آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍ

بل أوقع في قلوبهم أنه صار بحكم الميت وأن حجتهم التي احتجوا بها لأبيهم تمت لئلا يظهر كذبهم لأمر أراده الله، ولا يكون إلا ما أراده، وقد اشتمل عمل أولاد يعقوب بأخيهم على عدة جرائم: ١- قطيعة الرحم ٢- وعقوق الوالد ٣- وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له ٤- والغدر بالأمانة ٥- وترك الوفاء بالعهد ٦- والكذب ٧- وبيع الحر ٨- والافتراء بأنه عبد أبق منهم ٩ وقصد القتل دون جرم ١٠- واجتماعهم على هذه الخصال التي كل واحدة منها موجبة لغضب الله فضلا عن كذبهم على أبيهم فيما أخبروه به، ومع هذا فإن الله واسع الرحمة عفا عنهم وشرفهم بالنبوة وبارك في ذريتهم وجعل فيها الملك والنبوة، وذلك لصلاح والدهم وعفوه عنهم واستغفاره لهم واستغفار أخيهم لهم وعفوه عنهم حال القدرة، فصلاح الوالدين نافع بالدنيا والآخرة
قال تعالى (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية ٢٠ من الطور وبمعناها الآية من سورة المؤمن والآية ١٤١ من سورة الكهف الآتيات، ألا فلا يقنط أحد أو بيأس من رحمة الله ولو عمل ما عمل إذا تاب وأصلح ورد المظالم لأهلها، راجع ما قدمناه في الآية ٧٠ من سورة الفرقان ج ١ وهذا من عظيم فضل الله الذي ألمعنا إليه في الآية ١٢ من سورة القصص وقرىء يا بشراي أي على إضافة البشرى لنفسه، أو على كونه اسم غلام عنده، وبعضهم أعاد ضمير (وَشَرَوْهُ) إلى مالك المذكور وبعض رفاقه من السيارة، أي خبأوه وجعلوه بضاعة ليبيعوه ويختصوا بثمنه دون بقية السيارة، وبعضهم فسر (شَرَوْهُ) بباعوه، وما مشبنا عليه أوفق لظاهر القرآن وأنسب للمعنى. قال تعالى «وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ» بعد وصوله إليها واسمه قطفير ويلقب بالعزيز «لِامْرَأَتِهِ» زليخا بنت يمليخا وقيل راعيل بنت رعابيل، ومقول القول «أَكْرِمِي مَثْواهُ» إقامته عندك وقدمي له أحسن الطعام والشراب واكسيه أفخر الحلل وا أمري له بألين الفراش لأن فراستي فيه عظيمة ونحن ليس لنا ولد «عَسى أَنْ يَنْفَعَنا» في مصالحنا أو نربح به إذا أردنا بيعه «أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» إذا تبين لنا صلاحه، وكان لا يولد لها وذلك لما رأى من سيماه وأخلاقه وما هو عليه من الحسن والأدب، قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف، وابنة شعيب في موسى،

صفحة رقم 187

وأبو بكر في عمر حين استخلفه على الأمة عند موته رضي الله عنه «وَكَذلِكَ» مثل ما أنجينا يوسف من القتل وأخرجناه من البئر وعطفنا عليه قلب العزيز «مَكَّنَّا» جعلنا قرارا ومكانة ومقاما عظيما كريما «لِيُوسُفَ» الصديق الصابر «فِي الْأَرْضِ» من مصر تمكينا ثابتا، وجعلنا له فيها منزلة راسخة عليه عند عزيزها حتى إنه أمر امرأته بإكرامه وعلمها بكرامته عليه دون سائر حاشيته وغرسنا حبه في قلبه وقلب زوجته حتى صار مقربا عندهما على غيره من الخدم وصارا ينظران إليه بصفة ولد «وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» بغير الرؤيا التي هي السبب في خلاصه ممّا سيبتلى به من السجن وبراءته مما يتهم به، ونملكه على مصر، إذ أن الملك سيفوضه بكل شيء ويقيمه مقامه كما سيأتي «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ» الذي شاءه ليوسف عليه السلام، وهو المتولي عليه لا يكله إلى غيره حتى يبلغ منتهاه من الدارين، وهو الذي يفعل ما يشاء له ولغيره، ويفعل ما يريد لا رافع لأمره ولا راد لقضاه، ولا يغلبه غالب، وهو الذي يبلغه ما قدره له في علمه ويخلصه مما يبتلى به، وأعاد بعض المفسرين ضمير أمره إلى يوسف، ولا مندوحة فيه، لأنه غالب على أمر يوسف وغيره وكافة خلقه «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ٢١» صنع الله في يوسف وما يراد منه أن يكون، وعلم ذلك منوط به وحده، «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ» تقدم معنى الأشد في الآية ٢١٢ من سورة القصص في ج ١ «آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» يقضي به بين الناس بحسب شريعة آبائه لا بمقتضى ما يراه من ملكه لأن الأنبياء يلهمون خلقة من حين الولادة، فضلا عن أنه عليه السلام نبىء بالبئر كما مر وهو في الثامنة عشرة من عمره، وأدخل في السجن وهو أبن ثلاث وثلاثين، كما نبىء عيسى بالمهد ويحيي في السابعة من عمره، راجع الآيتين ٤١ من سورة مريم، و ١ من سورة طه في ج ١، فالنبوة سابقة لهذا، وما قيل إنه حين ألقي بالجب كان عمره عشر سنين ضعيف إذ يكون بقاءه في الجب ثماني سنين، ولم يقل به أحد، وقيل إن المراد بالحكم هنا الحكمة، وهي في لسان الشرع العلم النافع المؤيد بالعمل، لان العلم بدون العمل لا يعتدّ به، والعمل بخلاف العلم سفه، والمراد بالعلم هنا تأويل الرؤيا، والأولى أن يؤول الحكم

صفحة رقم 188

على ما جرينا عليه كما عليه أكثر المفسرين، والمراد بالعلم الفقه بالدين لأنه عليه السلام كان يرجع إليه جل أهل مصر في أمورهم، حتى إن العزيز صار يحيل من يأتي إليه ليتحاكم مع خصمه إلى يوسف لما رأى من حدة عقله وإصابة رأيه، لهذا فإن ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما إن المراد بالحكم هنا النبوة وبالعلم الشريعة وجيه أما القول برسالته فلا، لأنه أرسل بالسجن، وكذلك القول بأنه أعطي شريعة خاصة أو أنزل عليه كتاب، وهذا يقال
إذا كان هناك نص صريح يستند إليه، وليس فليس، «وَكَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ٢٢» في هذه الدنيا الصابرين على النوائب أمثال يوسف عليه السلام، وفي الآية إعلام بأنه كان محسنا في أعماله متقنا مسالك التقوى والورع في عنفوان شبابه، ومن هنا قال الحسن من أحسن عبادة الله تعالى في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله، قال تعالى «وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها» خادعته ودعته لنفسها وطلبت منه أن يواقعها، والمراودة مفاعلة من راد يرود، إذا جاء وذهب «عَنْ نَفْسِهِ» الطاهرة الزكية وجيء بعن بدل من دلالة على أن السيدة زليخا زوجة العزيز نازعته في ذلك لما هو عليه من حسن الأدب والصورة، بأن صارت تطلب منه الفعل وهو يطلب الترك، كما تقول جاذبته عن كذا، لأن عن، تدل على البعد، فكأنها تجذبه لنفسها جذبا بالغا وهو يتباعد عنها تباعدا مقصودا. وهذا إعلام بكمال نزاهته وإظهار عفته، لأن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لحسنها وقربه منها مثبت لذلك، وأن استعصاءه عليها مع كونه تحت يدها يؤذن بأنه في أعلى معارج العفّة ويعلن أنه بأسنى درجات النزاهة، كيف لا وقد شرفه الله بالنبوة وزاده عليها الحكم بين الناس وتعبير الرؤيا؟ ولما رأت عدم رغبته بما طلبته ناشىء عن أمر قلبي كرهه في تنفيذ طلبها غضبت عليه، وجرته لداخل الدار «وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ» عليه، واعلم أن تضعيف الفعل يدل على التكثير، أي أنه ليس بابا واحدا بل أبواب كثيرة، قالوا إنها سبعة، واحد داخل الآخر والتفتت إليه «وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ» تعالى أقبل إلي، فقد هيئت لك، وهي لغة حوارن إذ ذاك، أي هلم أفعل ما آمرك به، وفيها معنى الحث على الفعل، وقيل إن هيت بالعبرانية. بمعنى تعال فعرّبت

صفحة رقم 189

إلى هيت لك، أو أنها في الأصل كلمة عربية وافقت العبرانية كما وافقت لغة العرب لغة الروم في القسطاس، ولغة العرب لغة الفرس بالتنور، ولغة العرب لغة الترك في الغسّاق، ولغة العرب لعة الحبشة في ناشئة الليل من باب توارد اللغات، وقد مر لك تحقيق هذا وغيره من الكلمات المقول فيها أنها أجنبية مفصلا في الآية ١٨٢ من سورة الشعراء في ج ١، وقرىء هيئت لك بالهمز، أي تهيأت، وهو اسم فعل مبني على الفتح كأين، وما قيل إنها سريانية أو قبطية أقوال لا مستند لها إلا استعمالها، وإن استعمالها في اللغات الأخرى لا يدل على أنها منها دلالة قطعية، لأن اللغات متداخلة بعضها في بعض، والأحسن أن يقال عربية استعملها الغير كما أوضحناه هناك. ولما سمع عليه السلام منها ذلك ورأى عزمها عليه من حالها وتعليق الأبواب عليه ولا محل للهرب منها، صدّ عنها وولاها ظهره وصارحها بقوله «قالَ مَعاذَ اللَّهِ» اعتصم به وألجأ إليه ممّا دعوتني إليه وتريدينه مني «إِنَّهُ» زوجك العزيز «رَبِّي» ربّاني تربية حسنة وأكرمني و «أَحْسَنَ مَثْوايَ» عنده وأمرك بإكرامي، وقد عظمت منزلتي عنده وجلّ مقامي لديه وفوضني القضاء بين الناس قصدا لعلو شأني عندهم، وأنت زوجته ولك من الحق عليّ مثل ما له، فإن خنته فيك فأنا ظالم من وجهين لإقدامي على ما هو محرم وخيانتي لمن له فضل علي لأني عشت بنعمته «إِنَّهُ» أستعيذ به وألجأ إليه هو الله ربي وربك ورب العالم أجمع «لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ٢٣» عنده ولا يفرزون بالنجاح لديه والزناة يؤوبون إليه بخسران سعادة الدنيا والآخرة. وهذا منه عليه السلام اجتناب ما وراءه اجتناب وامتناع ما بعده امتناع، لأنه قد علله من جهات أولا أنه منكر فاحش يجب أن يعاذ منه بالله ويلجأ إليه بالخلاص من قربانه لما علم بتعليم الله إياه من قبحة وسوء عاقبته، ثانيا أن زوجها سيده وقد أحسن إليه وأوصاها بإكرامه فكيف يمكن أن يسيء إليه بالخيانة، وهو سبب ظاهري ذكره لها علّه أن يؤثر فيها وتتأثر منه فتردع وتزجر نفسها مما سولت لها به، ثالثا أن من يفعل هذا الفعل الخبيث يكون ظالما محروم الظفر بالبغية الطيبة والسعادة ورفاه العيش في الدنيا والآخرة. وأن إجابة طلبها في غاية الخسة ونهاية الرذالة تجاه من يتعاهده بالخير ويعطف عليه، وكل هذا

صفحة رقم 190

لم يؤثر فيها لما داخل قلبها من حبه، فأدركته وأقبلت عليه وحرّضته وحذّرته، فلم يفعل وأكد لها
إعراضه، ووعظها بما أوتيه من فصاحة في اللفظ وبلاغة في المعنى وشدة في الخطاب، وهي عن ذلك بمعزل، فرمت نفسها إليه وعكفت بكلها عليه وهذا مغزى قوله تعالى «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ» عزمت عزما شديدا عليه إلّا أن يفعل وقربت نفسها منه، وهو يدافعها ولم ينجع بها الوعظ ولا غيره، إذ لم يبق عندها المزجر مسمع ولا للتحذير من سوء العاقبة مطمع، وهنا يحسن الوقف ثم الابتداء بقوله تعالى «وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» وهو النبوة الجليلة، فلولاها ولولا حصول العصمة بها شأن كل نبي لهمّ بها وقاربها، مثل الهم والقربان الله الذي فعلتهما هي، ولكن عهد إليه بالنبوة حال دون ذلك. وقال السيد محمد رشيد رضا في تفسيره المنسوب إلى محمد عبده: أرادت قتله حين امتنع من إجابة طلبها وهو أراد قتلها ليتخلص مما دعته إليه، ولكن القتل أمر عظيم حال دونه مقام النبوة التي تتباعد عن كل مخالفة لما نهى الله. وهو رأي جيد إلا أنه لم يقل به أحد من المفسرين، مع أن الهم قد يأتي بمعنى القتل.
مطلب خلاصة القول بالهم وبطلان أقوال من قال به والشهادات على براءة يوسف عليه السلام:
هذا وكان الهم منه هم الطباع مع الامتناع لا كهمها هي الذي هو هم السباع المقصود منه إجراء الفعل، ولو كان كذلك وحاشاه من ذلك لما مدحه الله عليه بآخر هذه الآية بقوله (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) وقيل إنه قصدها بخاطره قصدا غير مختار، وهو من دواعي القلب ولا صنع للعبد فيما يخطر في قلبه، ولا مؤاخذة عليه بل يثاب عليه ويكتب له به حسنات كثيرة، ومن سماء ذنبا فهو بالنسبة لمقامه لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وإلا فالهم الحقيقي منتف في حقه عليه السلام بنص قوله تعالى (لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) وفيه كفاية، ويفهم مما تقدم أن هم النفس لا يؤاخذ عليه البشر مطلقا كما بيناه في الآية ٨٤ من القصص في ج ١، وله صلة في الآية ٢٥٤ من البقرة في ج ٣، وقال إذا وطنت النفس على الهم فهو سيئة وإلا فلا، والقول الحق إن مطلق الهم لم يقع منه، ولم يجل بخاطره، ولم تحدثه

صفحة رقم 191

به نفسه البتة، وحاشا أن تتوطن نفس السيد يوسف على مثل ذلك الهم، وأنى لها ذلك وهي مقدسة في جسد طاهر شريف عصمه الله تعالى من كل شائبة. ومن هنا تعلم سخافة قول من قال إن الشيطان جرى بينهما حتى أخذ بجيده وجيدها وجمع بينهما، وأنى للشيطان من مقاربة من تكفل الله بعصمته بقوله (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) الآية ٤٣ من سورة الحجر الآتية، وقال تعالى حكاية عن إبليس (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الآية ٤١ منها أيضا، وشناعة قول القائل إنه عليه السلام وحاشاه جلس منها مجلس الخائن، وقباحة قول الآخر بأنه حل سراويله وصار يعالج ثيابه، كأن هذين الخبيثين كانا ثالثهما والشيطان حاضرين معهما، قاتلهم الله، وكذب من قال أن البرهان المذكور في الآية هو أنه لما أراد مقاربتها رأى كفا مكتوبا عليه (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) الآية ١٠ فما بعدها من سورة الانفطار الآتية التي كانت في علم الله الأزلي الذي لم يطلع عليه أحد غيره، ولم يعلم بها جبريل مع قربه من ربه، لأنه لا يعلم ما في القرآن، وحتى القرآن لا يعلم ما هو إلا بعد نزوله ووضعه في بيت العزة، فمن أين يا ترى رأوا ذلك الكف فإن كان كما يقول فهو كاذب، وإن كان غيره فلا صحة له. قال فلما رأى ذلك ولى هاربا ثم عاد فرأى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا) الآية ٣٢ من الإسراء المارة في ج ١، قال فلم ينجع به، ثم رأى الآية ٢٨٤ من سورة البقرة في ج ٣ وهي (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) على ذلك الكف أيضا، ثم انفرج سقف البيت فرأى يعقوب عاضّا على إصبعه يقول له أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء، وأن جبريل ضربه بصدر الذي فخرجت شهوته من أنامله، وأقوال أخر يأبى القلم كتابتها ويندى الجبين من ذكرها، ويستحي الجاهل من سماعها فضلا عن قبولها، وباليته استشهد بشيء مما نزل على إبراهيم فمن قبله من الأنبياء، لأن هذه الآيات بلفظها نزلت في القرآن العظيم بعد يوسف بقرون كثيرة، واختلاق القائل أقاله الله من رحمته بأنه حل سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية وأنه سمع صوتا يقول إياك وإياها مرتين، وصوتا ثالثا اعرض عنها، فلم ينجع به، فهذه كلها أقوال واهية باطلة منكرة لا نصيب لها من الصحة،

صفحة رقم 192

ونسبة بعضها إلى ابن عباس وغيره من خيار الناس افتراء محض وافك خالص وبهت مختلق وكذب مدبر، وحاشاهم من هذه التهم التي لا تقع من أدنى الناس، وقد ألصقها بهم من لا خلاق له في الآخرة، قصد توجيه أنظار الناس إليها للأخذ بها والتصدي لكرامة الأنبياء المعصومين من النقائص المادية والمعنوية، قاتل الله الأفاكين المنافقين، فانظر أيها العاقل حماك الله أن هذه الآيات التي يزعمونها ظهرت إلى السيد يوسف عليه السلام، ولم يرتدع بها لو وقعت لأكبر زنديق وأفسق فاسق وأشقى شقي وأفجر فاجر وأدنى دنيء وأعصى العصاة وأعتى العتاة وأبغى البغاة وأطغى الطغاة لا نكف عن ذلك الفعل، فكيف يتصور أن يتصور رؤية ذلك كله من قبل السيد يوسف ولم يرتدع وهو نبي الله معصوم بعصمته محفوظ بوقايته؟! واعلم أن مما يفتد هذه الأقوال ويكذبها عدم إسنادها لنقل صحيح أو
نص صريح من آية أو حديث. وهاك الشهادات الواقعة ببراءته عليه السلام من الآيات:
أولا شهادة المرأة نفسها كما حكى الله تعالى عنها بقوله (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) وقوله تعالى (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي في قوله بريء مما عزي إليه. وثانيا شهادة زوجها فيما حكى الله عنه في قوله (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) الأمر لا تتكلم به ولا تحدث أحدا فيه، فإني عالم ببراءتك. ثم نظر إليها بغضب وقال (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) بادعائك على يوسف وإسنادك الفعل إليه.
ثالثا شهادة الولد كما حكى الله عنه بقوله (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) إلخ (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ). رابعا شهادة يوسف عليه السلام بقوله كما ذكر الله عنه (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) وهو لا ينطق عن هوى لاعتصامه بالنبوة الكاملة المبرأة من كل عيب، وقوله (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ). خامسا شهادة الله تعالى ذاته بقوله عز قوله (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ومن أصدق من الله قيلا، ومن أصدق من الله حديثا، فتنبه رعاك الله، أبعد هذه الشهادات القاطعة يجترىء أحد على مس كرامته عليه السلام، إلا من

صفحة رقم 193

أعمى الله بصره وأعمه بصيرته، ومن ناصب العداء لأولياء الله؟ هذا، أما ما حكاه الله عنه في قوله (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) أي ما أبرىء نفسي من مجرّد الهم النفسي ليس إلّا، على أنه يحتمل أن لا يكون هم نفسي أصلا، وإنما قال ما قال على طريق التواضع والاعتراف بمخالفة النفس لقولها. أما عدم ضربها لدفعها عما همّت به كما يقول بعض المنهوكين فهو لحكمة أرادها الله، ولأنه أوّلا لا يجسر عليها لأنها سيدته بحسب الظاهر وهو تحت تربيتها ونعمتها وإسارتها أيضا، لأن سيدها اشتراه كالعبد، ثانيا لأنه لو ضربها لتسببت في قتله وادعت أنه ضربها لعدم انقيادها له، ثالثا لو دافعها فعلا باليد لمزقت ثيابه من قدام فيكون دللا على اقدامه بخلاف تمزيق ثيابه من خلف لأنه دليل على هروبه وتوليه عنها وتعلقها به مع نفوره منها.
هذا، ومن قال إن البرهان هو الآيات التي رآها ورؤيته إباه على الصورة المذكورة، أو أنه صنمها الذي قامت إليه وسترته لئلا يطلع عليها وغير ذلك مما بمجّه القلب، فقد مال عن الحق وتاه عن الرشد وضل الطريق القويم وعدل عن الصراط المستقيم وما البرهان إلا ما ذكرناه وهو مقام النبوة الشريفة التي هي حجة الله وبرهانه، وآيته في تحريم الزنى، والعلم بما يستحقه الزاني من العقاب الدنيوي والأخروي.
قالوا وحينما أدخلته الدار الداخلة ضمن دور سبعة وهو لا يعلم ماذا تريد به منه وإنما طاوعها على الدخول لأنه منقاد لأمرها كسائر الخدم، إذ لا يستطيع أحد أن يخالف أمرها، ولما رأى أنها غلّقت الأبواب أي ردتها دون ان تنفلها بالغال ليتم مراد الله بطهارة السيد يوسف، وكلفته بالفعل، امتنع ونفر إلى الباب الأول فنفذ منه، فتبعته فهرب إلى الثاني، وهكذا هو يهرب وهي تتابعه وتجذبه لجانبها وهو يزداد نفورا، حتى خرجا إلى صحن الدار، وكان ما كان عند باب الدار كما سيأتي.
هذا وإن نفوس الأنبياء مطهرة من كل خلق ذميم وفعل رذيل وسوء أدب، ومجبولة على الأخلاق الطاهرة والآداب السامية والأفعال المقدسة والأقوال العالية، وبعض هذا يحجزهم عن فعل ما لا يليق، بل عن قربانه، فظهر من هذا ان كل ما نقل عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهم أو عن غيرهما من أعلام الإسلام بهت صرف لا ظل له من الحقيقة، وحاشاهم أن يقدموا على أقوال هكذا، ولا سيما

صفحة رقم 194

بحق خلص عباد الله تعالى، ولا قصد لهؤلاء اللاصقين هذه الأقوال بهم إلا تقوية حججهم ليأخذ الناس بها، لأنها منسوبة إلى أولئك الأعلام، فينقلونها للخاص والعام كي يصدقوها، ولكن من عنده لمعة من عقل أو ذرة من دين يأنف سماعها فضلا عن نقلها، والقول بها هذا. واعلم أن الهم نوعان هم ثابت مع عزم وقصد وعقيدة ورضى مثل هم امرأة العزيز، ومثل هم عمرو بن صابىء الرجمي في قوله:

هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
فهذا النوع يؤاخذ به العبد، ولهذا لمّا أقرّ قائل هذا البيت به أمام الحجاج قتله، وقتله له افراط وتفريط كسائر أفعاله، عليه ما يستحق من الله، لأن مجرد قول هذا البيت لا يستوجب القتل بل التأديب، وهمّ عارض وهو ما يخطر بالقلب أو تحدث به النفس من غير اختيار ولا عزم ولا نية ولا رضى ولا عقيدة كهمّ يوسف عليه السلام، فالعبد ليس مؤاخذ به ما لم يتكلم أو يعمل، يؤيد هذا ما روي عن أبي هريرة ان رسول الله ﷺ قال: يقول الله تبارك وتعالى إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة ولم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له عشرا. هذا لفظ مسلم، وللبخاري بمعناه، على أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم البتّة كما مشينا عليه من تفسير الآية، ولأن الله تعالى لم يحك عنه شيئا كما حكى عن آدم عليه السلام في قوله (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الآية ٢٣ من سورة البقرة ج ٣، وعن داود عليه السلام في قوله (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) الآية ٢٤ من سورة ص في ج ١، وعن موسى عليه السلام في قوله (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) الآية ٢٦ من القصص المارة في ج ١، وعن سليمان عليه السلام في قوله (رَبِّ اغْفِرْ لِي) الآية ٢٦ من سورة ص أيضا، إلى آخر ما جاء عنهم عليهم السلام كنوح وذي النون وغيرهم، فيظهر من هذا أنه براء مما نسب إليه من الهم المطلق لأنه لو وقع منه لأتبعه بالتوبة والاستغفار كإخوانه الأنبياء عليهم السلام، ومن هنا يعلم عدم صدور شيء منه البتة، وما قيل إن هذه الحادثة قبل نبوته مردود لما تقدم أن الله تبارك وتعالى نبأه في البئر، وينافيه سياق الآية، وسياق إتيانه النبوة على هذه الحادثة يرده أيضا، وإن

صفحة رقم 195

ما جرينا عليه مأخوذ من أقوال السلف الصالح كجعفر الصادق وغيره من كبار المحققين، والآية على حد قوله تعالى (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) الآية ١٠ من القصص المارة في ج ١، وعلى هذا يكون معنى الآية لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها واللام ليست بواجبة في جواب لولا إذا كانت بصيغة الماضي كما هنا، فيأتي باللام وبدونها يقال لولا زيد لأكرمتك، فحيث وجد البرهان انتفى الهم، كما أن وجود زيد في المثالين ينفي الإكرام.
مطلب في لولا والسبب في نقل ما فيه وهم يوسف عليه السلام والأحاديث الموضوعة:
ولولا حرف امتناع لوجود، تقول لولا علي لهلك عمر، ولولا عصمة الله لقارفت الذنب، أي امتنعت مقارفة الذنب لوجود العصمة. وهنا امتنع الهم المزعوم لوجود البرهان، قال السيد محمود الآلوسي رحمه الله في تفسيره روح البيان بعد الأخذ والرد: نقول للجهلة الذين نسبوا تلك الفعلة الشنيعة إلى يوسف عليه السلام إن كانوا من اتباع الله فليقبلوا شهادته على طهارته- يريد بعض ما ذكرنا من الشهادات الخمس التي ذكرناها آنفا- وإن كانوا من اتباع إبليس فليقبلوا شهادته، يريد ما ذكرناه أيضا، وقوله (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وإذا كان هؤلاء السفلة زادوا على إبليس كما قال الحريري:

وكنت امرأ من جند إبليس فانتهى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فذاك أمر آخر، فعلم مما مرّ أن ما نقله الواحدي واضرابه من هذه الشبهات الشائنة والشوائب السافلة مصدره القصص والحكايات وكتب أهل الكتاب المحرّفة، أما الصحيح منها فمبرا من ذلك، وقد تصلّف بعض القائلين لهذه الأقوال فقال إن ما ذكرناه نقلناه عن الذين أخذوا التأويل ممن شاهدوا التنزيل، وهو لعمري غير صحيح، وإنما هو من قال وقيل، وان بعض المفسرين الذين اغتروا بما وجدوه من تلك الأقوال الواهية المدونة في كتب غير معتبرة ونقلوها كما وجدوها، ولم ينظروا إلى الأقوال الواردة في تفنيدها، ولم يلقوا لها بالا، كما وقع للإمام

صفحة رقم 196

السيوطي وبعض علماء الحديث إذ نقلوا أحاديث موضوعة لا أصل لها وأثبتوها في كتبهم بناء على سلامة طويتهم وظنهم أن أحدا لا يختار الكذب على حضرة الرسول كما ظن آدم عليه السلام أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، فصدق إبليس في قسمه كما حكى الله عنه في قوله (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) الآية ٢١ من الأعراف المارة في ج ١، ومن هذا القبيل الإمام البيضاوي رحمه الله مع جلالة قدره نقل مائة وأربعة عشر حديثا وأثبتها في أواخر سور القرآن من تفسيره، مع أنها جلها موضوعة، ولا يقال لمثله إنه جاهل بمعرفة الأحاديث، ولكنه نقلها كما رآها عن حسن نية، تجاوز الله عنه وسامحه، وهو نقلها تبعا للثعلبي، وكذلك مفتي الثقلين أبو السعود وجار الله الزمخشري ذكراها على ما هما عليه من العلم الواسع والفضل العميم، وهي في الحقيقة من وضع بعض المتعبدين الجملة الذين يزعمون أن في ذلك قربة، مع أنها فرية عظيمة جرت على ألسنة العوام وتداولوها بينهم حتى الآن، ويسندونها بأقوالهم لحضرة الرسول وهو منها براء، راجع بحث الحديث الموضوع في حاشية لقط الدرر على متن نخبة الفكر للإمام ابن حجر رحمه الله تجد ملاك هذا البحث بما يقنعك أنها مكذوبة على حضرة الرسول ولا يجوز نقلها، تدبر. قال تعالى معلنا براءة يوسف عليه السلام والثناء عليه بموقفه الذي وقفه أمام سيدته بقوله عز قوله «كَذلِكَ» مثل هذا التثبت ثبتناه حتى عن الهمّ بالسّوء «لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ» أي جنسه وحقيقته بما يشمل الخيانة وغيرها «وَالْفَحْشاءَ» اي الزنى القبيح نصرفه عنه أيضا «إِنَّهُ» السيد يوسف عبدنا ونبينا «مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ٢٤» الذين اخترناهم لعبادتنا وخلافتنا في أرضنا، وفي هذه الجملة معنى التعليل أي صرفنا عنه ذلك لكونه من خلص عبادنا. هذا على القراء بفتح اللام وعلى كسرها يكون معناه الذين أخلصوا لنا فأطاعونا كما أردنا فحفظناهم مما لا نريد وعصمناهم مما يشين، وفي هذه الآية عند من له لب أو ألقى السمع للحق ما ينقطع معه عذر أولئك المتشبثين بأذيال هاتيك الأخبار التي ما أنزل بها من سلطان، ولم يقل بها أحد من أهل الشان، وأن ما زعموه من إلصاقها ببعض الرجال زور وخال عن البرهان، وما لهم عليه من بيان، اللهم إلا اتباع الظن وما تهوى الأنفس، راجع الآية ٢٢

صفحة رقم 197

من سورة والنجم في ج ١، ومما يؤذن في براءته قوله جل قوله «وَاسْتَبَقَا الْبابَ» هو هربا منها وخلاصا مما تريده، وهي لحاقا به وطلبا له لئلا يفلت من يدها وتفلس مما أرادته عليه، فأدركته فأمسكت قميصه من الخلف وجذبته بشدة لئلا يخرج من الباب وهو جبذ نفسه إلى الأمام ليخرج منه، فلو كان هناك بعض الهم لما وقع منه هذا «وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ» بسبب تلك المجاذبة القوية لأن كلّا منهما بذل غاية قوته فيها، فاجتماع القوتين سبب القدّ، إذ لو تراخى أحدهما لما وقع، وهناك في هذه الحالة صادقا «وَأَلْفَيا سَيِّدَها» أي زوجها لأن العادة في ذلك الزمن تدعو الزوجة زوجها بسيدها، وأهل دمشق الأول كانوا كذلك، وحتى الآن لهم بقية تسمي الزوج سيدا، ولم يقل تعالى سيدهما لأن يوسف عليه السلام لم يكن مملوكا حقيقة للعزيز، لأنه حرّ لا يملك فضلا عن أنه نبي كريم «لَدَى الْبابِ» رأياه مقبلا نحوه يباشر فتحه ليدخل، وهذه صدقة لم تتوقعها زليخا وإنها كما غفلت عن تسكير الأبواب على يوسف بالغال غفلت عن إغلاق باب الدار، فهابت زوجها وخافت التهمة، واحتالت لتبرىء ساحتها عنده، وسبقت يوسف بالكلام «قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً» تريد زنى، ثم أنها لشدة حبها بيوسف خافت عليه أن يقتله زوجها لهذه
التهمة وتحرم مما هي طامعة فيه منه ومؤملة صدوره ولو بعد حين، فبادرت زوجها قبل أن يتكلم وقالت ليس جزاؤه القتل إذ لم يقع منه فعل ولا جزاء له على المراودة «إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ ٢٥» بأن يضرب ضربا مبرّحا ولم تذكر اسم يوسف بذلك، بل قصدت العموم أي كل من أراد ذلك بأهلك حقه أن يفعل به هكذا، لأنه أبلغ فيما قصدت من تخويفه طعما في أن يوافقها على ما تريده منه ولم تقدر أن تستخدم كلامها بأكثر من ذلك لحراجة الموقف، وإلا فهي لا تريد أن تصم يوسف بشيء أصلا لأنها لم تقطع أملها منه «قال يوسف عليه السلام مدافعا عن نفسه لأنها وصمته أولا، ولو سكتت لما كشف أمرها، ولكنها لما قالت ما قالت ولطخت عرضه بمواجهة سيدها وهو بريء فاضطر إلى إزالة التهمة عنه ولم يثنه الخوف فخاطب سيدها بما ذكر الله عنه قال «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي»

صفحة رقم 198

وأنا لم أرد بها سوءا فالحت علي فأبيت وضايقتني بتغليق الأبواب، فهربت فلحقتني واجتذبتني من الوراء وجذبت نفسي إلى الامام للتخلص منها فأخرج إلى الطريق فقدّ قميصي بسبب تجاذب القوتين كما ترى، فأمعن نظره في كلامها فلم يعرف أيهما أصدق بسائق الميل إلى زوجته، وهناك جاء ابن عم زوجته.
مطلب من تكلم في المهد وكيد النساء والحذر من مخالطتهن:
قالوا وكان رجلا حكيما وهو المعني بقوله تعالى «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها» وقيل إنه ابن خالها أو أختها وعلى كل فالمراد به أنه رجل كبير ذو رأي سديد وهناك قول آخر مشى عليه أكثر المفسرين بأنه طفل في المهد من أقاربها استدلالا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال تكلم في المهد أربعة وهم صغار ابن ماشطة ابنة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريح وعيسى بن مريم. قال الطيبي وهذا الحديث ذكره البغوي بلا سند، فلا يعتمد عليه، ومما يؤيد عدم اعتماده دلالة الحصر في حديث الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة:
عيسى بن مريم وصاحب جريح وصي كان يرضع من أمه فمر راكب حسن الهيئة فقالت أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الصبي الثدي وقال اللهم لا تجعلني مثله، وردّه الجلال السيوطي فقال هذا منه أي من الطيي على جاري عادته من عدم الاطلاع على طرق الأحاديث، والحديث المتقدم صحيح على شرط الشيخين، أخرجه أحمد في مسنده، وابن حيان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وصححه من حديث بن عباس، ورواه الحاكم من حديث أبي هريرة وقال صحيح على شرط الشيخين، وفي حديث الصحيحين المشار إليه آنفا زيادة على الأربعة وهي الصبي الذي يرضع من أمه المذكور فصاروا خمسة، وهم أكثر من ذلك، ففي صحيح مسلم رحمه الله تكلم الطفل في قصة أصحاب الأخدود كما تقدم في سورة البروج في ج ١، وفي الآية ١٣ فما بعدها من سورة ص في ج ١ أيضا، وقد جمع الألوسي من تكلم في المهد فبلغوا أحد عشر صبيا وبينهم بقوله:

صفحة رقم 199

تكلم في المهد النبي محمد ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبري جريح ثم شاهد يوسف وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مر بالأمة التي يقال لها تزني ولا تتكلم
وما شطة في عهد فرعون طفلها وفي زمن الهادي المبارك يختم
وقيل إن الطيبي لم يرد الطعن بالحديث المذكور وإنما أراد أن يبين الحديث الدال على الحصر وغيره تعارضا يحتاج إلى التوفيق والله أعلم. وما قيل إن الشاهد هو القميص المقدود ليس بشيء كما لا يخفى، وقد جعل الله تعالى الشاهد من أهلها على كلا القولين أي كبيرا كان أو صغيرا ليكون أدل على نزاهته عليه السلام وأنفى للتهمة وألزم لها، فإذا كان كبيرا تكون شهادته بمثابة الحكم أي حكم حاكم من أهلها، وإذا كان صغيرا وقد أنطقه الله الذي أنطق كل شيء فذكر كونه من أهلها لبيان الواقع لأن شهادة الصبي حجة قاطعة لا فرق فيها بين أن يكون قريبا أو بعيدا، وسمي شاهدا لأنه أدى كلامه جهرا لدى الطرفين تأدية الشاهد شهادته لدى الحاكم، ولأنه دل على الشاهد الحسي وهو تمزيق القميص المذكور في قوله تعالى «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ ٢٦» فيما دافع به عن نفسه وهي صادقة بدعواها «وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ٢٧» في دفاعه وهي كاذبة في دعواها وظاهر الحال يؤيده إذ لا يعقل شق القميص من الوراء من قبل الطالب، وهذه الآية تشير إلى أن الشاهد كان طفلا لأنه لو كان كبيرا وكان معهم على الباب فلا بدّ وأن يطلع على التّمزيق هل هو من أمام أو من خلف، ولم يسأل عن شق القميص، فلو قال القائل بهذا إنه جاء بعد العزيز وأن العزيز حكى له الحالة دون أن يطلع على القميص وأنه حكم بما حكم له بحالة لم يشاهد معها شيئا من ذلك، لكان أقبل للأخذ به. هذا وبعد أن سمع العزيز كلام الشاهد نظر زوجها إليه وعاينه قال تعالى «فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» أيها الماكرات المحتالات «إِنَّ كَيْدَكُنَّ» أيتها النساء «عَظِيمٌ ٢٨» جدا يعجز عنه الرجال جانحا بهذا إلى تصديق شهادة الشاهد المكذبة لا دعاء زوجته والمحققة صدق دفاع يوسف، وقد خاطبها بلفظ عام بمقابلة خطابها له به إذ قالت

صفحة رقم 200

(ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً)، وتنبيها إلى أن الكيد خلق لهن عريق، والمكر من شأنهن قديم، والحيل من عاداتهن والخداع دأبهن، والفتنة من ديدنهن، قال أبو تمام:

ولا تحسبا هندا لها الغدر وحدها سجيّة نفس كل غانية هند
وإنما وصف الله كيدهن بالعظم أشدّ تأثيرا في النفس ولأنه منهن يورث العار بخلاف صدور لكونه من الرجال، ولربات القصور منهن القدح المعلّى لأنهن أكثر تفرغا من غيرهنّ، ولأن أحدا لا يجسر على فضيحتهن غالبا. هذا ولعظم كيد النساء اتخذهن إبليس عليه اللعنة وسائل لإغواء من صعب عليه إغوائه، ففي الخبر ما أيس الشيطان من أحد إلا أتاه من جهة النساء، وفي خبر آخر: اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن إبليس طلاع رصاد وما بشيء من فخوخه بأوثق لصيده في الأتقياء بالنساء، قال بعض العلماء إن الشيطان يوسوس مسارقة وهن يواجهنن به. وقال آخر أنا أخاف من النساء أكثر من الشيطان لقوله تعالى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) الآية ٧٥ من سورة النساء في ج ٣. وقال هنا (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) وجاء في الحديث: اطلعت إلى النار فوجدت أكثر أهلها النساء إلخ يكفرن العشير.
وجاء، النساء حبائل الشيطان. وقال عليه السلام: لا تطلعوا النساء على حال، ولا تأمنوهن على مال، ولا تذروهن إلا لتدبير العيال، إن تركن وما يردن أوردن المهالك، وأفسدن الممالك، ينسين الخير، ويحفظن الشر، يتهافتن بالبهتان، ويتمادين في الطغيان. وقال سليمان عليه السلام امش وراء الأسد ولا تمش وراء المرأة. وقال صلى الله عليه وسلم: إياكم ومحادثة المرأة فإنه لا يخلو رجل بامرأة ليس لها محرم إلا هم بها. وقال علي كرم الله وجهه: إياك ومشاورة النساء فإن رأيهنّ إلى أفن (ضعف ونقص) وغرمهن إلى وهن (ضعف في الأمر والعمل والبدن) اكفف أبصارهن بالحجاب، فإن شدة الحجاب خير لهن من الارتياب، وليس خروجهن بأضرّ من دخول من لا يوثق به عليهن، فإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل، ويأتي الأفن بمعنى الأحمق ضعيف الرأي قليل التدبير، والوهن الضعف والفتور.
وقال أبو بكر رضي الله عنه: ذل من أسند أمره إلى امرأة. وقال عمر رضي

صفحة رقم 201

الله عنه: أكثروا لهن من قول لا، فإن نعم تغريهن على المسألة وقال استعيذوا بالله من شر النساء وكونوا من خيارهن على حذر. وجاء في حكمة داود عليه السلام وجدت في الرجال واحدا بألف ولم أجد واحدة في جمع النساء. وقال الحكماء لا تثق بامرأة ولا تغتر بمال وإن كثر. وقال النخعي من اقتراب الساعة طاعة النساء، ويقال من أطاع عرسه فقد أضاع نفسه، وقال بعض الحكماء: إياك ومخالطة النساء فإن لحظات المرأة سهم ولفظها مهم. وورد: ما اختلى رجل بامرأة إلا كان الشيطان رسولها إليه ورسوله إليها وللنساء حيل في إتمام مرادهن لا يقدر على بعضه عظام الرجال، فالمرأة إذا أحبتك أكلتك، وإذا أبغضتك أهلكتك، وهي الشر كله فاتقها بكلك. ثم التفت العزيز إلى يوسف وقال يا «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا» الذي وقع لك مع سيّدتك لا تذكره واطو حديثه، والتفت إليها وقال توبي «وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ» اقترفتيه مضاعفا بتهمتك غلامك من إرادة السوء الذي أنت مصدره، واندمي على تعديك عليه بما رميته به «إِنَّكِ كُنْتِ» بعملك هذا «مِنَ الْخاطِئِينَ ٢٩» لخيانتك زوجك والبهت على غلامك، ولم يقل الخاطئات تغليبا للرجال على النساء. واعلم أن الحكم الماهر بجملته تلك التي حكم بها قد عرف زوجها منها خيانتها من وجوه: لأن يوسف مملوك عندهم والمملوك لا يتجاسر على سيدته، ولأنه شاهدهما هو هارب وهي طالبة والطالب لا يهرب، ولأنه رآها مزينة بأكمل الزينة ويوسف بدرعه لا غير، ولم ير عليه شيئا من علائم الرغبة، بل عليه علامة الرهبة منها والخوف من الله، ولأنه خبره في هذه المدة الطويلة خمس عشرة سنة ووقف على حاله وكمال أدبه وأحاسن أخلاقه وحيائه وخجله وعدم اطلاعه على حالة تناسب إقدامه على مثل تلك الحالة، وقد أيد عدم رغبته قد قميصه من دبر، ولذلك ألصق التهمة فيها، هو وابن عمه على القول بأنه هو الشاهد وبرأه مما عزي إليه، وإذا كان الشاهد صغيرا وهو ما يركن إليه الضمير فإن براءته قطعية لا ظن فيها، لأنها من الله معجزة له عليه السلام، والله خير الشاهدين، وبما أن الله تعالى لم يبين لنا هذا الشاهد فقد جمعنا بين أقوال المفسرين في هذا الشأن ووكلنا العلم إلى الله، وإنما ملنا إلى القول الثاني لأن الشاهد الكبير ابن عم زوجها والصغير ابن خالها أو أختها، والله تعالى يقول من أهلها، تدبر.

صفحة رقم 202

مطلب أقسام الخطأ ومراتب الحب ومعنى الفتى والمتكأ والإكبار:
واعلم أن الخطأ ثلاثة أقسام: الأول أن يريد غير ما تحسن إرادته فيفعله وهذا الخطأ التام المأخوذ به، والثاني أن يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه خلاف ما يريد وهذا أصاب في الإرادة وأخطأ بالعمل، وعليه قوله ﷺ من اجتهد فأخطأ فله أجر، والثالث أن يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطئ بالإرادة مصيب بالفعل. وما نحن فيه راجع إلى الأول. قالوا وكان العزيز مع حلمه قليل الغيرة فقد اقتصر على هذا القول وكان عليه بعد أن قنع بخطأ زوجته أن يفعل بها ما يفعل غيره بمثلها من أهل المروءة والشرف، وقد جاء في البحر أن تربة إقليم العزيز أي في زمنه اقتضت ذلك ولكونه وثنيا لا يعبأ به، وأين هذا مما جرى لبعض الملوك في المغرب، وذلك أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنس وجاريته تغتيهم من وراء ستار، فاستعاد بعض خلصائه ببيتين من الجارية كانت غنت بهما، فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعا في دست، وقال له الملك استعد البيتين من هذا الرأس فأسقط في يده ومرض مدة حياته. ولهذا فإن المصريين تركوا المدينة التي كان فيها العزيز وشيدوا غيرها وسكنوا فيها لما هم عليه من المروءة والشهامة والغيرة، قالوا وشاع الكلام بين خدم القصر وانتقل لغيرهم كما قال الشاعر:
وكل سرّ جاوز الاثنين شاع. قال تعالى «وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ» جماعة من النساء لما سمعن الخبر من امرأة الساقي والخباز وامرأة صاحب الدواب وصاحب السجن والحاجب وغيرهن من ملازمي القصر اللاتي أشعن الخبر للنساء اللاتي اتصلن بهن من أهل المدينة، قيل هي الأقصر أو عين الشمس أو غيرهما في ذلك الزمن، وسرى الخبر لأشراف النساء من صنف امرأة العزيز وصرن يتحدثن به بكون «امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا» علقها حبه والشغاف جارة معلقة بالقلب تسمى غلافه ولسانه، يعني أن حبها دخل هذه الجلدة ووصل إلى القلب فأحاط به، فصارت مغرمة به لا تعقل شيئا سواه، وقيل الشغاف سويداء القلب، وقال الحسن باطنه، وقرىء شعفها بالعين أي حرق فؤادها حبه وعليه قول الأعشى:

صفحة رقم 203
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية