انتهاء الطوفان ونجاة السفينة وهلاك ابن نوح مع استشفاع أبيه
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٢ الى ٤٧]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦)
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)
الإعراب:
لا عاصِمَ اسم لا، وخبرها: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وهو متعلق بمحذوف، تقديره:
لا ذا عصمة كائن من أمر الله. الْيَوْمَ معمول الظرف، وإن تقدم عليه، كقولهم: كلّ يوم لك درهم. أي في اليوم.
مَنْ رَحِمَ منصوب على أنه استثناء منقطع لأن عاصِمَ فاعل، ومَنْ رَحِمَ مفعول. وقيل: لا عاصِمَ بمعنى معصوم، فلا يكون مَنْ رَحِمَ استثناء منقطعا، وإنما هو
بدل مرفوع من عاصِمَ. والتقدير: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم أي الراحم، وهو الله تعالى.
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ مبتدأ وخبر.
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ يعود الضمير إلى السؤال، أي إن سؤالك أن أنجي كافرا عمل غير صالح، أو يعود إلى الابن، والمراد: إنه ذو عمل غير صالح، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ومن قرأه عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ جعله فعلا ماضيا، ونصب غَيْرُ على أنه مفعول به، وهذه القراءة تدل على أن الضمير في إِنَّهُ يعود على الابن.
فَلا تَسْئَلْنِ الأصل فيه أن تأتي بثلاث نونات: نوني التوكيد ونون الوقاية، فاجتمعت ثلاث نونات فاستثقلوا اجتماعها، فحذفوا الوسطى لأن نون الوقاية لا تحذف، وكسرت الشديدة للياء، ثم حذفت اكتفاء بالكسرة.
البلاغة:
يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي بين الأرض والسماء طباق، وبين ابلعي وأقلعي جناس ناقص.
قال أبو حيان: في هذه الآية و، حد وعشرون نوعا من البديع بالرغم من أن ألفاظها تسع عشرة لفظة: المناسبة في قوله: أَقْلِعِي وابْلَعِي، والمطابقة بذكر الأرض والسماء، والمجاز في قوله يا سَماءُ المراد مطر السماء.
والاستعارة في قوله: أَقْلِعِي، والإشارة في قوله وَغِيضَ الْماءُ فإنها إشارة إلى معان كثيرة، والتمثيل في قوله: وَقُضِيَ الْأَمْرُ عبر بالأمر عن إهلاك الهالكين ونجاة الناجين، والإرداف في قوله: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ فلفظ وَاسْتَوَتْ كلام تام، أردفه بقوله عَلَى الْجُودِيِّ قصدا للمبالغة في التمكن بهذا المكان، والتعليل في قوله: وَغِيضَ الْماءُ فإنه علة للاستواء، والاحتراس في قوله: وَقِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وهو أيضا ذم لهم ودعاء عليهم، والإيضاح بقوله الظَّالِمِينَ أي القوم الذين سبق ذكرهم في قوله: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ...
فالألف واللام في القوم للعهد، والمساواة وَاسْتَوَتْ فلفظها مساو لمعناها، وحسن النّسق، لعطف قضايا بعضها على بعض، والإيجاز لذكر القصة باللفظ القصير مستوعبا للمعاني الجمة، والتسهيم لأن أول الآية يا أَرْضُ ابْلَعِي فاقتضى آخرها وَيا سَماءُ أَقْلِعِي والتهذيب لأن مفردات الألفاظ موصوفة بكمال الحسن، والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في قرارها، والتجنيس في قوله أَقْلِعِي وابْلَعِي والمقابلة في قوله: يا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي والذم في قوله:
بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ والوصف: قص القصة ووصفها بأحسن وصف (النهر الماد من البحر لأبي حيان: ٥/ ٢٢٧) بهامش البحر المحيط.
المفردات اللغوية:
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ متصل بمحذوف دل عليه: ارْكَبُوا أي فركبوا مسمين، وهي تجري وهم فيها مَوْجٍ جمع موجة: وهي ما يرتفع من الماء الكثير عند اضطرابه كَالْجِبالِ في الارتفاع والعظم وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان وَكانَ فِي مَعْزِلٍ عن السفينة عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه سَآوِي سألجأ يَعْصِمُنِي يمنعني ويحفظني مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عذاب إِلَّا لكن مَنْ رَحِمَ الله، فهو المعصوم ابْلَعِي ماءَكِ اشربي الماء الذي نبع منك، فشربته دون ما نزل من السماء، فصار أنهارا وبحارا أَقْلِعِي أمسكي عن المطر، فأمسكت.
وَغِيضَ نقص وَقُضِيَ الْأَمْرُ تم أمر هلاك قوم نوح الكافرين وإنجاء المؤمنين وَاسْتَوَتْ وقفت واستقرت السفينة عَلَى الْجُودِيِّ جبل بالجزيرة بقرب الموصل في ديار بكر. وهذا النداء والخطاب بالأمر استعارة مجازية بُعْداً هلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين.
والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال، مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. وإيراد الأخبار للمجهول للدلالة على تعظيم الفاعل، وأنه متعين في نفسه.
إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي إن كنعان من أهلي وقد وعدتني بنجاتهم وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ الذي لا خلف فيه وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أعلمهم وأعدلهم.
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الناجين أو ليس من أهل دينك. قال ابن عباس: كان ابنه من صلبه، ولكنه لم يكن مؤمنا، وما بغت امرأة نبي قط. ومعنى الآية: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك. إِنَّهُ أي سؤالك إياي بنجاته أو إن ابنك ذو عمل غير صالح، فإنه كافر، ولا نجاة للكافرين. وفي قراءة بكسر ميم عَمَلٌ ونصب غير، فالضمير لابنه ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ من إنجاء ابنك مِنَ الْجاهِلِينَ بسؤالك ما لم تعلم لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال، وأغناه عن السؤال، لكن أشغله حب الولد عنه، حتى اشتبه عليه الأمر.
أَنْ أَسْئَلَكَ في المستقبل ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ما لا علم لي بصحته وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما فرط مني من السؤال وَتَرْحَمْنِي بالتوبة والتفضل علي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أعمالا.
المناسبة:
بعد أن أمر نوح عليه السلام أهله والمؤمنين بركوب السفينة قائلين: بسم
الله، أعقبه بتصوير إلهي رائع لسير السفينة وسط المياه ذات الأمواج العظيمة، بسبب الرياح الشديدة العاصفة، وبقصد بيان شدة الهول والفزع.
التفسير والبيان:
السفينة تجري بسرعة، سائرة بهم على وجه الماء الذي قد طبق جميع الأرض، حتى طفت على رؤوس الجبال، وارتفع عليها بخمسة عشر ذراعا، وقيل: بثمانين ميلا.
إنها تجري بهم وسط أمواج كالجبال الشاهقة في ارتفاعها وعظم حجمها، وهذا يدل على حصول رياح عاصفة شديدة حينذاك، والمقصود: بيان شدة الهول والفزع.
وهي تسير بإذن الله وتحت كنفه ورعايته وحراسته، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة ٦٩/ ١١- ١٢] وقال سبحانه: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر ٥٤/ ١٣- ١٥].
واستولت الشفقة وعاطفة الأبوة على نوح، فنادى ابنه وهو الابن الرابع، واسمه يام أو كنعان، وكان في مكان منعزل عنه، وكان كافرا دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم، ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون، ناداه بقوله: يا بني اركب معنا الفلك، ولا تكن مع الكافرين الهالكين.
فرد الابن العاصي عليه قائلا: سآوي وأصير إلى جبل يحفظني من الغرق في الماء، ظنا منه أنه ماء سيل عادي يمكن النجاة منه بالتحصن في مكان عال أو جبل شامخ.
فأجابه نوح عليه السلام: ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله وعذابه الذي
يعاقب به الكافرين، لكن يحفظ من رحم الله، ومن رحمه الله فهو المعصوم، أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين، وكان لهم غفورا رحيما، غفورا لذنوبهم رحيما بهم إذا تابوا وأنابوا. أو إلا الراحم وهو الله، وقيل: إن عاصما بمعنى معصوم، كما يقال: طاعم وكاس، بمعنى مطعوم ومكسو.
وحال الماء الذي بدأ يرتفع بين الوالد والولد أثناء النقاش فكان من المغرقين الهالكين.
وما أدهش هذا المنظر الرهيب، ماء ينهمر من السماء، وأرض تتفجر بالمياه، فيرتفع حتى يغطي أعالي الجبال، ويغمر الأرض.
ولما أغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة، أمر الله الأرض أن تبلغ ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، وتم النداء العلوي: يا أرض ابلعي ماءك الذي تفجر منك، ويا سماء كفّي عن المطر، فغاض الماء، أي نقص، امتثالا للأمر، وقضي الأمر، أي وأنجز ما وعد الله نوحا من هلاك قومه الظالمين، واستقرت السفينة بمن فيها على جبل الجودي بالجزيرة شمال العراق، في الموصل، وقيل: هلاكا وخسارا للقوم الظالمين، وبعدا من رحمة الله، فإنهم قد هلكوا عن آخرهم، فلم يبق لهم بقية، بسبب ظلمهم وكفرهم.
واستبدت العاطفة مرة أخرى بنوح على ابنه، فسأل ربه سؤال تسليم وكشف عن حال ولده، فقال مناديا ربه: رب إن ابني من أهلي، وقد وعدتني بنجاتهم، ووعدك الحق الذي لا يخلف، فما مصيره، وأنت أحكم الحاكمين وأعدلهم بالحق، فحكمك يصدر عن كمال العلم والحكمة، وتمام العدل والصواب، حكمت على قوم بالنجاة، وعلى قوم بالغرق.
فأجابه ربه: يا نوح إن ابنك ليس من أهلك الذين وعدت بإنجائهم لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، وابنك ذو عمل غير صالح، أي تنكر
لدعوة الهدى والصلاح، وانضم مع الكافرين وهذا تعليل لانتفاء كونه من أهله، قال الجمهور: ليس من أهل دينك ولا ولايتك. ، فهو على حذف مضاف.
فلا تطلب مني شيئا ليس لك به علم صحيح، ولا تلتمس مني التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه.
إني أنهاك أن تكون من فئة الجاهلين الذين يطلبون إبطال حكمته وحكمه وتقديره في خلقه، رعاية لأهوائهم، ومجمل المعنى: أنهاك عن هذا السؤال وأحذرك أن تكون من الآثمين.
وقد تضمن دعاؤه معنى السؤال أو سمي نداؤه سؤالا، ولا سؤال فيه، أي وإن لم يصرح به لأن ذكر الوعد بنجاة أهله من الغرق استنجاز له، فرتب عليه طلب نجاة ابنه. وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة، ووعظه ألا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين.
وفي الآية دلالة على أن العبرة بقرابة الدين، لا بقرابة النسب، وأن حكم الله في خلقه قائم على العدل المطلق دون محاباة نبي أو ولي، وأن الأنبياء قد يخطئون في اجتهادهم، ويعد ذلك ذنبا بالنظر إلى مقامهم الرفيع وتمام معرفتهم بربهم، وأنه لا يجوز الدعاء بطلب ما يغاير سنن الله في خلقه، وأن من الجهالة أن يدعو ولي بما نهي عنه الأنبياء.
وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر، وعلى جعل الجهل كناية عن الذنب، وهو أمر مشهور في القرآن، كما قالت تعالى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة ٢/ ٦٧] وقال: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النساء ٤/ ١٧].
ويحمل كل ما صدر من نوح وغيره من خطأ الاجتهاد على ترك الأفضل والأكمل، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وبناء عليه حصل العتاب والأمر
بالاستغفار، ولا يدل هذا الأمر على سابقة ذنب، مثل: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ... وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر ١١٠/ ١ و٣] ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا، ليست بذنب يوجب الاستغفار، وقال تعالى:
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد ٤٧/ ١٩] وليس جميعهم مذنبين، فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك الأفضل.
لذا طلب نوح المغفرة من ربه، فقال: قالَ: رَبِّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ..
أي قال نوح: رب إني التجئ إليك وأستعيذ بك وبجلالك أن أسألك ما ليس لي به علم صحيح، وإن لم تغفر لي ذنب سؤالي هذا، وترحمني بقبول توبتي وإنابتي، أكن من الخاسرين أعمالا.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات العبر والعظات التالية:
١- إجراء السفن في البحار بقدرة الله تعالى وإرادته، وحفظه ورعايته.
٢- لن يحقق العناد والاستكبار فائدة أو مصلحة لمن يتصف بهما، فقد أغرق الله ابن نوح واسمه كنعان، وقيل: يام لأنه كان كافرا، ولم يستفد شيئا من الاعتصام بأعالي الجبال، فإذا وقع العذاب العام على الكفار فلا مانع منه لأنه يوم حقّ فيه ذلك العذاب، إلا من رحمه الله، فهو يعصمه.
٣- آية وَقِيلَ: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ... في أعلى مستوى البلاغة والفصاحة والإيجاز، لما فيها من التعبير عن قضايا كثيرة تحتاج إلى بيان صاف، بعبارة محكمة موجزة، محققة لأغراض عديدة، وذات ألوان بيانية بلاغية وآفاق متنوعة.
٤- إنما سأل نوح عليه السلام ربه ودعا لإنجاء ابنه، لوعده تعالى له بإنجاء أهله في قوله: وَأَهْلَكَ وترك قوله: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بدليل
قوله له: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ أي لا تكن منهم لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم وكان ابنه يسرّ الكفر ويظهر الإيمان، فأخبر الله تعالى نوحا بما تفرد به من علم الغيوب، أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وقال الحسن: كان منافقا ولذلك استحل نوح أن يناديه. وعنه أيضا: كان ابن امرأته، بدليل
قراءة عليّ:
«ونادى نوح ابنها»
لكنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليها، والصحيح أنه كان ابنه، لكن ليس على منهج أبيه في الدين والإيمان والاستقامة.
٥- لم يعص نوح الله تعالى فيما سأل من إنجاء ابنه، وإنما كان خطأ في الاجتهاد، بنية حسنة، وعدّ هذا ذنبا لأنه ما كان ينبغي لأمثاله من أهل العلم الصحيح الوقوع في هذا الخطأ غير المقصود، وترك الأفضل والأكمل، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، لذا عاتبه الله تعالى وأمره بالاستغفار.
٦- إن رابطة الدين أقوى من رابطة النسب، ولا علاقة للصلاح والتقوى بالوارثة والأنساب، لذا نجى الله المؤمنين من قوم نوح، وأهلك ابنه وزوجته مع الكافرين. والصحيح أنه كان ابنه، ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدّين، لذا قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ.
٧- هذه الآية تسلية للخلق في فساد أبنائهم، وإن كانوا صالحين. وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا، ومن أهل البيت فمن أوصى لأهله دخل في ذلك ابنه، ومن تضمنه منزله، وهو في عياله. قال تعالى في آية أخرى: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الصافات ٣٧/ ٧٥- ٧٦].
٨- العدل الإلهي مطلق، لا محاباة فيه لنبي أو ولي، وإنه تعالى يجزي الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم، لا بأنسابهم: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١٠١].
فمن يغتر بنسبه ولا يعمل بما يرضي ربه، فهو جاهل بشرع الله ودينه،
قال صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي: «يا معشر قريش لا يأتيني الناس بالأعمال، وتأتوني بالأنساب».
٩- إن غيرة الله على حرماته اقتضت تحذير الأنبياء من الأخطاء ولو كانت غير مقصودة. قال ابن العربي عن آية: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ:
وهذه زيادة من الله وموعظة، يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين، فقال نوح: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وهذه ذنوب الأنبياء عليهم السلام، فشكر الله تذلله وتواضعه.
١٠- كان اعتذار نوح بمثابة توبة كاملة تتضمن عنصري حقيقة التوبة وهما:
الأول- في المستقبل: وهو العزم على الترك، وإليه الإشارة بقوله: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ والثاني- في الماضي: وهو الندم على ما مضى، وإليه الإشارة بقوله: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
١١- كان الطوفان عاما شاملا لكل الأرض، في رأي المفسرين وأهل الكتاب، ويؤيدهم ما يقول علماء الجغرافية من وجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال، وهي لا تكون إلا في البحر. والذي يجب اعتقاده أن الطوفان كان شاملا لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم، وذلك في منطقة الشرق الأوسط، أما أجزاء الكرة الأرضية الأخرى فلا يدل نص قاطع في القرآن على تغطيتها بالطوفان.