
اللقاء المبارك لأسرة يعقوب كلها
كانت قصة يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته من العجائب، وتمت فصولها ومشاهدها على مدى طويل، لتعليم الناس وإرشادهم إلى ضرورة التصديق أولا بأخبار الأنبياء الذين يخبرون عن الله بالوحي، وإلى لزوم الاعتصام بالإيمان بالله عزّ وجلّ، وبالصبر الجميل على الأحداث، وإلى تفويض الأمر لله تعالى دون تعجيل بالثأر أو الانتقام أو اقتراف الخطأ والذنب، كما حدث من إخوة يوسف. وأدّت فصول هذه القصة إلى الهدف المرجى، وهو لقاء الأسرة اليعقوبية لقاء كريما مباركا فيه، وذلك في المرة الرابعة من رحلات أولاد يعقوب إلى مصر، وتم في هذا اللقاء تأويل رؤيا يوسف من قبل بسجود أحد عشر كوكبا له، وهم أهله وإخوته، قال الله تعالى موضحا هذا التأويل وذلك اللقاء العظيم:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠)
«١» «٢» «٣» [يوسف: ١٢/ ٩٩- ١٠٠].
بعد أن طلب يوسف عليه السّلام من إخوته أن يأتوه بأهله أجمعين، فرحلوا من بلاد كنعان- فلسطين- إلى مصر، للإقامة معه فيها، فحضر يعقوب أبوه وخالته وإخوته وأسرهم، فلما أخبر يوسف عليه السّلام باقترابهم من أرض مصر، خرج لتلقّيهم ومعه الأمراء وأكابر الناس، فلما دخلوا على يوسف في أبهة الملك
(٢) البادية.
(٣) حرّش وأغرى.

والسلطان، ضمّ إليه أبويه وعانقهما، على ما رجح ابن جرير، أو أباه وخالته لأن أمه كانت قد ماتت، فتزوج يعقوب بهذه الخالة.
وقال يوسف لأسرته جميعا: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أي تمكّنوا واسكنوا واستقرّوا في بلاد مصر، بمشيئة الله، آمنين على أنفسكم وأموالكم وأهليكم، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
ورفع يوسف أبويه على سرير ملكه، بأن أجلسهما معه، تكريما لهما، وسجد له الإخوة الأحد عشر والأبوان سجود تحية وإكرام له، لا سجود عبادة وتقديس، وكان سجود الانحناء هو تحية الملوك والعظماء في زمنهم.
وبعد هذه التحية قال يوسف: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ أي إن هذا السجود هو تأويل رؤياي القديمة حال صغري، وهي: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: ١٢/ ٤]. وتأويل رؤياي: ما آل إليه الأمر.
إن تلك الرؤيا العجيبة الغريبة، أصبحت حقيقة واقعة، وصحيحة صدقا فإن رؤيا الأنبياء حقّ ثابت، فكما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده إسماعيل، صارت سببا لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة والواقع، فكذلك صارت هذه الرؤيا ليوسف سببا لوجوب ذلك السجود: سجود التّحية.
وأضاف يوسف قائلا: وقد أحسن الله تعالى إلي وأفاض علي من نعمه وأفضاله، وعبّر بقوله: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي أي أوقع وناط إحسانه بي، إذ أطلق سراحي من السجن، ورزقني الملك، وجاء بكم من البادية، وكانوا أهل بادية وماشية وشظف عيش، فنقلكم من الشقاوة إلى النعمة، ومن البادية لسكون الحاضرة والمدينة ذات الترف والسعة والرفاه.
ولم يذكر يوسف قصة إخراجه من البئر، تكريما لإخوته، وحفظا لحيائهم،

وحدث كل هذا من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، أي فعل فعلا أفسد به، وأغوى وأساء العلاقة بيني وبين إخوتي، ونسب النّزغ للشيطان لأنه سبب الإفساد.
وإنما ذكر يوسف هذا القدر من أمر إخوته ليبيّن حسن موقع النّعم لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء، فهي أحسن موقعا. وأما نزغ الشيطان فهو حقيقة واقعة
لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه البخاري عن أبي هريرة-: «لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري، لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار».
والمعنى: يرمي به في يده ويحقق ضربته. ومن رواه «ينزغ» فمعناه الإغراء، أي يزيّن له الشيطان تحقيق الضربة.
ثم قال يوسف: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أي إن الله إذا أراد أمرا، قيّض له أسبابا، وقدّره ويسّره، إنه هو العليم بمصالح عباده، الحكيم في أقواله وأفعاله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده.
نهاية قصة يوسف والعبرة منها
تضمنت قصة يوسف عليه السّلام مجموعة من المبادئ الاعتقادية والأخلاقية والدينية، كوّنت همزة وصل وجسور التقاء بين رسالة يوسف ورسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، أساسها شكر النعمة لخالق الأرض والسماء، ومبناها الإيمان بالغيب، وفيها براهين لإثبات وجود الله تعالى وتوحيده تقوم على أساس التّفكر والتأمل في آيات الله الكونية، وتتضمن وصف أكثر الناس بعدم الإيمان، وتهديدهم بإتيان العذاب أو مجيء القيامة، مما يجعل دعوة خاتم الأنبياء تقوم على هذه الأسس القديمة القويمة، وعلى الإقناع والعقل والتبصّر في الأمور، وإثبات توحيد الله، ورفض الشّرك والوثنية. وصف الله تعالى هذه الجسور بين رسالات الأنبياء بقوله تعالى: