
وجثوم الرماد. ويَغْنَوْا مضارع من غني في المكان إذا أقام فيه في خفض عيش وهي المغاني: وقرأ حمزة وحده: «ألا ان ثمود» وكذلك في الفرقان والعنكبوت والنجم، وصرفها الكسائي كلها. وقوله: أَلا بُعْداً لِثَمُودَ واختلف عن عاصم: فروى عنه حفص ترك الإجراء كحمزة، وروى عنه أبو بكر إجراء الأربعة وتركه في قوله: أَلا بُعْداً لِثَمُودَ وقرأ الباقون: «ألا إن ثمودا» فصرفت «ألا بعد لثمود» غير مصروف والقراءتان فصيحتان وكذلك صرفوا في الفرقان والعنكبوت والنجم.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٩ الى ٧١]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١)
«الرسل» الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقالت فرقة: بدل إسرافيل عزرائيل- ملك الموت- وروي أن جبريل منهم كان مختصا بإهلاك قرية لوط، وميكائيل مختصا بتبشير إبراهيم بإسحاق.
وإسرافيل مختصا بإنجاء لوط ومن معه.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية تقضي باشتراكهم في البشارة بإسحاق وقالت فرقة- وهي الأكثر- «البشرى» هي بإسحاق. وقالت فرقة: «البشرى» هي بإهلاك قوم لوط.
وقوله: سَلاماً نصب على المصدر، والعامل فيه فعل مضمر من لفظه كأنه قال: أسلم سلاما، ويصح أن يكون: سَلاماً حكاية لمعنى ما قالوه لا للفظهم- قاله مجاهد والسدي- فلذلك عمل فيه القول، كما تقول- الرجل قال: لا إله إلّا الله- قلت حقا أو إخلاصا ولو حكيت لفظهم لم يصح أن تعمل فيه القول وقوله: قالَ: سَلامٌ حكاية للفظه، وسَلامٌ مرتفع إما على الابتداء، والخبر محذوف تقديره عليكم وإما على خبر ابتداء محذوف تقديره أمري سلام، وهذا كقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف: ١٨] إما على تقدير فأمري صبر جميل، وإما على تقدير: فصبر جميل أجمل.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: «قالوا: سلاما قال: سلام» وقرأ حمزة والكسائي:
«قالوا سلاما، قال: سلم» وكذلك اختلافهم في سورة الذاريات. وذلك على وجهين: يحتمل أن يريد به السّلام بعينه، كما قالوا حل وحلال وحرم وحرام ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل]
مررنا فقلنا إيه سلم فسلمت | كما اكتلّ بالبرق الغمام اللوائح |

وكان سلام الملائكة دعاء مرجوا- فلذلك نصب- وحيي الخليل بأحسن مما حيي وهو الثابت المتقرر ولذلك جاء مرفوعا.
وقوله: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ يصح أن تكون «ما» نافية، وفي لَبِثَ ضمير إبراهيم وإن جاء في موضع نصب أي بأن جاء، ويصح أن تكون «ما» نافية وإن جاء بتأويل المصدر في موضع رفع ب لَبِثَ أي ما لبث مجيئه، وليس في لَبِثَ على هذا ضمير إبراهيم، ويصح أن يكون «ما» بمعنى الذي وفي لَبِثَ ضمير إبراهيم- وإن جاء خبر «ما» أي فلبث إبراهيم مجيئه بعجل حنيذ، وفي أدب الضيف أن يجعل قراه من هذه الآية.
و «الحنيذ» بمعنى المحنوذ ومعناه بعجل مشوي نضج يقطر ماؤه، وهذا القطر يفصل الحنيذ من جملة المشويات، ولكن هيئة المحنوذ في اللغة الذي يغطى بحجارة أو رمل محمي أو حائل بينه وبين النار يغطى به والمعرض من الشواء الذي يصفف على الجمر والمهضب: الشواء الذي بينه وبين النار حائل، يكون الشواء عليه لا مدفونا له، والتحنيذ في تضمير الخيل هو أن يغطى الفرس بجل على جل لينتصب عرقه.
وقوله تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ... الآية، روي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه، وفي هذه الآية من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر من ضيفه هل يأكل أم لا؟
قال القاضي أبو محمد: وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر، فروي أن أعرابيا أكل مع سليمان بن عبد الملك، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك، فقال له: أتنظر إلي نظر من يرى الشعر في لقمتي والله لا أكلت معك.
ونَكِرَهُمْ- على ما ذكر كثير من الناس- معناه: أنكرهم، واستشهد لذلك بالبيت الذي نحله أبو عمرو بن العلاء الأعشى وهو: [البسيط]
وأنكرتني وما كان الذي نكرت... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وقال بعض الناس: «نكر» هو مستعمل فيما يرى بالبصر فينكر، وأنكر هي مستعملة فيما لا يقرر من المعاني، فكأن الأعشى قال: وأنكرتني مودتي وأدمتي ونحوه، ثم جاء ب «نكر» في الشيب والصلع الذي هو مرئي بالبصر، ومن هذا قول أبي ذؤيب: [الكامل]
فنكرنه فنفرن وامترست به... هو جاء هادية وهاد جرشع
والذي خاف منه إبراهيم عليه السّلام ما يدل عليه امتناعهم من الأكل، فعرف من جاء بشر أن لا يأكل طعام المنزول به، وأَوْجَسَ معناه أحس في نفسه خيفة منهم، و «الوجيس» : ما يعتري النفس عند الحذر وأوائل الفزع، فأمنوه بقولهم: لا تَخَفْ وعلم أنهم الملائكة، ثم خرجت الآية إلى ذكر المرأة وبشارتها فقالت فرقة: معناه: قائِمَةٌ خلف ستر تسمع محاورة إبراهيم مع أضيافه، وقالت فرقة: معناه قائِمَةٌ في صلاة، وقال السد معناه قائِمَةٌ تخدم القوم، وفي قراءة ابن مسعود: «وهي قائمة وهو جالس». وقوله

فَضَحِكَتْ قال مجاهد: معناه: حاضت، وأنشد على ذلك اللغويون:
وضحك الأرانب فوق الصفا | كمثل دم الجوق يوم اللقاء |
وقال وهب بن منبه: ضحكت من البشارة بإسحاق، وقال: هذا مقدم بمعنى التأخير، وقال محمد بن قيس: ضحكت لظنها بهم أنهم يريدون عمل قوم لوط قال القاضي: وهذا قول خطأ لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقد حكاه الطبري، وإنما ذكرته لمعنى التنبيه على فساده، وقالت فرقة: ضحكت من فزع إبراهيم من ثلاثة وهي تعهده يغلب الأربعين من الرجال، وقيل: المائة. وقال السدي: ضحكت من أن تكون هي تخدم وإبراهيم يحفد ويسعى والأضياف لا يأكلون. وقيل: ضحكت سرورا بصدق ظنها، لأنها كانت تقول لإبراهيم، إنه لا بد أن ينزل العذاب بقوم لوط، وروي أن الملائكة مسحت العجل فقام حيا فضحكت لذلك.
وقرأ محمد بن زياد الأعرابي: «فضحكت» بفتح الحاء.
وامرأة إبراهيم هذه هي سارة بنت هارون بن ناحور، وهو إبراهيم بن آزر بن ناحور فهي ابنة عمه، وقيل: هي أخت لوط.
قال القاضي أبو محمد: وما أظن ذلك إلا أخوة القرابة لأن إبراهيم هو عم لوط فيما روي: وذكر الطبري أن إبراهيم لما قدم العجل قالوا له: إنّا لا نأكل طعاما إلا بثمن، فقال لهم: ثمنه أن تذكروا الله تعالى عليه في أول، وتحمدوه في آخر، فقال جبريل لأصحابه: بحق اتخذ الله هذا خليلا.
وقوله: فَبَشَّرْناها أضاف فعل الملائكة إلى ضمير اسم الله تعالى إذ كان بأمره ووحيه، وبشر الملائكة سارة بِإِسْحاقَ وبأن إسحاق سيلد يعقوب، ويسمى ولد الولد من الوراء، وهو قريب من معنى وراء في الظروف إذ هو ما يكون خلف الشيء وبعده ورأي ابن عباس رجلا معه شاب، فقال له: من هذا؟ فقال له: ولد ولدي، فقال: هو ولدك من الوراء، فغضب الرجل، فذكر له ابن عباس الآية.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي «يعقوب» بالرفع على الابتداء والخبر المقدم، وهو على هذا دخل في البشرى، وقالت فرقة: رفعه على القطع بمعنى: ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب، وعلى هذا لا يدخل في البشارة وقرأ ابن عامر وحمزة «يعقوب» بالنصب واختلف عن عاصم، فمنهم من جعله معطوفا على «إسحاق» إلا أنه لم ينصرف، واستسهل هذا القائل أن فرق بين حرف العطف والمعطوف بالمجرور، وسيبويه لا يجيز هذا إلا على إعادة حرف الجر، وهو كما تقول: مررت بزيد اليوم وأمس عمرو، فالوجه صفحة رقم 189