت قميصه من خلف ووجدا زوجها بالباب الخارجي فبادرت إلى اتهامه بالسوء إلى أن استبانت براءته.
الإيضاح
(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) أي وخادعت امرأة العزيز يوسف عن نفسه ورواغته، ليريد منها ما تريد هى منه مخالفا لإرادته وإرادة ربه، والله غالب على أمره، قال فى الكشاف: كأن المعنى خادعته عن نفسه، أي فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن شىء لا يريد إخراجه من يده وهو يحتال أن يأخذه منه، وهى عبارة عن التمحل فى مواقعته إياها اه.
(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) أي وأحكمت إغلاق باب المخدع الذي كانا فيه وباب البهو الذي يكون أمام الغرف فى بيوت العظماء وباب الدار الخارجي وربما كان هناك غيرها.
(وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي وقالت هلمّ أقبل، وزيدت كلمة (لَكَ) لبيان المخاطب كما يقولون: سقيا لك ورعيا لك، وهذا الأسلوب هو الغاية فى الاحتشام فى التعبير، وقد يكون هناك ما زادته من إغراء وتهييج مما تقتضيه الحال. وما نقل من الإسرائيليات عنها وعنه من الوقاحة فكذب، فمثل هذا لا يعلم إلا من الله أو من الرواية الصحيحة عنها أو عنه، ولا يستطيع أحد أن يدّعى ذلك.
(قالَ مَعاذَ اللَّهِ) أي أعوذ بالله عز وجل وألتجئ إليه مما تريدين منى فهو يعيذنى أن أكون من الجاهلين كما سيأتى من قوله «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ».

صفحة رقم 129

(إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) أي إنه سيدى المالك لرقبتى، قد أحسن معاملتى فى إقامتى عندك وأوصاك بإكرام مثواى، فلا أجزيه بالإحسان إساءة وأخونه فى أهله، ثم علل ما صنع بقوله:
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إنه تعالى لا يفلح الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس بخيانة وتعدّ على الأعراض لا فى الدنيا ببلوغ الإمامة والرياسة ولا فى الآخرة بالوصول إلى رضوان الله تعالى ودخول جنات النعيم.
وفى هذا إيماء إلى الاعتزاز به، والأمانة لسيده، والتعريض بخيانة امرأته، واحتقارها بما أضرم نار الغيظ فى صدرها.
(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أي ولقد همت بأن تبطش به، إذ عصى أمرها وخالف مرادها وهى سيدته وهو عبدها، وقد استذلت له بدعوته إلى نفسها بعد أن احتالت عليه بمراودته عن نفسه، وكلما ألحّت عليه ازداد عتوّا واستكبارا، معتزا عليها بالديانة والأمانة، والترفع عن الخيانة، وحفظ شرف سيده وهو سيدها، ولا علاج لهذا إلا تذليله بالانتقام، وهذا ما شرعت فى تنفيذه أو كادت بأن همت بالتنكيل به.
(وَهَمَّ بِها) لدفع صيالها عنه وقهرها بالبعد عما أرادته.
(لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي ولكنه رأى من ربه فى سريرة نفسه ما جعله يمتنع من مصاولتها واللجوء إلى الفرار منها.
والخلاصة- إن الفارق بين همها وهمه، أنها أرادت الانتقام منه شفاء لغيظها إذ فشلت فيما تريد، وأهينت بعتوه واستكباره وإبائه لما أرادت، وأراد هو الاستعداد الدفاع عن نفسه، وهمّ بها حين رأى أمارة وثوبها عليه، فكان موقفهما موقف المواثبة والاستعداد للمضاربة، ولكنه رأى من برهان ربه وعصمته ما لم تر مثله إذ ألهمه أن الفرار من هذا الموقف هو الخير الذي به تتم حكمته فيما أعده له، فاستبقا باب الدار وكان من أمرهما ما يأتى بيانه فيما بعد، هذا خلاصة رأى نقله ابن جرير وأيده الفخر الرازي وأبو بكر الباقلاني.

صفحة رقم 130

ويرى غيرهم من المفسرين أن المعنى أنها همت بفعل الفاحشة ولم يكن لها معارض ولا ممانع، وهمّ هو بمثل ذلك، ولولا أن رأى برهان ربه لاقترفها.
وقد فنّده بعض العلماء لوجوه:
(١) إن الهم لا يكون الا بفعل للهامّ، والوقاع ليس من أفعال المرأة حتى تنهم به، وإنما نصيبها منه قبوله ممن يطلبه منها بتمكينه منه.
(٢) إن يوسف لم يطلب منها هذا الفعل حتى يسمى قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه همّا لها، فالآيات قبل هذه وبعدها تبرئه من ذلك بل من وسائله ومقدماته.
(٣) إنه لو وقع ذلك لوجب أن يقال (ولقد هم بها وهمت به) لأن الهم الأول هو المقدم بالطبع وهو الهم الحقيقي والهم الثاني متوقف عليه.
(٤) إنه قد علم من هذه القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما ومصرّة عليه، فلا يصح أن يقال إنها همت به، إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه، بل الأنسب فى معنى الهمّ هو ما فسرناه به أوّلا، وذلك لإرادة تأديبه بالضرب.
وقد روواهنا أخبارا من الإسرائيليات عن تهتك المرأة وتبذلها مما لا يقع مثله من أوقح الفساق الذين تجردوا من جلابيب الحياء فضلا عمن ابتلى بالمعصية أول مرة من سليمى الفطرة الذين لم تغلبهم ثورة الشهوة الجامحة على حيائهم الفطري وحيائهم من نظر ربهم إليهم (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) أي جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف عنه دواعى ما أرادت به من السوء وما راودته عليه قبله من الفحشاء- بعصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية فى نفسه، حتى لا يخرج من جماعة المحسنين إلى جماعة الظالمين الذين ذمهم وشهد هو فى رده عليها بأنهم لا يفلحون، وقال: لنصرف عنه السوء والفحشاء، ولم يقل لنصرفه عن السوء والفحشاء، لأنه لم يعزم عليهما بل لم يتوجه إليهما فيصرف عنهما.
(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي إنه من جماعة المخلصين وهم آباؤه الذين أخلصهم بهم وصفّاهم من الشوائب وقال فيهم «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ

صفحة رقم 131

أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ».
(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي تسابقا إلى الباب ففر يوسف من أمامها هاربا إليه طالبا النجاة منها مرجحا الفرار على الدفاع الذي لا تعرف عاقبته، وتبعته هى تبغى إرجاعه حتى لا يفلت من يدها، وهى لا تدرى إذا هو خرج إلى أين يذهب، ولا ماذا يقول ولا ما يفعل؟ لكنها أدركته.
(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) أي جذبته من ردائه وشدت قميصه فانقدّ.
(وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) أي وجدا زوجها عند الباب، وقد كان النساء فى مصر يلقبن الزوج بالسيد، ولم يقل سيدهما لأن استرقاق يوسف غير شرعى، وهذا كلام ربه العليم بأمره، لا كلام من استرقّه.
(قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وحينئذ خرجت مما هى فيه بمكرها وكيدها، وقالت لزوجها متنصلة من جرمها وقاذفة يوسف:
ما جزاء من أراد بأهلك شيئا يسوءك صغيرا كان أو كبيرا إلا سجن يعاقب به، أو عذاب مؤلم موجع يؤد به ويلزمه الطاعة.
قال الرازي: وفى هذا القول ضروب من الحيل.
(١) إيهام زوجها أن يوسف قد اعتدى عليها بما يسوءها ويسوءه.
(٢) إنها لم تصرح بجرمه حتى لا يشتد غضبه ويقسو فى عقابه. كأن يبيعه أو يقصيه عن الدار، وذلك غير ما تريد.
(٣) إنها هددت يوسف وأنذرته بما يعلم منه أن أمره بيدها ليخضع لها ويطيعها.
(٤) إنها قالت. إلا أن يسجن والمراد منه أن يسجن يوما أو أقل على سبيل التخويف فحسب، أما الحبس الدائم فكان يقال فيه: (يجب أن يجعل من المسجونين) ألا ترى أن فرعون حين هدد موسى قال (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).

صفحة رقم 132
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية