آيات من القرآن الكريم

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٤ الى ١٠١]

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ يعني خرجت من عريش مصر متوجّهة إلى كنعان.
قالَ أَبُوهُمْ لولد ولده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ روي أنّ الريح استأذنت ربّها في أن تأتي يعقوب (عليه السلام) بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير، فأذن لها فأتته بها، ابن السدّي عن أبيه عن مجاهد، قال: أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيّام وذلك أنّه هبّت فصفقت القميص فاحتملت الريح ريح القميص إلى يعقوب فوجد ريح الجنّة فعلم أن ليس في الأرض من ريح الجنّة إلّا أن تأتي من ذلك القميص فمن ثمّ قال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ، وهو منه على مسيرة ثماني ليال.
وروى شعيبة عن أبي سنان قال: سمعت عبد الله بن أبي الهذيل قال: سمعت ابن عباس يقول: وجد يعقوب ريح يوسف روى أبو سنان عن أبي هذيل قال: سمعت ابن عباس يقول:
وجد يعقوب ريح يوسف وهو منه على مسيرة ثماني ليال، وروى شعيبة عن أبي سنان قال:
سمعت عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس في هذه الآية قال: وجد ريحه من مسيرة ما بين البصرة والكوفة. وقال الحسن: ذكر لنا أنّه كان بينهما يومئذ ثمانون فرسخا.
لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ: سفيان عن حصيف، عن مجاهد لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ، قال: تسفهون الرأي، عن ابن عباس: تجهلون، ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد: لولا أن تقولوا ذهب عقلك: سعيد بن جبير والسدّي ولضحّاك: تكذّبون، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والحسن وقتادة: تهرمون، ومثله روى إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد، ربيع: تحمقون، جويبر عن الضحّاك: تهرمون، فتقولون: شيخ كبير قد خرف وذهب عقله، ابن يسار: تضعفون، أبو عمرو بن العلاء: تقبحون، الكسائي: تعجزون، الأخفش: تلومون، أبو عبيدة: تضللون، وأصل الفند: الفساد، قال النابغة:
إلّا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاحددها عن الفند «١»
(١) تفسير الطبري: ١/ ٤١١، لسان العرب: ٣/ ١٤٢ وفيه الإله بدل المليك.

صفحة رقم 255

أي أمنعها من الفساد، ولذلك يقال: اللوم تفنيد، قال الشاعر:

يا صاحبيّ دعا لومي وتفنيدي فليس ما فات من أمر بمردود «١»
وقال جرير بن عطية:
يا عاذليّ دعا الملام وأقصرا طال الهوى وأطلتما التفنيدا «٢»
وقال آخر:
أهلكتني باللوم والتفنيد «٣»
والفند: الخطأ في الكلام والرأي ويقال:
أفند فلانا الدهر إذا أفسده، ومنه قول ابن مقبل:
دع الدهر يفعل ما أراد فإنّه إذا كلّف الافناد بالناس أفندا «٤»
قالُوا يعني أولاد أولاده تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ خطأك الْقَدِيمِ من حبّك يوسف لا تنساه، فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ المبشّر برسالة يوسف، قال ابن عباس: البريد يهوذا بن يعقوب، ابن مسعود: جاءَ الْبَشِيرُ من بين يدي العير قال السدّي: قال يهوذا: أنا ذهبت بالقميص ملطّخا بالدم إلى يعقوب وأخبرته أنّ يوسف أكله الذئب، وأنا أذهب اليوم بالقميص وأخبره أنّه حيّ وأفرحه كما أحزنته، قال ابن عباس: حمله يهوذا دونهم، وخرج حاسرا حافيا وجعل يعدو حتى أتى أباه، وكان معه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها، وكانت المسافة ثمانين فرسخا، وروى الضحّاك عن ابن عباس، قال: البشير مالك بن ذعر من أهل مدين.
أَلْقاهُ يعني ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب، فَارْتَدَّ بَصِيراً: فعاد بصيرا بعد ما كان عمي.
عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي عبد الله السلمي: قال سمعت يحيى بن مسلم عمّن ذكره قال: كان يعقوب أكرم أهل الأرض على ملك الموت، وإنّ ملك الموت استأذن ربّه في أن يأتي يعقوب فأذن له فجاءه فقال يعقوب: يا ملك الموت أسألك بالذي خلقك، هل أخذت نفس يوسف فيمن قبضت من النفوس؟ قال: لا، قال ملك الموت: يا يعقوب ألا أعلّمك دعاء؟ قال:
بلى، قال: قل: يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا ولا يحصيه غيرك، قال: فدعا به يعقوب في تلك الليلة فلم يطلع الفجر حتى طرح القميص عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً، قال الضحّاك: رجع إليه
(١) زاد المسير: ٤/ ٢١٣.
(٢) تفسير الطبري: ١٣/ ٨١.
(٣) تفسير القرطبي: ٩/ ٢٦٠.
(٤) تفسير الطبري: ١٣/ ٧٨.

صفحة رقم 256

بصره بعد العمى والقوّة بعد الضعف والشباب بعد الهرم والسرور بعد الحزن.
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من حياة يوسف وأنّ الله يجمع بيننا قالُوا بعد ذلك يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ مذنبين.
قالَ يعقوب (عليه السلام) : سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي في صلاة الليل، قال أكثر المفسّرين: أخّره من الليل إلى السحر، وذلك أنّ الدعاء بالأسحار لا يحجب عن الله، فلمّا انتهى يعقوب إلى الموعد تقدّم إلى الصلاة بالسحر، فلمّا فرغ منها رفع يده إلى الله تعالى: اللهمّ اغفر لي حزني على يوسف وقلّة صبري عنه، واغفر لولدي ما أتوا على يوسف، فأوحى الله إليه: إنّي قد غفرت لك ولهم أجمعين.
قال محارب بن دثار: كان عمّ لي يأتي المسجد، قال: فمررت بدار عبد الله بن مسعود فسمعته يقول: اللهمّ إنّك دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت فهذا سحر فاغفر لي. فسألته عن ذلك فقال: إنّ يعقوب أخّر استغفار بنيه إلى السحر بقوله: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي.
عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سوف أستغفر لكم ربّي، يقول: حتى يأتي يوم «١» الجمعة» [١٢٨] «٢».
قال وهب: كان يستغفر لهم كلّ ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة، وقال طاوس: أخّر إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ذلك ليلة عاشوراء.
عن أبي سلمة عن عطاء الخراساني قال: طلب الحوائج إلى الشاب أسهل منها في الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، وقول يعقوب (عليه السلام) :
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي.
أبو الحسن الملاني الشعبي: قال: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي، قال: أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفر لكم ربي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ روي أنّ يعقوب (عليه السلام) قال للبشير لمّا أخبره بحياة يوسف، قال: كيف تركت يوسف؟ قال: إنّه ملك مصر، فقال يعقوب: ما أصنع بالملك؟ على أيّ دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. فقال يعقوب: الآن تمّت النعمة.
وقال الثوري: لمّا التقى يعقوب ويوسف (عليهما السلام) عانق كلّ واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف: يا أبة بكيت عليّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ قال:
بلى بنيّ، ولكن خشيت أن تسلب دينك، فيحال بيني وبينك.

(١) في المصدر: ليلة الجمعة.
(٢) سنن الترمذي: ٥/ ٢٢٤، تفسير الطبري: ١٣/ ٨٥.

صفحة رقم 257

قالوا: قد كان يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا ومائتي راحلة، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده أجمعين، متهيّأ يعقوب للخروج إلى مصر، فلمّا دنا من مصر كلّ يوسف الملك الذي فوقه فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند، وركب أهل مصر معهما، يتلقون يعقوب، ويعقوب يمشي ويقود ركابه يهوذا، فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال ليهوذا: هذا فرعون مصر؟ قال: لا، هذا ابنك.
فلمّا دنا كلّ واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع من ذلك وكان يعقوب أحقّ بذلك منه وأفضل، فابتدأه يعقوب بالسلام وقال: السلام عليك أيّها الذاهب بالأحزان، فذلك قوله عزّ وجل: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ.
فإن قيل: كيف قال لهم يوسف: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ بعد ما دخلوها، وقد أخبر الله أنّهم لما دخلوا على يوسف وضمّ إليه أبويه قال لهم هذا القول حين تلقّاهم قبل دخولهم مصر كما ذكرنا.
وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير، وهذا الاستثناء من قول يعقوب حين قال: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ومعنى الكلام: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إن شاء الله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ: ادْخُلُوا مِصْرَ... آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وهذا معنى قول أبي جرير، وقال بعضهم: إنّما وقع الاستثناء على الأمن لا على الدخول كقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «١»
وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند دخول المقابر: «وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» [١٢٩] «٢».
فالاستثناء وقع على اللحوق بهم لا على الموت، وقيل: (إن) هاهنا بمعنى (إذ) كقوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «٣»، وقوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «٤»، وقوله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «٥».
وقال ابن عباس: إنّما قال: آمِنِينَ لأنّهم فيما خلا كانوا يخافون ملوك مصر ولا يدخلون مصر لأنّهم لا جواز لهم، وأمّا قوله تعالى آوى فقال ابن إسحاق: أباه وأمّه وقال الآخرون:

(١) سورة الفتح: ٢٧.
(٢) صحيح مسلم: ١/ ١٥٠.
(٣) سورة البقرة: ٢٧٨.
(٤) سورة آل عمران: ١٣٩.
(٥) سورة النور: ٣٣.

صفحة رقم 258

أبوه وخالته لعيّا، وكانت راحيل أمّ يوسف قد ماتت في نفاسها وتزوّج يعقوب بعدها أختها لعيا فسمى الخالة أمّا كما سمّى العمّ أبا في قوله: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
وروى إسحاق عن بشر عن سعيد عن الحسن، قال: نشر الله راحيل أمّ يوسف من قبرها حتى سجدت تحقيقا للرؤيا.
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ على السرير، يعني أجلسهما عليه قال ابن إسحاق يعني رفع اسمهما وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً يعني يعقوب وخالته وإخوته، كانت تحيّة الناس يومئذ السجود، ولم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض، لأنّ ذلك لا يجوز إلّا لله تعالى وإنّما هو الانحناء والتواضع على طريق التحيّة والتعظيم والتسليم إلّا على جهة العبادة والصلاة، وهذا قول الأعشى بن ثعلبة:

فلمّا أتانا بعيد الكرى سجدنا له ورفعنا العمارا «١»
وقال آخر:
فضول أزمتها لأمّها أسجدت سجود النصارى لأربابها «٢»
وقيل: السجود في اللغة الخضوع كقول النابغة «٣» :
بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر «٤»
أي متطامنة ذليلة.
قال [ثعلبة] : خرّوا يعني مرّوا، ولم يرد الوقوع والسقوط على الأرض، نظيره قوله تعالى:
لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً «٥» إنّما أراد لم يمرّوا كذلك، مجاهد: بمعنى المرور، وروي عن ابن عباس أنّ معناه خرّوا لله سجّدا فقوله: له كناية عن الله تعالى وَقالَ يوسف عند ذلك واقشعرّ جلده: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا، وهو قوله إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً.
واختلفوا في مدّة غيبة يوسف عن يعقوب، فقال الكلبي: مائتان وعشرون سنة، سلمان الفارسي: أربعون سنة، عبد الله بن شدّاد: سبعون سنة وقيل: سبع وسبعون سنة، وقال الحسن:
ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد لقائه
(١) الصحاح: ٢/ ٧٥٨.
(٢) الصحاح: ٢/ ٤٨٤، تفسير القرطبي: ١/ ٢٩١ وفيه لأحبارها بدل لأربابها. [.....]
(٣) في المصدر: كقول زيد الخيل بدل النابغة.
(٤) الصحاح: ٢/ ٤٨٣، تفسير الطبري: ١/ ٤٢٧.
(٥) سورة الفرقان: ٧٣.

صفحة رقم 259

بيعقوب ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن عشرين ومائه سنة، وفي التوراة: مائة وستّ وعشر سنين. في قول ابن إسحاق بن يسار: ثمانين وسبعة أعوام، وقال ابن أبي إسحاق: ثماني عشرة سنة، وولد ليوسف من امرأة العزيز: افراثيم وميشا ورحمة امرأة أيّوب، وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة.
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ولم يقل من الجبّ استعمالا للكرم لئلّا يذكّر إخوته صنيعهم، وقيل: لأنّ نعمة الله عليه في النجاة من السجن أكبر من نعمته عليه في إنقاذه من الجب، وذلك أنّ وقوعه في البئر كان لحسد إخوته، ووقوعه في السجن مكافأة من الله لزلّة كانت منه.
وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ وذلك أنّ يعقوب وبنوه كانوا أهل بادية ومواشي، والبدو مصدر قولك: بدا، يبدو، بدوّا، إذا صار بالبادية، مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ أفسد الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ ذو لطف وصنع لِما يَشاءُ عالم بدقائق الأمور وحقائقها، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
روى عبد الصمد عن أبيه عن وهب: قال: دخلوا- يعني يعقوب وولده- مصر وهم اثنان وسبعون إنسانا ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاطنهم ستّمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا سوى الذرّية والهرمى والزمنى، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتا ألف سوى المقاتلة.
قال أهل التاريخ: أقام يعقوب بمصر بعد موافاته بأهله أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش، ثمّ مات بمصر، ولمّا حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك ومضى به حتى دفنه بالشام، ثمّ انصرف إلى مصر.
قال سعيد بن جبير: نقل في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ووافق ذلك يوم مات عيصوا فدفنا في قبر واحد، فمن ثمّ تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس من فعل ذلك منهم، وولد يعقوب وعيص في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعا مائة وسبعة وأربعين سنة.
قالوا: فلمّا جمع الله ليوسف شمله وأقرّ له عينه وأتمّ له رؤياه، وكان موسّعا له في ملك الدنيا ونعيمها علم أنّ ذلك لا يدوم له وأن لا بدّ له من فراقه فأراد نعيما هو [أدوم] منه، فاشتاقت نفسه إلى الجنّة فتمنى الموت ودعا ربّه، ولم يتمنّ نبي قبله ولا بعده الموت فقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ يعني ملك مصر وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ يعني تعبير الرؤيا فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقها وبارئها.
أَنْتَ وَلِيِّي معيني فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تتولّى أمري تَوَفَّنِي اقبضني إليك مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بآبائي النبيين.

صفحة رقم 260
الكشف والبيان عن تفسير القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أو الثعالبي
راجعه
نظير الساعدي
الناشر
دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان
سنة النشر
1422 - 2002
الطبعة
الأولى 1422، ه - 2002 م
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية