
من المبطل، بإنجاء أهل الحق من النار، وإدخالهم الجنة، وإهلاك المبطلين وتعذيبهم في نار جهنم.
الدّعوة إلى تصديق القرآن
إن مهام الداعية لتصديق القرآن دقيقة وشاقة، وتتطلب صبرا وحكمة، وعزيمة وإرادة، وهي بالتالي يسيرة غير عسيرة لأن تصديق القرآن فرع من الإيمان بالله تعالى، فمن آمن بوجود الله وتوحيده، سهل عليه الإيمان بالقرآن الذي أنزله ربّ العزّة بواسطة الوحي على قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن هنا كان مطلع أول السورة الثانية في سورة البقرة من القرآن الكريم: الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) [البقرة: ٢/ ١- ٢]. وكانت مهمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء دعوته المشركين للتصديق بالقرآن الكريم صعبة للغاية، لأنها في وسط وثني، لا يعرف غالبا غير عقيدة الوثنية، وتأليه الأصنام والأوثان. قال الله تعالى مبيّنا صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته للإيمان بالقرآن مبتدئا به عليه السّلام على سبيل المبالغة:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)
«١» [يونس: ١٠/ ٩٤- ٩٧].
جمهور العلماء والصواب في معنى الآية: أنها مخاطبة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض. ومطلعها: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ.. له مثال في قوله تعالى لعيسى عليه السّلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي....

ومعنى الآيات: إن وقع منك شك أيها النّبي في صدق النّبوة والقرآن وإنزاله إليك.
والمراد بذلك قومه، على سبيل الافتراض والمبالغة، فاسأل علماء أهل الكتاب الذين يقرءون الكتاب، أي التوراة من قبلك، فهم على علم تامّ بصحة ما أنزل إليك، فلا تكونن من الشّاكين. فالخطاب للسامع ويراد به غيره، وهو تعبير مألوف بين العرب، على طريقة المثل العربي: «إياك أعني واسمعي يا جارة».
فالنّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يوصف بالشّك، قال ابن عباس: لا والله ما شكّ طرفة عين، ولا سأل أحدا منهم، وقال: «لا شك ولا أسأل، بل أشهد أنه الحق» كما ذكره قتادة وسعيد بن جبير والحسن البصري.
وتتمة الآية: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ أي والله لقد جاءك الحق واضحا، لا مرية فيه ولا ريب، بما أخبرناك في القرآن، وبأنك رسول الله، وأن اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك، لما يجدون في كتبهم من نعتك وأوصافك، فلا تكونن من الشّاكين في صدق ما نقول، وفي بيان الوعد والوعيد.
وفي هذا تثبيت للأمة، وإعلام لكل فرد أن صفة نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب، كما جاء في آية أخرى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: ٧/ ١٥٧]. والنّهي في قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ تعريض بالشّاكّين والمكذّبين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم من قومه.
قال البيضاوي في تفسيره: وفي الآية تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدّين ينبغي أن يسارع إلى حلّها بالرجوع إلى أهل العلم.
ثم أورد القرآن في مجال تأكيد تصديقه ما هو أشد مما سبق، فقال الله تعالى:
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) أي ولا تكونن

أيها النّبي وكل سامع ممن كذب بآيات الله الدّالة على وحدانيته وقدرته على إرسال الرّسل لهداية البشر، فتكون ممن خسروا الدنيا والآخرة.
وهذا أيضا من باب التّهييج والتّثبيت وقطع الأطماع عنه عليه السّلام في مساومته على حلول وسط، مثل قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص: ٢٨/ ٨٦].
وفي الآية هنا تعريض بالكفار الخاسرين الضّالّين.
وأنهى القرآن المشكلة في عناد الكفار، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) أي إن الّذين ثبتت عليهم كلمة الله، أي قضاؤه وحكمه بالعذاب، لا يؤمنون أبدا، لفقدهم الاستعداد للإيمان، وتصميمهم على الكفر، وليس المراد منعهم من الإيمان، وإنما بيان لحقيقة اختيارهم بحسب علم الله عزّ وجلّ المحيط بكل شيء. وهؤلاء الذين علم الله أنهم لا يؤمنون سيبقون على كفرهم وجحودهم، ولو جاءتهم كل آية كونية حسّية أو علمية أو قرآنية، كآيات موسى التّسع، وتفجير الأنهار والصعود في السماء، وآيات إعجاز القرآن، لو جاءهم أي شيء من ذلك وغيره لا يؤمنون حتى يروا العذاب المؤلم الموجع الذي يطبق عليهم، وحينئذ لا ينفعهم الإيمان، لأنه إيمان اليأس كإيمان فرعون.
متى يصحّ الإيمان
؟ الإيمان جوهر وكنز يملأ النفس والقلب، ويلازم العقل والفكر، ويظل رأس مال المؤمن في جميع أدوار الحياة حتى يفارق الدنيا، ولا ينجي الإنسان سواه بعد الموت والرحيل إلى عالم الآخرة. لذلك كان قائما على الإرادة والاختيار، ولا فائدة منه، ولا بقاء له إذا فرض بالإكراه أو نشأ حال الاضطرار أو اليأس من الحياة. والإيمان