على ذلك قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: ٣٣] وكثر في كلامهم صاحبة البيت وربة البيت للمرأة ومن ذلك.
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ أي أبواب البيت، وتشديد الفعل للتكثير في المفعول إن قلنا: إن الأبواب كانت سبعة كما قيل، فإن لم نقل به فهو لتكثير الفعل فكأنه غلق مرة بعد مرة أو بمغلاق بعد مغلاق، وجمع الْأَبْوابَ حينئذ إما لجعل كل جزء منه كأنه باب أو لجعل تعدد إغلاقه بمنزلة تعدده، وزعم بعضهم أنه لم يغلق إلا بابان: باب الدار وباب الحجرة التي هما فيها.
وادعى بعض المتأخرين أن التشديد للتعدية وأن كونه للتكثير وهم معللا ذلك بأن غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ غلقا لغة رديئة متروكة حسبما ذكره الجوهري، ورد بأن إفادة التعدية لا تنافي إفادة التكثير معها فإن مجرد التعدية يحصل بباب الأفعال فاختيار التفعيل عليه لأحد الأمرين، ولذا قال الجوهري أيضا: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ شدد للتكثير اهـ.
وفي الحواشي الشهابية أنه لم يتنبه الراد لأن ما نقله عليه لا له لأن الرديء الذي ذكره اللغويون إنما هو استعمال
الثلاثي منه لا أن له ثلاثيا لازما حتى يتعين كون التفعيل للتعدية فتعديه لازم في الثلاثي وغيره سواء كان رديئا أو فصيحا فتعين أنه للتكثير، وقد قال بذلك غير واحد، فالواهم ابن أخت خالة الموهم فافهم.
وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ أي أسرع فهي اسم فعل أمر مبني على الفتح كأين، وفسرها الكسائي والفراء بتعال، وزعما أنها كلمة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها وقال أبو زيد: هي عبرانية، وعن ابن عباس والحسن هي سريانية، وقال السدي: هي قبطية.
وقال مجاهد وغيره هي عربية تدعوه بها إلى نفسها (١) وهي كلمة حث وإقبال، واللام للتبيين كالتي في سقيا لك فهي متعلقة بمحذوف أي إرادتي كائنة لك أو أقول لك، وجوز كونها اسم فعل خبري كهيهات، واللام متعلقة بها والمعنى تهيأت لك، وجعلها بعضهم على هذا للتبيين متعلقة بمحذوف أيضا لأن اسم الفعل لا يتعلق به الجار، والتاء مطلقا من بنية الكلمة، وليس تفسيرها بتهيأت لكون الدال على التكلم التاء ليرد أنها وابن أبي إسحاق، وتعقب بأن فيه إطلاق الرب على غيره تعالى فإن أريد به الرب بمعنى الخالق فهو باطل لأنه يمكن أن يطلق نبي كريم على مخلوق ذلك، وإذا أريد به السيد فهو عليه السلام في الحقيقة مملوك له، ومن هنا- وإن كان فيما ذكر نظر ظاهر- اختار في البحر أن الضمير لله تعالى، ورَبِّي خبر إن، وأَحْسَنَ مَثْوايَ خبر ثان، أو هو الخبر، والأول بدل من الضمير أي إنه تعالى خالقي أحسن مثواي بعطف قلب من أمرك بإكرامي عليّ فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة؟ وفيه تحذير لها عن عقاب الله تعالى، وجوز على تقدير أن يكون الرب بمعنى الخالق كون الضمير للشأن أيضا، وأيا ما كان ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض لاقتضائها الامتناع عما دعته إليه إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلا، وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تعليل غب تعليل للامتناع المذكور، والفلاح الظفر وإدراك البغية، وذلك ضربان: دنيوي، وأخروي، فالأول الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز والثاني أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل وعلم بلا جهل ولذلك قيل: لا عيش إلّا عيش الآخرة، ومعنى أفلح دخل في الفلاح كأصبح وأخواتها، ولعل المراد به هنا الفلاح الأخروي، وبالظالمين كل من ظلم كائنا من كان فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصاة لأمر الله تعالى دخولا أوليا، وقيل: الزناة لأنهم ظالمون لأنفسهم، وللمزني بأهله، وقيل: الخائنون لأنهم ظالمون لأنفسهم أيضا ولمن خانوه وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ أي بمخالطته إذ الهمّ- سواء استعمل بمعنى القصد والإرادة مطلقا أو بمعنى القصد الجازم والعقد الثابت كما هو المراد هاهنا، لا يتعلق بالأعيان.
والمعنى أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما لا يلويها عنه صارف بعد ما باشرت مباديها وفعلت ما فعلت مما قص الله تعالى، ولعلها تصدت هنالك لأفعال أخر من بسط يدها إليه وقصد المعانقة وغير ذلك مما اضطره عليه السلام إلى الهرب نحو الباب، والتأكيد لدفع ما عسى يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر وَهَمَّ بِها أي مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية كميل الصائم في اليوم الحار إلى الماء البارد، ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحت التكليف لا أنه عليه السلام قصدها قصدا اختياريا لأن ذلك أمر مذموم تنادي الآيات على عدم اتصافه عليه السلام به، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق
المشاكلة لا لشبهه به كما قيل، وقد أشير إلى تغايرهما كما قال غير واحد: حيث لم يلزا في قرن واحد من التعبير بأن قيل: ولقد هما بالمخالطة أو هم كل منهما بالآخر وأكد الأول دون الثاني.
لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي حجته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا وسوء سبيله، والمراد برؤيته لها كمال إيقانه بها ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين، وقيل: المراد برؤية البرهان حصول الأخلاق وتذكر الأحوال الرادعة من الإقدام على المنكر، وقيل: رؤية وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء: ٣٢] مكتوبا في السقف، وجواب لَوْلا محذوف يدل عليه الكلام أي لولا مشاهدته البرهان لجرى على موجب ميله الجبلي لكنه حيث كان مشاهدا له استمر على ما هو عليه من قضية البرهان، هذا ما ذهب إليه بعض المحققين في معنى الآية وهو قول بإثبات هم له عليه السلام إلّا أنه هم غير مذموم.
وفي البحر أنه لم يقع منه عليه السلام هم بها البتة بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول: قارفت الذنب لولا أن عصمك الله تعالى ولا نقول: إن جواب لَوْلا متقدم عليها وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى الجواز الكوفيون.
ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري وأبو العباس المبرد بل نقول: إن جواب لَوْلا محذوف لدلالة ما قبله عليه كما يقول جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت كذا فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قولهم: أنت ظالم على ثبوت الظلم بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل، وكذلك هاهنا التقدير لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ لهم بها فكان يوجد الهمّ على تقدير انتفاء رؤية البرهان لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم، والمراد بالبرهان ما عنده عليه السلام من العلم الدال على تحريم ما همت به وأنه لا يمكن الهم فضلا عن الوقوع فيه، ولا التفات إلى قول الزجاج: ولولا كان الكلام ولهم بها كان بعيدا فكيف مع سقوط اللام لأنه توهم أن قوله تعالى: هَمَّ بِها هو جواب لَوْلا ونحن لم نقل بذلك، وإنما قلنا إنه دليل الجواب على أنه على تقدير أن يكون نفس الجواب قد يقال: إن اللام ليست بلازمة بل يجوز أن يأتي جواب لَوْلا إذا كانت بصيغة الماضي باللام وبدونها فيقال: لولا زيد لأكرمتك ولو زيد أكرمتك، فمن ذهب إلى أن المذكور هو نفس الجواب لم يبعد، وكذا لا التفات أيضا لقول ابن عطية: إن قول من قال إن الكلام قد تم في قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وأن جواب لَوْلا في قوله سبحانه:
وهَمَّ بِها وأن المعنى، لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ لهم بها فلم يهم يوسف عليه السلام يرده لسان العرب، وأقوال السلف لما في قوله: يرده لسان العرب من البحث.
وقد استدل من ذهب إلى الجواز بوجوده في لسان العرب فقد قال سبحانه: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها [القصص: ١٠] فقوله سبحانه: إِنْ كادَتْ إلخ إما أن يكون هو الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل، وإما أن يكون دليل الجواب على ما قرّرناه، وأما أقوال السلف فالذي نعتقده أنه لم يصح منها شيء عنهم لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة على أن ما روي لا يساعد عليه كلام العرب لأنه يقتضي كون الجواب محذوفا لغير دليل لأنهم لم يقدروا بناء على ذلك لهمّ بها وكلام العرب لا يدل إلّا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط لأنه الدليل عليه، هذا وممن ذهب إلى تحقق الهمّ القبيح منه عليه السلام الواحدي فإنه قال في كتاب البسيط: قال المفسرون الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم الآخذون للتأويل عمن شاهد التنزيل: هم يوسف عليه السلام أيضا بهذه المرأة هما صحيحا وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فلما رأى البرهان من ربه زال كل شهوة عنه.
قال أبو جعفر الباقر: رضي الله تعالى عنه بإسناده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «طمعت فيه وطمع فيها»
وكان طمعه فيها أن هم أن يحل التكة.
وعن ابن عباس أنه حل الهيمان وجلس منها مجلس الخائن، وعنه أيضا أنها استلقت له وقعد بين رجليها ينزع ثيابه، ورووا في البرهان روايات شتى: منها ما
أخرجه أبو نعيم في الحلية عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه، فقال عليه السلام: أي شيء تصنعين؟
فقالت: أستحي من إلهي أن يراني على هذه السوأة فقال: تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال: لا تناليها مني أبدا وهو البرهان الذي رأى،
ومنها ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه عليه السلام مثل له يعقوب عليه السلام فضرب بيده على صدره، ومنها ما أخرجه عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنه مثل له يعقوب عاضا على إصبعيه وهو يقول: يا يوسف أتهمّ بعمل السفهاء وأنت مكتوب من الأنبياء، ومنها ما أخرجه عن القاسم بن أبي بزة قال: نودي يا ابن يعقوب لا تكونن كالطير له ريش فإذا زنى قعد ليس له ريش فلم يعرض للنداء وقعد فرفع رأسه فرأى وجه يعقوب عاضا على إصبعه فقام مرعوبا استحياء من أبيه إلى غير ذلك، وتعقب الإمام الرازي ما ذكر بأن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف- وحاشاه- من أقبح المعاصي وأنكرها، ومثلها لو نسب إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه، فكيف يجوز إسناده إلى هذا الصديق الكريم؟
وأيضا إن الله سبحانه شهد بكون ماهية السوء وماهية الفحشاء مصروفتين عنه، ومع هذه الشهادة كيف يقبل القول بنسبة أعظم السوء والفحشاء إليه عليه السلام، وأيضا إن هذا الهم القبيح لو كان واقعا منه عليه السلام كما زعموا وكانت الآية متضمنة له لكان تعقيب ذلك بقوله تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ خارجا عن الحكمة لأنا لو سلمنا أنه لا يدل على نفي المعصية فلا أقل من أن يدل على المدح العظيم، ومن المعلوم أنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية، وأيضا إن الأكابر كالأنبياء متى صدرت عنهم زلة أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوه بإظهار الندامة والتوبة والتخضع والتنصل فلو كان يوسف عليه السلام أقدم على هذه الفاحشة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بذلك، ولو كان قد أتبعها لحكى وحيث لم يكن علمنا أنه ما صدر عنه هذه في هذه الواقعة ذنب أصلا، وأيضا جميع من له تعلق بهذه الواقعة قد أفصح ببراءة يوسف عليه السلام عن المعصية كما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومن نظر في قوله سبحانه: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ رآه أفصح شاهد على براءته عليه السلام، ومن ضم إليه قول إبليس:
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: ٨٢، ٨٣] وجد إبليس مقرا بأنه لم يغوه ولم يضله عن سبيل الهدى كيف وهو عليه السلام من عباد الله تعالى المخلصين بشهادة الله تعالى، وقد استثناهم من عموم لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.
وعند هذا يقال للجهلة الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام تلك الفعلة الشنيعة: إن كانوا من أتباع الله سبحانه فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته عليه السلام، وإن كانوا من أتباع إبليس فليقبلوا شهادته، ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر من تلامذته إلى أن تخرجنا فزدنا عليه في السفاهة كما قال الحريري:
وكنت امرأ من جند إبليس فانتهى | بي الحال حتى صار إبليس من جندي |
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده | طرائق فسق ليس يحسنها بعدي |
أسماء المفسرين ولم يجد معهم شبهة في دعواهم المخالفة لما شهد له الآيات البينات سوى روايات واهيات.
وقد ذكر الطيبي طيب الله تعالى ثراه بعد أن نقل ما حكاه محيي السنة عن بعض أهل الحقائق من أن الهم همان: هم ثابت وهو ما كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز. وهم عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام أن هذا التفسير هو الذي يجب ان نذهب اليه ونتخذه مذهبا، وإن نقل المفسرون ما نقلوا لأن متابعة النص القاطع وبراءة المعصوم عن تلك الرذيلة وإحالة التقصير على الرواة أولى بالمصير اليه على أن أساطين النقل المتقنين لم يرووا في ذلك شيئا مرفوعا في كتبهم، وجل تلك الروايات بل كلها مأخوذ من مسألة أهل الكتاب اهـ، نعم قد صحح الحاكم بعضا من الروايات التي استند إليها من نسب تلك الشنيعة إليه عليه السلام لكن تصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار عند ذوي الاعتبار.
وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل نبذة منها إن كل ذلك إلا خرافات وأباطيل تمجها الآذان وتردها العقول والأذهان ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها، ثم إن الإمام عليه الرحمة ذكر في تفسير الآية الكريمة بعد أن منع دلالتها على الهم ما حاصله: إنا سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول: لا بد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق الهم إذ الذوات لا تصلح ولا يتعين ما زعموه من إيقاع الفاحشة بها بل نضمره شيئا آخر يغاير ما أضمروه، فنقول: المراد هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأنه الذي يستدعيه حاله عليه السلام، وقد جاء هممت بفلان أي قصدته ودفعته ويضمر في الأول المخالطة والتمتع ونحو ذلك لأنه اللائق بحالها، فإن قالوا: لا يبقى حينئذ لقوله سبحانه:
لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فائدة؟ قلنا: بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين.
الأول أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو هم بدفعها لفعلت معه ما يوجب هلاكه فكان في الامتناع عن ذلك صون النفس عن الهلاك، الثاني أنه لو اشتغل بدفعها فلربما تعلقت به فكان يتمزق ثوبه من قدام وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو كان متمزقا من قدام لكان هو الجاني. ولو كان متمزقا من خلف لكانت هي الجانية فأعلمه هذا المعنى فلا جرم لم يشتغل بدفعها وفر عنها حتى صارت الشهادة حجة له على براءته عن المعصية، والى تقدير الدفع (١) ذهب بعض السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ففي الجواهر والدرر للشعراني: سألت شيخنا عن قوله تعالى وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ما هذا الهم الذي أبهم فقد تكلم الناس فيه بما لا يليق برتب الأنبياء عليهم السلام؟
فقال: لا أعلم، قلت: قد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن مطلق اللسان يدل على أحدية المعنى، ولكن ذلك أكثري لا كلي فالحق أنها همت به عليه السلام لتقهره على ما أرادته منه، وهم هو بها ليقهرها في الدفع عما أرادته منه فالاشتراك في طلب القهر منه ومنها والحكم مختلف، ولهذا قالت: أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف: ٥١] وما جاء في السورة أصلا أنه راودها عن نفسها اهـ، وجوز الإمام أيضا تفسير الهم بالشهوة، وذكر أنه مستعمل في اللغة الشائعة فإنه يقول القائل فيما لا يشتهيه: لا يهمني هذا، وفيما يشتهيه: هذا أهم الأشياء الي، وهو ما أشرنا اليه أولا إلا أنه عليه الرحمة حمل الهم في الموضعين على ذلك فقال بعد: فمعنى الآية ولقد اشتهته واشتهاها ولولا أن رأى برهان ربه لفعل وهو مما لا داعي اليه إذ لا محذور في نسبة الهم المذموم إليها، والظاهر أن الهم بهذا المعنى مجاز كما نص عليه السيد المرتضى في درره لا حقيقة كما يوهمه ظاهر كلام الإمام، وقد ذهب الى هذا التأويل أبو علي الجبائي وغيره، وروي ذلك عن الحسن، وبالجملة لا ينبغي التعويل على ما شاع في الأخبار والعدول عما ذهب اليه المحققون الأخيار،
وإياك والهم بنسبة تلك الشنيعة الى ذلك الجناب بعد أن كشف الله سبحانه عن بصر بصيرتك فرأيت برهان ربك بلا حجاب كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ قيل: خيانة السيد وَالْفَحْشاءَ الزنا لأنه مفرط القبح، وقيل: السُّوءَ مقدمات الفحشاء من القبلة والنظر بشهوة. وقيل: هو الأمر السيّء مطلقا فيدخل فيه الخيانة المذكورة وغيرها، والكاف على ما قيل: في محل نصب، والإشارة الى التثبيت اللازم للإراءة المدلول عليها بقوله سبحانه: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه لِنَصْرِفَ إلخ، وقال ابن عطية: إن الكاف متعلقة بمضمر تقديره جرت أفعالنا وأقدارنا كَذلِكَ لِنَصْرِفَ، وقدر أبو البقاء نراعيه كذلك، والحوفي أريناه البراهين كذلك، وجوز الجميع كونه في موضع رفع فقيل: أي الأمر أو عصمته مثل ذلك لكن قال الحوفي: إن النصب أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو معانيها، واختار في البحر كون الإشارة الى الرؤية المفهومة من رأي أو الرأي المفهوم، وقد جاء مصدر الرأي كالرؤية كما في قوله:
ورأى عيني الفتى أباكا | يعطى الجزيل فعليك ذاكا |
وقرأ الأعمش- ليصرف- بياء الغيبة وإسناد الصرف إلى ضمير الرب سبحانه إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ تعليل لما سبق من مضمون الجملة بطريق التحقيق، والمخلصون هم الذين أخلصهم الله تعالى واختارهم لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها، والظاهر أن المراد الحكم عليه بأنه مختار لطاعته سبحانه، ويحتمل على ما قيل: أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذين قال فيهم جلّ وعلا: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ [ص: ٤٦].
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر المخلصين إذا كان فيه أل حيث وقع بكسر اللام وهم الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، ولا يخفى ما في التعبير بالجملة الاسمية من الدلالة على انتظامه عليه السلام في سلك أولئك العباد الذين هم من أول الأمر لا أنه حدث له ذلك بعد أن لم يكن، وفي هذا عند ذوي الألباب ما ينقطع معه عذر أولئك المتشبثين بأذيال هاتيك الأخبار التي ما أنزل الله تعالى بها من كتاب وَاسْتَبَقَا الْبابَ متصل بقوله سبحانه: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها إلخ، وقوله تعالى: كَذلِكَ إلخ اعتراض جيء به بين المعطوفين تقريرا لنزاهته عليه السلام، والمعنى لقد همت به وأبى هو واستبقا أي تسابقا إلى الباب على معنى قصد كل من يوسف عليه السلام وامرأة العزيز سبق الآخر إليه فهو ليخرج وهي لتمنعه من الخروج وقيل: المراد من السبق في جانبها الإسراع إثره إلّا أنه عبر بذلك للمبالغة، ووحد الباب هنا مع جمعه أولا لأن المراد الباب البراني الذي هو المخلص واستشكل بأنه كيف يستبقان إليه ودونه أبواب جوانية بناء على ما ذكروا من أن الأبواب كانت سبعة.
وأجيب بأنه روي عن كعب أن أقفال هاتيك الأبواب كانت تتناثر إذا قرب إليها يوسف عليه السلام وتتفتح له
ويحتمل أنّه لم تكن تلك الأبواب المغلقة على الترتيب بابا فبابا بل كانت في جهات مختلفة كلها منافذ للمكان الذي كانا فيه فاستبقا إلى باب يخرج منه، ونصب الباب على الاتساع لأن أصل استبق أن يتعدى بإلى لكن جاء كذلك على حد وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: ٣] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الأعراف: ١٥٥]، وقيل: إنه ضمن الاستباق معنى الابتدار فعدى تعديته وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ يحتمل أن يكون معطوفا على اسْتَبَقَا، ويحتمل أن يكون في موضع الحال كما قال أبو حيان أي وقد قدت، والقدّ القطع والشق وأكثر استعماله فيما كان طولا وهو المراد هنا بناء على ما قيل: إنها جذبته من وراء فانخرق القميص إلى أسفله، ويستعمل القط فيما كان عرضا، وعلى هذا جاء ما قيل في وصف علي كرم الله تعالى وجهه: إنه كان إذا اعتلى قدّ وإذا اعترض قط، وقيل، القدّ هنا مطلق الشق، ويؤيده ما نقل عن ابن عطية أنه قرأت فرقة- وقط- وقد وجد ذلك في مصحف المفضل بن حرب.
وعن يعقوب تخصيص القدّ بما كان في الجلد والثوب الصحيحين، والقميص معروف، وجمعه أقمصة، وقمص، وقمصان، وإسناد القدّ بأي معنى كان إليها خاصة مع أن لقوة يوسف عليه السلام أيضا دخلا فيه إما لأنها الجزء الأخير للعلة التامة، وإما للإيذان بمبالغتها في منعه عن الخروج وبذل مجهودها في ذلك لفوت المحبوب أو لخوف الافتضاح وَأَلْفَيا أي وجدا، وبذلك قرأ عبد الله سَيِّدَها أي زوجها وهو فيعل (١) من ساد يسود، وشاع إطلاقه على المالك وعلى الرئيس، وكانت المرأة إذ ذاك على ما قيل: تقول لزوجها سيدي، ولذا لم يقل سيدهما، وفي البحر إنما لم يضف إليهما لأنه لم يكن مالكا ليوسف حقيقة لحريته لَدَى الْبابِ أي عند الباب البراني، قيل: وجداه يريد أن يدخل مع ابن عم لها قالَتْ استئناف مبني على سؤال سائل يقول: فماذا كان حين ألفيا السيد عند الباب، فقيل، فقالت: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً من الزنا ونحوه.
إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ الظاهر أن ما نافية، وجَزاءُ مبتدأ، ومِنْ موصولة أو موصوفة مضاف إليه، والمصدر المؤول خبر، وأَوْ للتنويع خبر المبتدأ وما بعد معطوف على ذلك المصدر أي ليس جزاؤه إلّا السجن أو العذاب الأليم، والمراد به على ما قيل: الضرب بالسوط، وعن ابن عباس أنه القيد، وجوز أن تكون ما استفهامية- فجزاء- مبتدأ أو خبر أي أي شيء جزاؤه غير ذلك أو ذلك، ولقد أتت في تلك الحالة التي يدهش فيها الفطن اللوذعي حيث شاهدها زوجها على تلك الهيئة بحيلة جمعت فيها غرضيها وهما تبرئة ساحتها مما يلوح من ظاهر الحال، واستنزال يوسف عليه السلام عن رأيه في استعصائه عليها وعدم مواتاته لها على مرادها بإلقاء الرعب في قلبه من مكرها طمعا في مواقعته لها مكرها عند يأسها عن ذلك مختارا كما قالت: لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف: ٣٢] ثم إنها جعلت صدور الإرادة المذكورة عن يوسف عليه السلام أمرا محققا مفروغا عنه غنيا عن الإخبار بوقوعه، وإن ما هي عليه من الأفاعيل لأجل تحقيق جزائها، ولم تصرح بالاسم بل أتت بلفظ عام تهويلا للأمر ومبالغة في التخويف كأن ذلك قانون مطرد في حق كل أحد كائنا من كان، وذكرت نفسها بعنوان أهلية العزيز إعظاما للخطب وإغراء له على تحقيق ما يتوخاه بحكم الغضب والحمية كذا قرّره غير واحد.
وذكر الإمام في تفسيره ما فيه نوع مخالفة لذلك حيث قال: إن في الآية لطائف: أحدها أن حبها الشديد ليوسف عليه السلام حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن وأخرت ذكر العذاب لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب، وأيضا إنها لم تذكر أن يوسف عليه السلام يحب أن يقابل بأحد هذين
الأمرين بل ذكرت ذلك ذكرا كليا صونا للمحبوب عن الذكر بالشر والألم، وأيضا قالت: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ والمراد منه أن يسجن يوما، أو أقل على سبيل التخفيف، فأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر عنه بهذه العبارة بل يقال: يجب أن يجعل من المسجونين، ألا ترى أن فرعون كيف قال حين هدد موسى عليه السلام: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: ٢٩]. وثانيها أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه استعصم منها مع أنه كان في عنفوان الشباب وكمال القوة ونهاية الشهوة عظم اعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول: إن يوسف قصدني بسوء وما وجدت ممن نفسها أن ترميه بهذا الكذب على سبيل التصريح بل اكتفت بهذا التعريض، وليت الحشوية كانوا يكتفون بمثل ما اكتفت به، ولكنهم لم يفعلوه ووصفوه بعد قريب من أربعة آلاف سنة بما وصفوه من القبيح وحاشاه. وثالثها أن يوسف عليه السلام أراد أن يضربها ويدفعها عن نفسه وكان ذلك بالنسبة إليها جاريا مجرى السوء فقولها ما جَزاءُ إلخ جار مجرى التعريض فلعلها بقلبها كانت تريد إقدامه على دفعها ومنعها، وفي ظاهر الأمر كانت توهم أنه قصدني بما لا ينبغي انتهى المراد منه، وفيه من الأنظار ما فيه.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أو عذابا أليما بالنصب على المصدرية كما قال الكسائي: أي أو يعذب عذابا أليما إلّا أنه حذف ذلك لظهوره، وهذه القراءة أوفق بقوله تعالى: أَنْ يُسْجَنَ ولم يظهر لي في سر اختلاف التعبير على القراءة المشهورة ما يعول عليه، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه فتدبر قالَ استئناف وجواب عما يقال:
فماذا قال يوسف عليه السلام حينئذ؟ فقيل: قال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي أي طالبتني للمواتاة لا أني أردت بها سوءا كما زعمت وإنما قاله عليه السلام لتنزيه نفسه عن التهمة ودفع الضرر عنها لا لتفضيحها.
وفي التعبير عنها بضمير الغيبة دون الخطاب أو اسم الإشارة مراعاة لحسن الأدب مع الإيماء إلى الإعراض عنها كذا قالوا، وفي هذا الضمير ونحوه كلام فقد ذكر ابن هشام في بعض حواشيه على قول ابن مالك في ألفيته:
فما لذي غيبة أو حضور
إلخ لينظر الى نحو هِيَ راوَدَتْنِي فإن هِيَ ضمير باتفاق، وليس هو للغائب بل لمن بالحضرة، وكذا يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص: ٢٦] وهذا في المتصل وذاك في المنفصل، وقول من يخاطب شخصا في شأن آخر حاضر معه قلت له: اتق الله تعالى وأمرته بفعل الخير، وقد يقال: إنه نزل الضمير فيهن منزلة الغائب وكذا في عكس ذلك يبلغك عن شخص غائب شيء فنقول: ويحك يا فلان أتفعل كذا؟ تنزيلا له منزلة من بالحضرة، وحينئذ يقال: الحد المستفاد مما ذكر إنما هو للضمير باعتبار وضعه اهـ.
وقال السراج البلقيني في رسالته المسماة نشر العبير لطي الضمير المفسر لضمير الغائب إما مصرح به أو مستغنى بحصول مدلوله حسا أو علما فالحس نحو قوله تعالى: هِيَ راوَدَتْنِي ويا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ كما ذكره ابن مالك، وتعقبه شيخنا أبو حيان بأنه ليس كما مثل به لأن هذين الضميرين عائدان على ما قبلهما فضمير هِيَ راوَدَتْنِي عائد على الأهل في قولها: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً ولما كنت عن نفسها بذلك ولم تقل بي بدل بِأَهْلِكَ كنى هو عليه السلام عنها بضمير الغيبة فقال: هِيَ راوَدَتْنِي ولم يخاطبها بأنت راودتني، ولا أشار إليها بهذه راودتني وكل هذا على سبيل الأدب في الألفاظ والاستحياء في الخطاب الذي لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، فأبرز الاسم في صورة ضمير الغائب تأدبا مع العزيز وحياء منه، وضمير اسْتَأْجِرْهُ عائد على موسى فمفسره مصرح بلفظه، وكأن ابن مالك تخيل أن هذا موضع إشارة لكون صاحب الضمير حاضرا عند المخاطب فاعتقد أن المفسر يستغني عنه بحضور مدلوله حسا فجرى الضمير مجرى اسم الإشارة، والتحقيق ما ذكرناه هذا كلامه.
وعندي أن الذي قاله ابن مالك أرجح، مما قاله الشيخ، وذلك أن الاثنين إذا وقعت بينهما خصومة عند حاكم فيقول المدعي للحاكم: لي على هذا كذا: فيقول المدعي عليه: هو يعلم أنه لا حق له علي، فالضمير في هو إنما هو لحضور مدلوله حسا لا لقوله: لي كما هو المتبادر الى الأفهام، وأيضا يرد على ما ذكره في ضمير اسْتَأْجِرْهُ أن موسى عليه السلام لم يسبق له ذكر عند حضوره مع بنت شعيب عليه السلام، وقد قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ وقصدها بالضمير الرجل الحاضر الذي بان لها من قوته وأمانته الأمر العظيم، ثم إن من خاصم زوجته فقال للحاضرين من أهلها. أو من غيرهم: هي طالق تطلق زوجته لوجود ما قرره ابن مالك، ولا يتمشى على ما قرره الشيخ كما لا يخفى، وبالجملة إن التأويل الذي ذكره في الآيتين وإن سلم فيهما لكن لا يكاد يتمشى معه في غيرهما هذا فليفهم وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها ذهب جمع إلى أنه كان ابن خالها (١)، وكان طفلا في المهد (٢) أنطقه الله تعالى ببراءته عليه السلام،
فقد ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «تكلم أربعة في المهد وهم صغار: ابن ماشطة ابنة فرعون، وشاهد يوسف عليه السلام، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم عليهما السلام»
وتعقب ذلك الطيبي بقوله: يرده دلالة الحصر
في حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة:
عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وصبي كان يرضع من أمه فمر راكب حسن الهيئة فقالت: أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الصبي الثدي، وقال اللهم لا تجعلني مثله» اهـ،
ورده الجلال السيوطي فقال: هذا منه على جاري عادته من عدم الاطلاع على طرق الأحاديث، والحديث المتقدم صحيح أخرجه أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وصححه من حديث ابن عباس، ورواه الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة، وقال صحيح على شرط الشيخين،
وفي حديث الصحيحين المشار اليه آنفا زيادة على الأربعة «الصبي الذي كان يرضع من أمه فمر راكب» إلخ
فصاروا خمسة وهم أكثر من ذلك، ففي صحيح مسلم تكلم الطفل في قصة أصحاب الأخدود، وقد جمعت من تكلم في المهد فبلغوا أحد عشر، ونظمتها فقلت:
تكلم في المهد النبي محمد | ويحيى وعيسى والخليل ومريم |
ومبري جريج ثم شاهد يوسف | وطفل لذي الأخدود يرويه مسلم |
وطفل عليه مر بالأمة التي | يقال لها تزني ولا تتكلم |
وما شطة في عهد فرعون طفلها | وفي زمن الهادي المبارك يختم |
وقيل: كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب وكان رجلا ذا لحية ولا ينافي هذا قول قتادة: إنه كان رجلا حكيما من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره، وجوز أن يكون بعض أهلها وكان معهما في الدار بحيث
(٢) ولم ترتض ذلك الجبائي لوجوه ذكرها الإمام، ولا يخفى ما فيها اهـ منه.
لم يشعرا به فبصر بما جرى بينهما فأغضبه الله تعالى ليوسف فقال الحق، وعن مجاهد أن الشاهد هو القميص المقدود وليس بشيء كما لا يخفى، وجعل الله تعالى الشاهد من أهلها قيل: ليكون أدل على نزاهته عليه السلام وأنفى للتهمة وألزم لها، وخص هذا بما إذا لم يكن الشاهد الطفل الذي أنطقه الله تعالى الذي أنطق كل شيء، وأما إذا كان ذلك فذكر كونه من أهلها لبيان الواقع فإن شهادة الصبي حجة قاطعة ولا فرق فيها بين الأقارب وغيرهم، وتعقب بأن كون شهادة القريب مطلقا أقوى مما لا ينبغي أن يشك فيه، وسمي شاهدا لأنه أدى تأديته في أن ثبت بكلامه قول يوسف وبطل قولها، وقيل: سمي بذلك من حيث دل على الشاهد وهو تخريق القميص، وفسر مجاهد فيما أخرجه عنه ابن جرير الشهادة بالحكم أي وحكم حاكم من أهلها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ أي من قدام يوسف عليه السلام، أو من قدام القميص وإِنْ شرطية، وكانَ فعل الشرط وقوله سبحانه: فَصَدَقَتْ جواب الشرط وهو بتقدير قد، وإلا فالفاء لا تدخل في مثله، وعن ابن خروف أن مثل هذا على إضمار المبتدأ، والجملة جواب الشرط لا الماضي وحده، وفي الكشاف إن الشرطية هنا نظير قولك: إن أحسنت إلي فقد أحسنت إليك من قبل لمن يمتن عليك بإحسانه فإنه على معنى إن تمتن علي أمتن عليك، وكذا هنا المراد أن يعلم أنه كان قميصه قدّ ونحوه وإلا فبين أن الذي للاستقبال وكانَ تناف قيل: وهو مبني على ما ذهب اليه البعض من أن كانَ قوية في الدلالة على الزمان فحرف الشرط لا يقلب ماضيها مستقبلا وإلا فكل ماض دخل عليه الشرط قلبه مستقبلا من غير حاجة الى التأويل، وتعقب بأنه لا بد من التأويل هاهنا وجعل حدوث العلم ونحوه جزئي الشرطية كأن يقال: إن يعلم أو يظهر كونه كذلك فقد ظهر الصدق، ويقال نظيره في الشرطية الأخرى الآتية: وإن كانت كانَ مما يقلب حرف الشرط ماضيها مستقبلا كسائر الأفعال الماضية لأن المعنى ليس على تعليق الصدق أو الكذب في المستقبل على كون القميص كذا أو كذا كذلك بل على تعليق ظهور أحد الأمرين الصدق والكذب على حدوث العلم بكونه كذلك وهو ظاهر، وهل هذا التأويل من باب التقدير، أو من غيره؟ فيه خلاف، والذي يشير إليه كلام بعض المدققين أنه ينزل في مثل ذلك العلم بالشيء منزلة استقباله لما بينهما من التلازم كما قيل: أي شيء يخفى؟ فقيل: ما لا يكون فليفهم، ثم إن متعلق الصدق ما دل كلامها عليه من أن يوسف أراد بها سوءا وهو متعلق الكذب المسند إليها فيما بعد، وهما كما يتعلقان بالنسبة التي يتضمنها الكلام باعتبار منطوقه يتعلقان بالنسبة التي يتضمنها باعتبار ما يستلزمه فكأنه قيل: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ في دعواها أن يوسف أراد بها سوءا وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ في دعواه أنها راودته عن نفسه وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ أي من خلف يوسف عليه السلام أو خلف القميص فَكَذَبَتْ في دعواها وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواه، والشرطيتان محكيتان: إما بقول مضمر أي شهد قائلا أو فقال إِنْ كانَ إلخ كما هو مذهب البصريين، وإما يشهد لأن الشهادة قول من الأقوال مع رعاية زيادة الإيضاح، وجملتا- وهو من الكاذبين. وهو من الصادقين- مؤكدتان لأن من قوله: فَصَدَقَتْ يعلم كذبه، ومن قوله: فَكَذَبَتْ يعلم صدقه، ووجه دلالة قدّ القميص من دبر على كذبها أنها تبعته وجذبت ثوبه فقدته، وأما دلالة قده من قبل على صدقها فمن وجهين: أحدهما أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسه قدت قميصه من قدام بالدفع، وثانيهما أن يسرع إليها ليلحقها فيتعثر في مقام قميصه فيشقه كذا في الكشاف، وتعقب ابن المنير الوجه الأول بأن ما قرر في اتباعه لها يحتمل مثله في اتباعها له فإنها إنما تقد قميصه من قبل بتقدير أن يكون عليه السلام أخذ بها حتى صارا متقابلين فدفعته عن نفسها، وهذا بعينه يحتمل إذا كانت هي التابعة بأن تكون اجتذبته حتى صارا متقابلين ثم جذبت قميصه إليها من قبل بل هذا أظهر لأن الموجب لقدّ القميص غالبا الجذب لا الدفع، والوجه الثاني بأن ما ذكر بعينه محتمل لو كانت هي التابعة وهو فار منها بأن ينقدّ قميصه في إسراعه للفرار اهـ
صفحة رقم 412
وأجيب عما ذكره أولا بأنه غير وارد لأن تلك الحالة السريعة لا تحتمل إلا أيسر ما يمكن وأسرعه، وعلى تقدير اتباعها له تعين القدّ من دبر لأنه أهون الجذبين، ثم لا نفرض كر الفار ليدفعها أو كما لحقت جذبت فهذا الفرض لا وجه له هنالك فإذا ثبت دلالته في الجملة على هذا القسم تعينت، وعما ذكره ثانيا بأن الظاهر على تقدير أن تكون تابعة أنه إذا تعثر الفار يتعلق به التابع متشبثا وإذا كانا منفلتين بعد ذلك الاحتمال.
وذكر الفاضل المتعقب أن الحق في هذا الفصل أن يقال: إن الشاهد المذكور إن كان صبيا أنطقه الله تعالى في المهد كما ورد في بعض الأحاديث فالآية في مجرد كلامه قبل أوانه حتى لو قال صدق يوسف وكذبت لكفى برهانا على صدقه عليه السلام كما كان مجرد إخبار عيسى عليه السلام في المهد برهانا على صدق مريم، فلا تنبغي المناسبة بين الأمارة المنصوبة وما رتب عليها لأن العمدة (١) في الدلائل نصبها لا مناسبتها، وإن كان قريبا لها قد بصر بها من حيث لا تشعر فهذا- والله تعالى أعلم- كان من حقه أن يصرح بما رأى فيصدق يوسف عليه السلام ويكذبها ولكنه أراد أن لا يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن قدّ قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها، ثم ذكر القسم الآخر وهو قده من قبل على علم بأنه لم ينقد كذلك حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفضيحة وينصفهما جميعا فلذا ذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه كما ذكر أمارة على صدقه المعلوم وجوده، وأخرجهما مخرجا واحدا وبنى قُدَّ لما لم يسم فاعله في الموضعين سترا على من قدّه، وقدم أمارة صدقها في الذكر إزاحة للتهمة ووثوقا بأن الأمارة الثانية هي الواقعة فلا يضره تأخيرها.
والحاصل أن عمدة هذا الشاهد الأمارة الأخيرة فقط والمناسبة فيها محققة، وأما الأمارة الأولى فليست مقصودة وإنما هي كالغرض ذكرت توطئة للثانية فلم يلتمس لها مناسبة مثل تلك المناسبة، وأما إن كان الحكيم الذي كان الملك يرجع الى رأيه فلا بد من التماس المناسبة في الطرفين لأنها عمدة الحكيم، وأقرب وجه في المناسبة أن قدّ القميص من دبر دليل على إدباره عنها، وقدّه من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه، ولا يخفى أن مثل هذا الوجه لا يصلح أن يكون مطمح نظر الحكيم الذي لا يلتفت إلا لليقينيات، فالأولى أن يقال: يحتمل أن ذلك الحكيم كان واقفا على حقيقة الحال بطريق من الطرق الممكنة، ويسهل أمر ذلك إذا قلنا: إنه كان ابن عم لها فهو متيقن بعدم مقدم الشرطية الأولى وبوجود مقدم الشرطية الثانية، ومن ضروريات ذلك الجزم بانتفاء تالي الأولى ووقوع تالي الثانية فإذا هو إخبار بكذبها وصدقه عليه السلام لكنه ساق شهادته مساقا مأمونا من الجرح والطعن حيث صورها بصورة الشرطية المترددة ظاهرا بين نفعها ونفعه، وأما حقيقة فلا تردد فيها قطعا كما أشير إليه، وإلى كون الشرطية الأولى غير مقصودة بالذات ذهب العلامة ابن الكمال معرضا بغفلة القاضي البيضاوي حيث قال: إن قوله تعالى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ إلخ من قبيل المسامحة في أحد شقي الكلام لتعين الآخر عند القاتل تنزيلا للمحتمل منزلة الظاهر لأن الشق بالجذب في هذا الشق أيضا محتمل، ومن غفل عن هذا قال: لأنه يدل على أنه قصدها فدفعت عن نفسها إلى آخر عبارة البيضاوي، وحاصل ذلك على ما قرره بعض مشايخنا عليهم الرحمة أن القائل: يعلم يقينا وقوع الشق من دبر لكنه ذكر الشق من القبل مع أنه محتمل أن يكون بجذبها إياه إلى طرفها كما أن كونه من دفعها إياه من بعض محتملاته تنزيلا لهذا المحتمل منزلة الظاهر تأكيدا ومبالغة لثبوت ما دلت عليه الشرطية الثانية من صدقه وكذبها يعني أنا نحكم بصدقها وكذبه بمجرد وقوع الشق في القبل، وإن كان محتملا لأسباب أخر غير دفعها لكنه ما وقع هذا الشق
أصلا فلا صدق لها وذلك كما إذا قيل لك: بلغت الى زيد الكلام الفلاني في هذا اليوم؟ فقلت: إن كنت تكلمت في هذا اليوم مع زيد فقولكم هذا صادق مع أن تكلمك معه في هذا اليوم مطلقا لا يدل على صدق دعواهم لاحتمال أنك تكلمت معه بكلام غير ذلك الكلام لكنك قلت ذلك تحقيقا لعدم تبليغك ذلك الكلام إليه، هذا وذكر شيخ مشايخنا العلامة صبغة الله الحيدري طيب الله تعالى ثراه: أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين في الشقين على ما يدل عليه من حيث موافقته لما ادعاه صاحبه فإنها كانت تقول: هو طلبني مقبلا عليّ فخلصت نفسي عنه بالدفع أو الفرار وهو كان يقول: هي الطالبة ففررت منها وتبعتني واجتذبت ثوبي فقدته فوقوع الشق في شق الدبر يدل على كونه مدبرا عنها لا مقبلا عليها وعكسه على عكسه، ثم فرع على هذا أن ما ذكره ابن الكمال غفلة عن المخاصمة بالمقاولة وهو توجيه لطيف للآية الكريمة، بيد أن دعوى وقوع المخاصمة بالمقاولة على الطرز الذي ذكره رحمه الله تعالى مما لا شاهد لها، وعلى المدعي البيان على أنه يبعد عقلا أن تقول هو طلبني مقبلا فخلصت نفسي منه فانقدّ قميصه من قبل وهو الذي تقتضيه دعواه أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين إلخ لظهور أن ظهور كذبها حينئذ أسرع ما يكون، وبالجملة قيل: إن الاحتمالات المضعفة لهذه المشاهدة كثيرة: منها ما علمت، ومنها ما تعلمه بأدنى التفات، ومن هنا قالوا: إن ذلك من باب اعتبار الأمارة، ولذلك احتج بالآية كما قال ابن الفرس: من يرى الحكم من العلماء بالأمارات والعلامات فيما لا تحضره البينات كاللقطة، والسرقة، والوديعة، ومعاقد الحيطان، والسقوف وغير ذلك.
وذكر الإمام أن علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعوّلوا في الحكم عليها بل لأجل أن يكون ذلك جاريا مجرى المقويات والمرجحات والله تعالى أعلم.
وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية «من قبل، ومن دبر» بسكون الباء فيهما والتنوين وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ أبو يعمر، وابن أبي إسحاق، والعطاردي، وأبو الزناد، وآخرون «من قبل، ومن دبر» بثلاث ضمات، وقرأ الأولان، والجارود في رواية عنهم بإسكان الباء فيهما مع بنائهما على الضم جعلوهما- كقبل، وبعد- بعد حذف المضاف إليه ونية معناه، وتعقب ذلك أبو حاتم بأن هذا رديء في العربية وإنما يقع بعد البناء في الظروف، وهذان اللفظان اسمان متمكنان وليسا بظرفين، وعن ابن إسحاق أنه قرأ من- قبل ومن دبر- بالفتح قيل: كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعملية والتأنيث (١) باعتبار الجهة فَلَمَّا رَأى أي السيد، وقيل: الشاهد، والفعل من الرؤية البصرية أو القلبية أي فلما علم قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ أي هذا القد والشق كما قال الضحاك مِنْ كَيْدِكُنَّ أي ناشىء من احتيالكن أيتها النساء ومكركن ومسبب عنه، وهذا تكذيب لها وتصديق له عليه السلام على ألطف وجه كأنه قيل: أنت التي راودته فلم يفعل وفرّ فاجتذبتيه فشققت قميصه فهو الصادق في إسناد المراودة إليك وأنت الكاذبة في نسبة السوء إليه، وقيل: الضمير للأمر الذي وقع فيه التشاجر وهو عبارة عن إرادة السوء التي أسندت الى يوسف عليه السلام وتدبير عقوبته بقولها ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إلخ أي إن ذلك من جنس مكركن واحتيالكن، وقيل: هو للسوء وهو نفسه وإن لم يكن احتيالا لكنه يلازمه، وقال الماوردي: هو لهذا الأمر وهو طمعها في يوسف عليه السلام وجعله من الحيلة مجاز أيضا كما في الوجه الذي قبله، وقال الزجاج: هو لقولها ما جَزاءُ إلخ فقط (٢)، واختار العلامة أبو السعود القيل الأول وتكلف له بما تكلف واعترض على ما بعده من الأقوال بما اعترض.
(٢) لم يجعل هؤلاء من سببية كما أشرنا إليه اهـ منه. [.....]
ولعل ما ذكرناه أقرب للذوق وأقل مؤنة مما تكلف له وأيا ما كان فالخطاب عام للنساء مطلقا وكونه لها ولجواريها- كما قيل- ليس بذاك، وتعميم الخطاب للتنبيه على أن الكيد خلق لهن عريق:
ولا تحسبا هندا لها الغدر وحدها | سجية نفس كل غانية هند (١) |
ففي الخبر «ما أيس الشيطان من أحد إلا أتاه من جهة النساء»
وحكي عن بعض العلماء أنه قال: أنا أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً [النساء: ٧٦] وقال للنساء: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ولأن الشيطان يوسوس مسارقة وهن يواجهن به، ولا يخفى أن استدلاله بالآيتين مبني على ظاهر إطلاقهما، ومثله مما تنقبض له النفس وتنبسط يكفي فيه ذلك القدر فلا يضر كون ضعف كيد الشيطان إنما هو في مقابلة كيد الله تعالى، وعظم كيدهن إنما هو بالنسبة الى كيد الرجال، وما قيل: إن ما ذكر لكونه محكيا عن قطفير- لا يصلح للاستدلال به بوجه من الوجوه- ليس بشيء لأنه سبحانه قصه من غير نكير فلا جناح في الاستدلال به كما لا يخفى يُوسُفُ حذف منه حرف النداء لقربه وكمال تفطنه للحديث، وفي ندائه باسمه تقريب له عليه السلام وتلطيف.
وقرأ الأعمش «يوسف» بالفتح، والأشبه على ما قال أبو البقاء: أن يكون أخرجه على أصل المنادى كما جاء في الشعر
يا عديا لقد وقتك الأواقي
وقيل: لم تضبط هذه القراءة عن الأعمش، وقيل: إنه أجرى الوقف مجرى الوصل ونقل إلى الفاء حركة الهمزة من قوله تعالى: أَعْرِضْ عَنْ هذا أي عن هذا الأمر واكتمه ولا تتحدث به فقد ظهر صدقك وطهارة ثوبك، وهذا كما حكى الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله بالوصل والفتح، وقرىء «أعرض» بصيغة الماضي فيوسف حينئذ مبتدأ والجملة بعده خبر، ولعل المراد الطلب على أتم وجه فيؤول الى معنى أَعْرِضْ وَاسْتَغْفِرِي أنت أيتها المرأة، وضعف أبو البقاء هذه القراءة بأن الأشبه عليها أن يقال: فاستغفري لِذَنْبِكِ الذي صدر عنك وثبت عليك إِنَّكِ كُنْتِ بسبب ذلك مِنَ الْخاطِئِينَ أي من جملة القوم المتعمدين للذنب، أو من جنسهم يقال: خطىء يخطىء خطأ وخطأ إذا أذنب متعمدا، وأخطأ إذا أذنب من غير تعمد، وذكر الراغب أن الخطأ العدول عن الجهة وهو أضرب: الأول أو يريد غير ما تحسن إراداته فيفعله، وهذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان، والثاني أن يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه خلاف ما يريد وهذا قد أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل، ومن ذلك
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من اجتهد فأخطأ فله أجر»
والثالث أن يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطئ في الإرادة مصيب في الفعل، ولا يخفى أن المعنى الذي ذكرناه راجع إلى الضرب الأول من هذه الضروب، والجملة المؤكدة في موضع التعليل للأمر والتذكير لتغليب الذكور على الإناث واحتمال أن يقال: المراد إنك من نسل الخاطئين فمنهم سرى ذلك العرق الخبيث فيك بعيد جدا، وهذا النداء قيل: من الشاهد الحكيم، وروي ذلك عن ابن عباس، وحمل الاستغفار على طلب المغفرة والصفح من الزوج، ويحتمل أن يكون المراد به طلب المغفرة من الله تعالى ويقال: إن أولئك القوم وإن كانوا يعبدون الأوثان إلّا أنهم مع ذلك يثبتون الصانع ويعتقدون أن للقبائح
(٢) وهذا من كيده فافهم اهـ منه.
.
عاقبة سوء من لديه سبحانه إذا لم يغفرها، واستدل على أنهم يثبتون الصانع أيضا بأن يوسف عليه السلام قال لهم:
أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: ٣٩]، والظاهر أن قائل ذلك هو العزيز، ولعله كما قيل: كان رجلا حليما، وروي ذلك عن الحسن، ولذا اكتفى بهذا القدر من مؤاخذتها، وروي أنه كان قليل الغيرة وهو لطف من الله تعالى بيوسف عليه السلام، وفي البحر أن تربة إقليم قطفير اقتضت ذلك، وأين هذا مما جرى لبعض ملوك المغرب أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنس وجارية تغنيهم من وراء ستر فاستعاد بعض خلصائه بيتين من الجارية كانت قد غنت بهما فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعا في طست، وقال له الملك: استعد البيتين من هذا الرأس فسقط في يد ذلك المستعيد ومرض مدة حياة الملك وَقالَ نِسْوَةٌ المشهور- وإليه ذهب أبو حيان- أنه جمع تكسير للقلة كصبية، وغلمة، وليس له واحد من لفظه بل من معناه وهو امرأة.
وزعم ابن السراج أنه اسم جمع، وعلى كل فتأنيثه غير حقيقي ولا التفات إلى كون ذلك المفرد مؤنثا حقيقا لأنه مع طروّ ما عارض ذلك ليس كسائر المفردات ولذا لم يؤنث فعله، وفي نونه لغتان: الكسر وهي المشهورة والضم وبه قرأ المفضل، والأعمش، والسلمي كما قال القرطبي فلا عبرة بمن أنكر ذلك، وهو إذ ذاك اسم جمع بلا خلاف، ويكسر للكثرة على نساء، ونسوان، وكنّ فيما روي عن مقاتل خمسا: امرأة الخباز، وامرأة الساقي، وامرأة البواب، وامرأة السجان، وامرأة صاحب الدواب.
وروى الكلبي أنهن كنّ أربعا بإسقاط امرأة البواب فِي الْمَدِينَةِ أريد بها مصر، والجار والمجرور في موضع الصفة- لنسوة- على ما استظهره بعضهم، ووصفن بذلك لأن إغاظة كلامهن بهذا الاعتبار لا تصافهن بما يقوي جانب الصدق أكثر فإن كلام البدويات لبعدهن عن مظان الاجتماع والاطلاع على حقيقة أحوال الحضريات القصريات لا يلتفت إلى كلامهن فلا يغيظ تلك الإغاظة، والكثير على اختيار تعلقه- بقال- ومعنى كون قولهن في المدينة إشاعته وإفشاؤه فيها، وتعقب بأن ذلك خلاف الظاهر امْرَأَتُ الْعَزِيزِ هو في الأصل الذي يقهر ولا يقهر كأنه مأخوذ من عز أي حصل في عزاز وهي الأرض الصلبة التي يصعب وطؤها ويطلق على الملك، ولعلهم كانوا يطلقونه إذ ذاك فيما بينهم على كل من ولاه الملك على بعض مخصوص من الولايات التي لها شأن فكان من خواصه ذوي القدر الرفيع والمحل المنيع، وهو بهذا المعنى مراد هنا لأنه أريد به قطفير وهو في المشهور كما علمت إنما كان على خزائن الملك- وكان الملك الريان بن الوليد- وقيل: المراد به الملك، وكان قطفير ملك مصر، واسكندرية، وإضافتهن لها إليه بهذا العنوان دون أن يصرحن باسمها او اسمه ليظهر كونها من ذوات الأخطار فيكون عونا على إشاعة الخبر بحكم أن النفوس الى سماع أخبار ذوي الأخطار أميل، وقيل- وهو الأولى- إن ذاك لقصد المبالغة في لومها بقولهن تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ أي تطلب مواقعته إياها وتتمحل في ذلك، وإيثارهن صيغة للدلالة على دوام المراودة كأنها صارت سجية لها، والفتى من الناس الطري من الشبان، وأصله فتى بالياء لقولهم في التثنية- وهي ترد الأشياء الى أصولها- فتيان، فالفتوة على هذا شاذ، وجمعه فتية، وفتيان، قيل: إنه يائي وواوي ككنوت وكنيت، وله نظائر كثيرة، ويطلق على المملوك والخادم لما أن جل الخدمة شبان.
وفي الحديث «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي»
وأطلق على يوسف عليه السلام هنا لأنه كان يخدمها، وقيل: لأن زوجها وهبه لها فهو مملوكها بزعم النسوة، وتعبيرهن عنه عليه السلام بذلك مظانا إليها لا الى العزيز لإبانة ما بينهما من التباين البين الناشئ عن الخادمية والمخدومية أو المالكية والمملوكية وكل ذلك لتربية ما مر من المبالغة في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوج دنيء قد تعذر في مراودة الأخدان لا سيما إذا كان
فيهم علو الجناب، وأما التي لها زوج فمراودتها لغيره لا سيما لمن لم يكن بينها وبينه كفاءة لها وتماديها في ذلك غاية الغي ونهاية الضلال قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي شق حبه شغاف قلبها وهو حجابه.
وقيل: هو جلدة رقيقة يقال لها: لسان القلب حتى وصل الى فؤادها، وبهذا يحصل المبالغة في وصفها بالحب له، وقيل: الشغاف سويداء القلب، فالمبالغة حينئذ ظاهرة، والى هذا يرجع ما روي عن الحسن من أن الشغاف باطن القلب، وما حكي عن أبي علي من أنه وسطه والفعل مفتوح الغين المعجمة عند الجمهور.
وقرأ ثابت البناني بكسرها وهي لغة تميم،
وقرأ علي كرم الله تعالى وجه، وعلي بن الحسين، وابنه محمد، وابنه جعفر رضي الله تعالى عنهما، والشعبي، وعوف الأعرابي- شعفها-
بفتح العين المهملة، وهي رواية عن قتادة، وابن هرمز، ومجاهد، وحميد، والزهري، وروي عن ثابت البناني (١) أنه قرأ كذلك أيضا إلا أنه كسر العين، وهو من شعف البعير إذ هنأه فأحرقه بالقطران، فالمعنى وصل حبه الى قلبها فكاد يحترق، ومن هذا قول الأعشى:
يعصي الوشاة وكان الحب آونة | مما يزين للمشعوف ما صنعا |
ورتب بعضهم ذلك على طراز آخر والله تعالى أعلم، وأيا ما كان فالجملة إما خبر ثان أو حال من فاعل تُراوِدُ أو من مفعوله، والمقصود منها تكرير اللوم وتأكيد العذل ببيان اختلاف أحوالها القلبية كأحوالها القالبية، وجوز أبو البقاء كونها استئنافية فهي حينئذ على ما قيل: في موضع التعليل لدوام المراودة، وليس بذاك لأنه إن اعتبر من حيث الإنية كان مصيره إلى الاستدلال بالأخفى على الأجلى، وإن اعتبر من حيث اللمية كان فيه ميل إلى تمهيد العذر من قبلها وليس المقام له، وانتصاب حُبًّا على التمييز وهو محول عن الفاعل إذ الأصل قد شغفها حبه كما أشير إليه، وأدغم النحويان، وحمزة، وهشام، وابن محيصن دال قَدْ في شين شغفها.
إِنَّا لَنَراها أي نعلمها، فالرؤية قلبية واستعمالها بمعنى العلم حقيقة كاستعمالها بمعنى الإحساس بالبصر، وإذا أريد منها البصرية ثم تجوز بها عن العلمية كان أبلغ في إفادة كونها فيما صنعت من المراودة والمحبة المفرطة مستقرة فِي ضَلالٍ عظيم عن طريق الرشد والصواب أو سنن العقل مُبِينٍ واضح لا يخفى كونه ضلالا على أحد، أو مظهر لأمرها بين الناس، فالتنوين للتفخيم والجملة مقرّرة لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع، وتسجيل عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم، وإنما لم يقلن: إنها لفي ضلال مبين إشعارا كما قيل: بأن ذلك الحكم
غير صادر منهن مجازفة بل عن علم ورأي مع التلويح بأنهن متنزهات عن أمثال ما هي عليه، وصح اللوم على الشغف قيل: لأنه اختياري باعتبار مباديه كما يشير إليه قوله:
مازحته فعشقته... والعشق أوله مزاح
وإلّا فما ليس باختياري لا ينبغي اللوم عليه كما أشار إليه البوصيري بقوله:
يا لائمي في الهوى العذري معذرة... مني إليك ولو أنصفت لم تلم
وقيل: اللوم عليه باعتبار الاسترسال معه وترك علاجه فإنهم صرحوا بأن ذلك من جملة الأدواء، وذكروا له من المعالجة ما ذكروا، ومن أحسن ما ذكر له من ذلك تذكر مساوئ المحبوب والتفكر في عواقبه فقد قيل:
لو فكر العاشق في منتهى... حسن الذي يسبيه لم يسبه
وتمام الكلام في هذا المقام يطلب في محله فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أي باغتيابهن وسوء مقالتهن، وتسمية ذلك مكرا لشبهه له في الإخفاء، وقيل: كانت استكتمتهن سرها فأفشينه وأطلعن على أمرها، وقيل: إنهن قصدن بتلك المقالة إغضابها حتى تعرض عليهن يوسف لتبدي عذرها فيفزن بمشاهدته والمكر على هذين القولين حقيقة أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ تدعوهن، قيل: دعت أربعين امرأة منهن الخمس أو الأربع المذكورات، وروي ذلك عن وهب، والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها وَأَعْتَدَتْ أي هيأت لَهُنَّ مُتَّكَأً أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد كما روي عن ابن عباس، وهو من الاتكاء الميل إلى أحد الشقين، وأصله موتكأ لأنه من توكأت فأبدلت الواو تاء وأدغمت في مثلها، وروي عن الحبر أيضا أن المتكأ مجلس الطعام لأنهم كانوا يتكؤون له كعادة المترفين المتكبرين، ولذلك نهي عنه،
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى أن يأكل الرجل بشماله وأن يأكل متكئا،
وقيل: أريد به نفس الطعام قال العتبي: يقال: اتكأنا عند فلان أي أكلنا ومن ذلك قول جميل:
فظللنا بنعمة واتكأنا... وشربنا الحلال من قلله
وهو على هذا اسم مفعول أي متكئا له أو مصدر أي اتكاء، وعبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف عن ذلك مجازا، وقيل: هو من باب الكناية، وعن مجاهد أنه الطعام يحز حزا بالسكين واختلفوا في تعيينه، فقيل: كان لحما وكانوا لا ينهشون اللحم وإنما يأكلونه حزا بالسكاكين، وقيل: كان أترجا، وموزا، وبطيخا، وقيل: الزماورد وهو الرقاق الملفوف باللحم وغيره أو شيء شبيه بالأترج، وأنه إنما سمي ما يقطع بالسكين بذلك لأن عادة من يقطع شيئا أن يعتمد عليه فيكون متكأ عليه، وقرأ الزهري، وأبو جعفر، وشيبة- متكي- مشدد التاء من غير همز بوزن متقي وهو حينئذ إما أن يكون من الاتكاء وفيه تخفيف الهمزة كما قالوا في توضأت: توضيت، أو يكون مفتعلا من أو كيت السقاء إذا شددته بالوكاء والمعنى اعتدت لهن ما يشتد عليه بالاتكاء أو بالقطع بالسكين، وقرأ الأعرج متكئا على وزن مفعلا من تكأ يتكأ إذ اتكأ، وقرأ الحسن، وابن هرمز متكئا بالمد والهمز وهو مفتعل من الاتكاء إلّا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف وهو كثير في كلامهم، ومنه قوله:
وأنت من الغوائل حين ترمي... وعن ذم الرجال بمنتزاح
وقوله:
ينباع من ذفرى عضوب حسرة... زيافة مثل الفنيق المكرم (١)
وقرأ ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وقتادة، وآخرون (١) بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وجاء ذلك عن ابن هرمز أيضا، وهو الأترج- عند الأصمعي، وجماعة- والواحد متكة، وأنشد:
فأهدت متكة لبني أبيها | تخب بها العثمثمة الوقاح |
نشرب الإثم بالصواع جهارا | ونرى المتك بيننا مستعارا |
وقال بعض المحققين: لا يبعد أن تسمى هذه الواو فصيحة، وإنما أعطت كل واحدة ذلك لتستعمله في قطع ما يعهد قطعه مما قدم بين أيديهن وقرب إليهن، وغرضها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن لتبكتهنّ بالحجة.
وقيل: غرضها ذاك والتهويل على يوسف عليه السّلام من مكرها إذا أخرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن الخناجر توهمه أنهن يثبن عليه فيكون خائفا من مكرها دائما فلعله يجيبها إلى مرادها، والسكين مذكر عند السجستاني قال: وسألت أبا زيد الأنصاري، والأصمعي، وغيرهم ممن أدركناه فكلهم يذكره وينكر التأنيث فيه، وعن الفراء أنه يذكر ويؤنث، وذلك حكي عن اللحياني، ويعقوب، ومنع بعضهم أن يقال: سكينة، وأنشد عن الكسائي ما يخالف ذلك وهو قوله:
الذئب سكينته في شدقه | ثم قرابا نصلها في حلقه |
والظاهر أنها لم تأمره بالخروج إلّا لمجرد أن يرينه فيحصل مرامها، وقيل: أمرته بالخروج عليهن للخدمة أو للسلام، وقد أضمرت مع ذلك ما أضمرت يحكى أنها ألبسته ثيابا بيضا في ذلك اليوم لأن الجميل أحسن ما يكون في البياض فَلَمَّا رَأَيْنَهُ عطف على مقدر يستدعيه الأمر بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه، وإنما حذف على ما قيل: تحقيقا لمفاجأة رؤيتهن كأنها تفوت عند ذكر خروجه عليهن (٢)، وفيه إيذان بسرعة امتثاله عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرته من الأفاعيل، ونظير هذا آت كما مر آنفا أَكْبَرْنَهُ أي أعظمنه ودهشن برؤية جماله الفائق الرائع الرائق، فإن فضل جماله على جمال كل جميل كان كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
وأخرج ابن جرير، وغيره عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر،
وحكي أنه عليه السلام كان إذا سار في أزقة مصر تلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس،
وجاء عن الحسن أنه أعطي ثلث الحسن،
وفي رواية عن أنس مرفوعا أنه عليه السلام أعطي هو وأمه شطر
(٢) كما حذف لتحقيق السرعة في قوله تعالى: فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ اهـ منه.
الحسن (١)
وتقدم خبر أنه عليه السلام كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى أكبرن حضن، ومن ذلك قوله:
يأتي النساء على أطهارهن ولا | يأتي النساء إذا أكبرن إكبارا |
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع | إذا لحت حاضت في الخدور العوائق |
وأحر قلباه ممن قلبه شبم على تسليم صحته ضعيف في العربية واعترض في الكشف التخريجين الأولين فقال: إن نزع الخافض ضعيف لأنه إنما يجري في الظروف والصفات والصلات، وذلك لدلالة الفعل على مكان الحذف، وأما في مثل هذا فلا، والمصدر ليس من مجازه إذ ليس المقام للتأكيد، وزعم أن الوجه هو الأخير، وكل ما ذكره في حيز المنع كما يخفى.
وأنكر أبو عبيدة مجيء أكبرن بمعنى حضن، وقال: لا نعرف ذلك في اللغة، والبيت مصنوع مختلق لا يعرفه العلماء بالشعر، ونقل مثل ذلك عن الطبري، وابن عطية، وغير واحد من المحققين، ورواية ذلك عن ابن عباس إنما أخرجها ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عبد الصمد، وهو- وإن روى ذلك عن أبيه علي عن أبيه ابن عباس- لا يعول عليه فقد قالوا: إنه عليه الرحمة ليس من رواة العلم.
وعن الكميت الشاعر تفسير أكبرن بأمنين، ولعل الكلام في ذلك كالكلام فيما تقدم تخريجا وقبولا، وأنا لا أرى الكميت من خيل هذا الميدان وفرسان ذلك الشان وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي جرحنها بما في أيديهن من السكاكين لفرط دهشتهن وخروج حركات جوارحهن عن منهاج الاختيار حتى لم يعلمن بما عملن ولم يشعرن بمألم ما نالهن، وهذا كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، وهو معنى حقيقي للتقطيع عند بعض.
وفي الكشف إنه معنى مجازي على الأصح، والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات، وإما بالنسبة لكثرة القطع في يد كل واحدة منهن.
وأخرج ابن المنذر، وغيره عن مجاهد أنه فسر التقطيع بالإبانة، والمعنى الأول أسرع تبادرا إلى الذهن، وحمل الأيدي على الجوارح المعلومة مما لا يكاد يفهم خلافه، ومن العجيب ما روي عن عكرمة من أن المراد بها الأكمام، وأظن أن منشأ هذا محض استبعاد وقوع التقطيع على الأيدي بالمعنى المتبادر، ولعمري لو عرض ما قاله على أدنى الأفهام لاستبعدته وَقُلْنَ تنزيها لله سبحانه عن صفات التقصير والعجز وتعجبا من قدرته جلّ وعلا على مثل ذلك الصنع البديع حاشَ لِلَّهِ أصله حاشا الله بالألف كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفا، وهو
على ما قيل: حرف وضع للاستثناء والتنزيه معا ثم نقل وجعل اسما بمعنى التنزيه وتجرد عن معنى الاستثناء ولم ينون مراعاة لأصله المنقول عنه، وكثيرا ما يراعون ذلك ألا تراهم قالوا: جلست من عن يمينه؟ فجعلوا- عن- اسما ولم يعربوه، وقالوا: غدت من عليه فلم يثبتوا ألف على مع المضمر كما أثبتوا ألف فتى في فتاة كل ذلك مراعاة للأصل، واللام للبيان فهي متعلقة بمحذوف، ورد في البحر دعوى إفادته التنزيه في الاستثناء بأن ذلك غير معروف عند النحاة، ولا فرق بين قام القوم إلّا زيدا، وحاشا زيدا، وتعقب بأن عدم ذكر النحاة ذلك لا يضر لأنه وظيفة اللغويين لا وظيفتهم، واعترض بعضهم حديث النقل بأن الحرف لا يكون اسما إلّا إذا نقل وسمي به وجعل علما، وحينئذ يجوز فيه الحكاية والإعراب، ولذا جعله ابن الحاجب اسم فعل بمعنى برىء الله تعالى من السوء، ولعل دخول اللام كدخولها في هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ، وكون المعنى على المصدرية لا يرد عليه لأنه قيل: إن أسماء الأفعال موضوعة لمعاني المصادر وهو المنقول عن الزجاج، نعم ذهب المبرد، وأبو علي، وابن عطية، وجماعة إلى أنه فعل ماض بمعنى جانب، وأصله من حاشية الشيء وحشيه أي جانبه وناحيته، وفيه ضمير يوسف واللام للتعليل متعلقة به أي جانب يوسف ما قرف به لله تعالى أي لأجل خوفه ومراقبته، والمراد تنزيهه وبعده كأنه صار في جانب عما اتهم به لما رؤي فيه من آثار العصمة وأبهة النبوة عليه الصلاة والسلام، ولا يخفى أنه على هذا يفوت معنى التعجب، واستدل على اسميتها بقراءة أبي السمال «حاشا لله» بالتنوين، وهو في ذلك على حد: سقيا لك، وجوز أن يكون اسم فعل والتنوين كما في صه، وكذا بقراءة أبي، وعبد الله (١) رضي الله تعالى عنهما- حاشا الله- بالإضافة كسبحان الله، وزعم الفارسي أن حاشَ في ذلك حرف جر مرادا به الاستثناء كما في قوله:
حاشا أبي ثوبان إن أبا | ثوبان ليس ببكمة فدم |
ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه | ولا- أحاشى- من الأقوام من أحد |
حاشا قريشا فإن الله فضلهم
وربما يجيبون عن التصرف بالحذف بأن الحذف قد يدخل الحرف كقولهم: أما والله، وأم والله، نعم ردّ عليهم أيضا بأنها تقع قبل حرف الجر، ويقابل هذا القول ما ذهب إليه الفراء من أنها لا تكون حرفا أصلا بل هي فعل دائما ولا فاعل لها، والجر الوارد بعدها كما في
حاشاي إني مسلم معذور
والبيت المار آنفا بلام مقدرة، والحق أنها تكون فعلا تارة فينصب ما بعدها ولها فاعل وهو ضمير مستكن فيها وجوبا يعود إما على البعض المفهوم من الكلام، أو المصدر المفهوم من الفعل، ولذا لم يثن، ولم يجمع، ولم يؤنث، وحرفا أخرى ويجر ما بعدها، ولا تتعلق بشيء كالحروف الزائدة عند ابن هشام، أو تتعلق بما قبلها من فعل أو شبهه عند بعض، ولا تدخل عليها إلّا كما إذا كانت فعلا خلافا للكسائي في زعمه جواز ذلك إذا
جرت، وأنها إذا وقعت قبل لام الجر كانت اسم مصدر مرادفا للتنزيه، وتمام الكلام في محله ما هذا بَشَراً نفين عنه البشرية لما شاهدن من جماله الذي لم يعهد مثاله في النوع الإنساني، وقصرهن على الملكية بقولهن: إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ أي شريف كثير المحاسن بناء على ما ركز في الطباع من أنه لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان ولذا لا يزال يشبه بهما كل متناه في الحسن والقبح وإن لم يرهما أحد، وأنشدوا لبعض العرب:
فلست لأنسى ولكن لملأك | تنزل من جو السماء يصوب |
ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة | حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا |
وأنا النذير بحرة مسودة | تصل الجيوش إليكم قوادها |
أبناؤها متكنفون أباهم | حنقوا الصدور وما هم أولادها |
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب | فأجاب ما قتل المحب حرام |
وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو أيضا إلا أنه روي عنه أنه مع ذلك كسر اللام من ملك، وروى الكسر بن عطية عن الحسن، وأبي الحويرث أيضا، والمراد إدخاله في حيز الملوك بعد، ففي كونه مما يصلح للملوكية فبين الجملتين تناسب ظاهر، وكأن بعضهم لم ير أن من قرأ بذلك قرأ أيضا «ملك» بكسر اللام فقال:
لتحصيل التناسب بينهما في تفسير ذلك أي ما هذا بعبد مشترى لئيم (٢)، وعلى التقديرين لا يقال: إن هذه القراءة
(٢) والأولى أن يقال: أي ما هذا عبد لئيم فيملك بل سيد كريم ما لك فتدبر اهـ منه.
مخالفة لمقتضى المقام، نعم إنها مخالفة لرسم المصحف لأنه لم يكتب ذلك بالياء فيه.
قالَتْ فَذلِكُنَّ الفاء فصيحة والخطاب للنسوة والإشارة- حسبما يقتضيه الظاهر- إلى يوسف عليه السلام بالعنوان الذي وصفته به الآن من الخروج في الحسن والكمال عن المراتب البشرية، والاقتصار على الملكية أو بعنوان ما ذكر مع الأخبار وتقطيع الأيدي بسببه أيضا، فاسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره، والمعنى إن كان الأمر كما قلتن فذلكن الملك الكريم الخارج في الحسن عن المراتب البشرية، أو الذي قطعتن أيديكن بسببه وأكبرتنه ووصفتنه بما وصفتنه هو الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي عيرتنني في الافتنان فيه أو بالعنوان الذي وصفنه به فيما سبق بقولهن: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني، فاسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف دخلت الفاء عليه بعد حذفه، والموصول صفة اسم الإشارة أي فهو ذلكن العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن وقلتن فيه وفيّ ما قلتن، فالآن قد علمتن من هو وما قولكن فينا، وقيل (١) : أرادت هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه على معنى أنكن لم تصورنه بحق صورته ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به، والإشارة بما يشار به إلى البعيد مع قرب المشار إليه وحضوره قيل: رفعا لمنزلته في الحسن واستبعادا لمحله فيه، وإشارة إلى أنه لغرابته بعيد أن يوجد مثله.
وقيل: إن يوسف عليه السلام كان في وقت اللوم غير حاضر وهو عند هذا الكلام كان حاضرا فإن جعلت الإشارة إليه باعتبار الزمان الأول كانت على أصلها، وإن لوحظ الثاني كان قريبا، وكانت الإشارة بما ذكر لتنزيله لعلو منزلته منزلة البعيد، واحتمال أنه عليه السلام أبعد عنهن وقت هذا الكلام لئلا يزددن دهشة وفتنة ولذا أشير إليه بذلك بعيد.
وجوز ابن عطية كون الإشارة إلى حب يوسف عليه السلام، وضمير فِيهِ عائد إليه، وجعل الإشارة على هذا إلى غائب على بابها ويبعده على ما فيه وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وهو إباحة منها ببقية سرها بعد أن أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرها وقد أصابهن من قبله ما أصابها (٢) أي والله لقد راودته حسبما قلتن وسمعتن فَاسْتَعْصَمَ قال ابن عطية: أي طلب العصمة وتمسك بها وعصاني.
وفي الكشاف أن الاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو مجتهد في الاستزادة منها، ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب اهـ.
وفي البحر والذي ذكره الصرفيون في «استعصم» أنه موافق لاعتصم، وأما استمسك واستوسع واستجمع فاستغفل فيه أيضا موافقة لافتعل، والمعنى امتسك واتسع واجتمع، وأما استفحل فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي تفحل نحو استكبر وتكبر، فالمعنى فامتنع عما أرادت منه وبالامتناع فسرت العصمة على إرادة الطلب لأنه هو معناها لغة، قيل: وعنت بذلك فراره عليه السلام منها فإنه امتنع منها أولا بالمقال ثم لما لم يفده طلب ما يمنعه منها بالفرار، وليس المراد بالعصمة ما أودعه الله تعالى في بعض أنبيائه عليهم السلام مما يمنع عن الميل للمعاصي فإنه معنى عرفي لم يكن قبل بل لو كان لم يكن مرادا كما لا يخفى، وتأكيد الجملة بالقسم مع أن مضمونها من مراودتها له عن نفسه مما تحدث به النسوة لإظهار ابتهاجها بذلك.
(٢) وكأنها عملت مما قيل:
لا تخف ما صنعت بك الأشواق | واشرح هواك فكلنا عشاق |
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا | وذلك في الحقيقة لشبهها |
لكن يحتمل أنها أرادت بالذل والعذاب الأليم ما يكون بالضرب بالسياط فقط، أو ما يكون به أو بغيره، أو أرادت بالذل ما يكون بالضرب، وبالعذاب الأليم ما يكون به، أو بغيره أو العكس وكيفما كان الأمر فما طلبته هنا أعظم مما لوحت بطلبه هناك لمكان الواو هنا وأو هناك، ولعلها إنما بالغت في ذلك بمحضر عن تلك النسوة لمزيد غيظها بظهور كذبها وصدقه وإصراره على عدم بلّ غليلها، ولتعلم يوسف عليه السلام أنها ليست في أمرها على خيفة ولا خفية من أحد، فيضيق عليه الحيل ويعيي به العلل وينصحن له ويرشدنه إلى موافقتها فتدبر قالَ استئناف بياني كأن سائلا يقول:
فماذا صنع يوسف حينئذ؟ فقيل: قالَ مناجيا لربه عزّ وجلّ رَبِّ السِّجْنُ الذي وعدتني بالإلقاء فيه، وهو اسم للمحبس، وقرأ عثمان مولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي إسحاق وابن هرمز ويعقوب «السّجن» بفتح السين على أنه مصدر سجنه أي حبسه، وهو في القراءتين مبتدأ خبره ما بعده، وقرأ «ربّ» بالضم، و «السّجن» بكسر السين والجر على الإضافة- فرب- حينئذ مبتدأ والخبر هو الخبر، والمعنى على ما قيل: لقاء صاحب السجن أو مقاساة أمره أَحَبُّ إِلَيَّ أي آثر عندي لأن فيه مشقة قليلة نافذة إثرها راحات كثيرة أبدية مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من مواتاتها التي تؤدي إلى الشقاوة والعذاب الأليم، وصيغة التفضيل ليست على بابها إذ ليس له عليه السلام شائبة محبة لما يدعونه إليه وإنما هو والسجن شران أهونهما وأقربهما إلى الإيثار السجن، والتعبير عن الإيثار بالمحبة لحسم مادة طمعها عن المساعدة لها على مطلوبها خوفا من الحبس، والاقتصار على السجن لكون الصغار من مستتبعاته على ما قيل، وقيل: اكتفى عليه السلام بذكر السجن عن ذكره لوفائه بالغرض وهو قطع طمعها عن المساعدة خوفا مما توعدته به لأنها تظن أن السجن أشد عليه من الصغار بناء على زعمها أنه فتاها حقيقة وأن الفتيان لا يشق عليهم ذلك مشقة السجن، ومتى كان الأشد أحب إليه مما يدعونه إليه كان غير الأشد أحب إليه من باب أولى، وفيه منع ظاهر، وإسناد الدعوة إليهن لأنهن خوفنه عن مخالفتها وزيّن له مطاوعتها، فقد روي أنهنّ قلن له: أطع مولاتك واقض حاجتها لتأمن من عقوبتها فإنها المظلومة وأنت الظالم، وروي أن كلّا منهنّ طلبت الخلوة لنصيحته فلما خلت به دعته إلى نفسها،
وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن كل واحدة منهن أرسلت إليه سرا تسأله الزيارة،
فإسناد ذلك إليهنّ لأنهن أيضا دعونه إلى أنفسهن صريحا أو إشارة.
وفي أثر ذكره القرطبي أنه عليه السلام لما قال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ إلخ أوحى الله تعالى إليه: يا يوسف أنت جنيت على نفسك ولو قلت: العافية أحب إلي عوفيت، ولذلك رد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على من كان يسأل الصبر،
فقد روى الترمذي عن معاذ بن جبل عنه عليه الصلاة والسلام أنه سمع رجلا وهو يقول:
«اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: سألت الله تعالى فاسأله العافية».
وَإِلَّا تَصْرِفْ أي وإن لم تدفع عَنِّي كَيْدَهُنَّ في تحبيب ذلك إلي وتحسينه لدي بأن تثبتني على ما أنا عليه من العصمة والعفة أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي أمل على قضية الطبيعة وحكم القوة الشهوية إلى إجابتهن بمواتاتها أو إلى أنفسهن وهو كناية عن مواتاتهن، وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جريا على سنن الأنبياء عليهم السلام والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله تعالى وسلب القوى والقدر عن أنفسهم ومبالغة في استدعاء لطفه سبحانه في صرف كيدهن بإظهار أنه لا طاقة له بالمدافعة كقول المستغيث: أدركني وإلّا هلكت، لا أنه عليه السلام يطلب الإجبار الإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى السوء كذا قرّره المولى أبو السعود وهو معنى لطيف وقد أخذه من كلام الزمخشري لكن قال القطب، وغيره: إنه فرار إلى الاعتزال وإشارة إلى جواب استدلال الأشاعرة بهذه الآية على أن العبد لا ينصرف عن المعصية إلّا إذا صرفه الله تعالى وقد قرّر