أغرَّكِ مِنّي أنّ حُبَّكِ قاتلي | وأنَّك مهما تأمري القلبَ يَفْعَلِ |
أراجعة يا لبن أيامُنا الأُلى | بذي الطَّلح أم لا ما لَهُنَّ رجوعُ «١» |
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي: يهلكه، ويُظهر فضيحتكم، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يجعل عملهم نافعاً لهم. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي: يظهره ويمكنِّه، بِكَلِماتِهِ بما سبق من وعده بذلك.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٣ الى ٩٢]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)
قوله تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ في المراد بالذّرّية ها هنا ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أن المراد بالذرّية: القليل. قاله ابن عباس. والثاني: أنهم أولاد الذين أُرسل إِليهم موسى مات آباؤهم لطول الزمان، وآمنوا هم، قاله مجاهد. وقال ابن زيد: هم الذين نشئوا مع موسى حين كفَّ فرعون عن ذبح
(٢) قال الطبري ٦/ ٥٩١: وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية قول مجاهد... لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى فلأن تكون «الهاء» في قوله: «من قومه» من ذكر موسى لقربها من ذكره، أولى من أن تكون من ذكر فرعون، لبعد ذكره منها، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليل من خبر ولا نظر.
- وقال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٥٢٧: وفي هذا نظر لأنه أراد بالذرية: الأحداث والشباب، وأنهم من بني إسرائيل، فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه السلام واستبشروا به وقد كانوا يعرفون نعته وصفته، والبشارة به من كتبهم المتقدمة، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه، ولهذا لما بلغ هذا فرعون حذر كل الحذر، فلم يجد عنه شيئا ولما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى، وقالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون» وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد: إلا ذرية من قوم موسى، وهم بنو إسرائيل؟.
الغلمان. قال ابن الأنباري: وإِنما قيل لهؤلاء: «ذرية» لأنهم أولاد الذين بُعث إِليهم موسى، وإِن كانوا بالغين. والثالث: أنهم قوم، أُمهاتهم من بني إِسرائيل، وآباؤهم من القبط، قاله مقاتل، واختاره الفراء.
قال: وإِنما سُمُّوا «١» ذريةً كما قيل لأولاد فارس: الأبناء، لأن أُمهاتهم من غير جنس آبائهم. وفي هاء «قومه» قولان: أحدهما: أنها تعود إِلى موسى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: إِلى فرعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس «٢». فعلى القول الأول يكون قوله: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أي: وملأ فرعون. قال الفرّاء: إنّما قال: «وملئهم» بالجمع، وفرعون واحد، لأن الملك إذا ذُكر ذهب الوهم إِليه وإِلى من معه، تقول: قدم الخليفة فكثر الناس، تريد: بمن معه. وقد يجوز أن يريد بفرعون: آل فرعون، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «٣». وعلى القول الثاني: يرجع ذِكر الملأ إِلى الذرية. قال ابن جرير: وهذا أصح، لأنه كان في الذرِّيةَ من أبوه قبطي وأُمُّه إِسرائيلية، فهو مع فرعون على موسى.
قوله تعالى: أَنْ يَفْتِنَهُمْ يعني فرعون، ولم يقل: يفتنوهم، لأن قومه كانوا على مَن كان عليه.
وفي هذه الفتنة قولان: أحدهما: أنها القتل، قاله ابن عباس. والثاني: التعذيب، قاله ابن جرير. قوله تعالى: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: متطاول في أرض مصر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ حين كان عبداً فادّعى الربوبيَّة.
قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا لمّا شكا بنو إِسرائيل إِلى موسى ما يهددّهم به فرعون من ذبح أولادهم، واستحياء نسائهم، قال لهم هذا.
وفي قوله: لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً ثلاثة أقوال: أحدها: لا تهلكنا بعذاب على أيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من قِبَلك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما عُذّبِوا ولا سُلِّطْنا عليهم. والثاني: لا تسلِّطهم علينا فيفتنونا، والقولان مرويان عن مجاهد. والثالث: لا تسلِّطهم علينا فيفتتنون بنا، لظنهم أنهم على حق، قاله أبو الضحى، وأبو مجلز.
قوله تعالى: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً قال المفسرون: لما أُرسل موسى، أَمر فرعونُ بمساجد بني إِسرائيل فخُرِّبت كلُّها، ومُنعوا من الصلاة، وكانوا لا يصلُّون إِلا في الكنائس فأُمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلُّون فيها خوفاً من فرعون. و «تبوّءا» معناه: اتّخذا، وقد شرحناه في سورة
(٢) والذي ذهب إليه الطبري رحمه الله ٦/ ٥٩٢: هو أنه في قوله عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الدليل الواضح على أن «الهاء» في «قومه» من ذكر موسى، لا من ذكر فرعون، لأنها لو كانت من ذكر فرعون، لكان الكلام عَلى خَوْفٍ منه ولم يكن عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ.
(٣) سورة يوسف ٨٢.
الأعراف «١». وفي المراد بمصر قولان: أحدهما: أنه البلد المعروف بمصر، قاله الضحاك. والثاني: أنه الاسكندرية، قاله مجاهد. وفي البيوت قولان: أحدهما: أنها المساجد، قاله الضحاك، والثاني:
القصور، قاله مجاهد.
وفي قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أربعة أقوال «٢» : أحدها: اجعلوها مساجد، رواه مجاهد، وعكرمة، والضحاك عن ابن عباس، وبه قال النخعي، وابن زيد. وقد ذكرنا أن فرعون أمر بهدم مساجدهم، فقيل لهم: اجعلوا بيوتكم قبلة بدلا من المساجد. والثاني: اجعلوها قِبَل القبلة، رواه العوفي عن ابن عباس. وروى الضحاك عن ابن عباس، قال: قِبَل مكة. وقال مجاهد: أُمروا أن يجعلوها مستقبلة الكعبة، وبه قال مقاتل، وقتادة، والفراء. والثالث: اجعلوها يقابل بعضها بعضاً، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال سعيد بن جبير. والرابع: واجعلوا بيوتكم التي بالشام قبلةً لكم في الصلاة، فهي قبلة اليهود إِلى اليوم، قاله ابن بحر.
فإن قيل: البيوت جمع، فكيف قال: «قبلة» على التوحيد؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال:
من قال: المراد بالقبلة الكعبة، قال: وحِّدت القبلة لتوحيد الكعبة. قال: ويجوز أن يكون أراد: اجعلوا بيوتكم قِبَلاً، فاكتفى بالواحد من الجميع، كما قال العباس بن مرداس:
فقلنا أسْلِمُوا إنا أخوكم | فقد برئت من الإحن الصدور «٣» |
واجعلوا بيوتكم إِقبالاً على الله، وقصداً لما كنتم تستعملونه في المساجد. ويجوز أن يكون وحَّدها، والمعنى: واجعلوا بيوتكم شيئاً قبلة، ومكاناً قبلة، ومحلة قبلة.
قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ قال ابن عباس: أتموا الصلاة وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أنت يا محمد.
قال سعيد بن جبير: بشِّرهم بالنصر في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.
قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا قال ابن عباس: كان لهم من لدن فسطاط مصر إِلى أرض الحبشة جبال فيها معادن ذهب وفضة وزبرجد وياقوت.
قوله تعالى: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ وفي لام «ليَضِلُّوا» أربعة أقوال: أحدها: أنها لام «كي» والمعنى: آتيتهم ذلك كي يضلوا، وهذا قول الفراء. والثاني: أنها لام العاقبة، والمعنى: إِنك آتيتهم ذلك فأصارهم إِلى الضلال، ومثله قوله: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أي: آل أمرهم إِلى أن صار لهم عدواً، لا أنهم قصدوا ذلك، وهذا كما تقول للذي كسب مالاً فأدَّاه إِلى الهلاك: إنّما كسب فلان
(٢) قال الزمخشري رحمه الله في «الكشاف» ٢/ ٣٤٦: تبوّأ المكان: اتخذه مباءة، كقولك، توطنه إذا اتخذه وطنا.
والمعنى: اجعلا بمصر بيوتا من بيوته مباءة لقومكما ومرجعا يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه. وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ تلك قِبْلَةً أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة، وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام بمكة.
(٣) في «اللسان» : الإحن: الحقد في الصدر.
لحتفه، وهو لم يكسب المال طلباً للحتف، وأنشدوا:
وللمنايا تُربِّي كلُّ مُرْضِعَةٍ | وللخراب يُجِدُّ الناسُ عمرانا «١» |
وللموتِ تغذُو الوالداتُ سِخالَها | كما لخراب الدُّور تُبنى المساكِنُ «٢» |
فإن يكُنِ الموتُ أفناهم | فللموت ما تَلِدُ الوالده |
لأجل إِعراضكم، حكاه بعض المفسرين. وقرأ أهل الكوفة إِلا المفضل، وزيد، وأبو حاتم عن يعقوب: «ليُضِلُّوا» بضم الياء، أي: ليُضلُّوا غيرهم.
قوله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ روى الحلبي عن عبد الوارث: «اطمُس» بضم الميم، عَلى أَمْوالِهِمْ وفيه قولان: أحدهما: أنها جُعلت حجارة، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، وأبو صالح، والفراء. وقال القرظي: جُعِل سُكَّرهُم حجارة. وقال ابن زيد: صار ذهبهم ودراهمهم وعدسهم وكل شيء لهم حجارة. وقال مجاهد: مسخ الله النخل والثمار والأطعمة حجارة، فكانت إِحدى الآيات التسع. وقال الزجاج: تطميس الشيء: إِذهابه عن صورته والانتفاعِ به على الحال الأولى التي كان عليها. والثاني: أنها هلكت، فالمعنى: أهلكْ أموالهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، ومنه يقال: طُمست عينه، أي: ذهبتْ، وطُمس الطريق: إِذا عفا ودرس. وفي قوله: وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أربعة أقوال: أحدها: اطبع عليها، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مقاتل، والفراء، والزجاج. والثاني: أهلكهم كفاراً، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثالث: اشدد عليها بالضلالة، قاله مجاهد. والرابع: أن معناه: قسِّ قلوبهم، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُوا فيه قولان:
أحدهما: أنه دُعَاءٌ عليهم أيضاً، كأنه قال: اللهم فلا يؤمنوا، قاله الفراء، وأبو عبيدة، والزجاج.
وقال ابن الأنباري: معناه: فلا آمنوا، قال الأعشى:
فلا ينْبَسِطْ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ ما انْزَوى | ولا تَلْقني إِلاّ وأنفُكَ راغِمُ» |
أنك آتيتهم ليَضلُّوا فلا يؤمنوا، حكاه الزّجّاج عن المبرّد.
(٢) في «اللسان» : سخالها: السخل هو المولود المحبب إلى أبويه وهو في الأصل ولد الغنم.
(٣) سورة التوبة: ٩٥. [.....]
(٤) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «زوي»، وزوى ما بين عينيه فانزوى: جمعه فاجتمع وقبضه.
قوله تعالى: حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قال ابن عباس: هو الغرق، وكان موسى يدعو، وهارون يؤمِّن، فقال الله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما وكان بين الدعاء والإِجابة أربعون سنة.
فان قيل: كيف قال: دَعْوَتُكُما وهما دعوتان؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن الدعوة تقع على دعوتين وعلى دَعَواتٍ وكلامٍ يطول كما بيّنّا في سورة الأعراف «١» أن الكلمة تقع على كلمات، قال الشاعر «٢» :
وكان دعا دعوةً قومَه | هلمَّ إِلى أمركم قد صُرِم |
«دَعَواتُكما» بالألف وفتح العين. والثالث: أن موسى هو الذي دعا، فالدعوة له، غير أنه لما أمَّن هارون، أُشرك بينهما في الدعوة، لأنّ التّأمين على الدّعوة منهما.
وفي قوله تعالى: فَاسْتَقِيما أَربعة أقوال: أحدها: فاستقيما على الرسالة وما أمرتكما به، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: فاستقيما على دعاء فرعون وقومه إِلى طاعة الله، قاله ابن جرير.
والثالث: فاستقيما في دعائكما على فرعون وقومه. والرابع: فاستقيما على ديني، ذكرهما أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعانِّ قرأ الأكثرون بتشديد تاء «تتَّبعانِّ». وقرأ ابن عامر بتخفيفها مع الاتفاق على تشديد نون «تَتَّبعانّ» إِلا أنّ في بعض الرّوايات عن ابن عامر تخفيف. قال الزّجّاج: موضع «تتبعان» جزم، إِلا أن النون الشديدة دخلت للنهي مؤكِّدة، وكسرت لسكونها ولسكون النون التي قبلها، واختير لها الكسر لأنها بعد الألف، فشُبهت بنون الاثنين. قال أبو علي: ومن خفض النون أمكن أن يكون خفف النون الثقيلة، فإن شئت كان على لفظ الخبر، والمعنى الأمر، كقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ «٣» ولا تُضَارَّ والِدَةٌ «٤» أي: لا ينبغي ذلك، وإِن شئت جعلته حالاً من قوله: فَاسْتَقِيما تقديره:
استقيما غير متَّبِعَين. وفي المراد بسبيل الذين لا يعلمون قولان: أحدهما: أنهم فرعون وقومه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه ذكره أبو سليمان الدمشقي.
فإن قيل: كيف جاز أن يدعوَ موسى على قومه؟
فالجواب: أن بعضهم يقول: كان ذلك بوحي، وهو قول صحيح، لأنه لا يُظن بنبيّ أن يُقدِم على مثل ذلك إلّا عن إذن من الله عزّ وجلّ، لأن دعاءه سبب للانتقام.
قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ قال أبو عبيدة: أتبعهم وتبعهم سواء. وقال ابن قتيبة:
أتبعهم لحقهم. بَغْياً وَعَدْواً أي: ظلماً. وقرأ الحسن «فاتَّبعهم» بالتشديد، وكذلك شددوا «وعُدُوّاً» مع ضم العين. قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ قرأ ابن كثير ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر «أنه» بفتح الألف، والمعنى: آمنت بأنه، فلما حُذف حرف الجر، وصل الفعل
(٢) البيت للأعشى كما في ديوانه/ ٤٣. وفي «اللسان» صرم: من الصريمة وهي العزيمة على الشيء وقطع الأمر.
(٣) سورة البقرة: ٢٢٨.
(٤) سورة البقرة: ٢٣٣.
إِلى «أنَّ» فنُصب. وقرأ حمزة والكسائي «إِنه» بكسر الألف، فحملوه على القول المضمر، كأنه قال:
آمنت، فقلت: إِنه. قال ابن عباس: لم يقبل الله إِيمانه عند رؤية العذاب. قال ابن الأنباري: جنح فرعون إِلى التوبة حين أُغلق بابها لحضور الموت ومعاينة الملائكة، فقيل له: (آلآن) أي: الآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها، وكنت من المفسدين بالدّعاء إلى عبادة غير الله تعالى؟ والمخاطب له بهذا كان جبريل عليه السلام.
(٧٨٦) وجاء في الحديث «أن جبريل جعل يدسُّ الطين في فم فرعون خشية أن يُغفرَ له».
قال الضّحّاك بن قيس: اذكروا الله في الرَّخاء يذكرْكم في الشدة، إِن يونس عليه السلام كان عبداً صالحاً، وكان يذكر الله، فلما وقع في بطن الحوت سأل الله، فقال الله: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «١» وإِن فرعون كان عبداً طاغياً ناسياً لذِكر الله تعالى، فلما أدركه الغرق قال: آمنت، فقال الله: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ.
قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ وقرأ يعقوب «نُنْجيك» مخففة. قال اللغويون، منهم يونس وأبو عبيدة: نُلقيك على نجوة من الأرض، أي: ارتفاع، ليصير عَلَماً أنه قد غرق. وقرأ ابن السميفع «ننحِّيك» بحاء. وفي سبب إِخراجه من البحر بعد غرقه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن موسى وأصحابه لما خرجوا، قال من بقي من المدائن من قوم فرعون: ما غرق فرعون، ولكنه هو وأصحابه يتصيدون في جزائر البحر، فأوحى الله إِلى البحر أن الفظ فرعون عرياناً، فكانت نجاةَ عِبرةٍ، وأوحى الله تعالى إِلى البحر: أن الفظ ما فيك، فلفظهم البحر بالساحل، ولم يكن يلفظ غريقاً، إِلى يوم القيامة، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: أن أصحاب موسى قالوا: إِنا نخاف أن يكون فرعون ما غرق، ولا نؤمن بهلاكه، فدعا موسى ربه، فأخرجه حتى أيقنوا بهلاكه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإِلى نحوه ذهب قيس بن عُبَاد، وعبد الله بن شداد، والسدي، ومقاتل. وقال السدي: لما قال بنو إِسرائيل: لم يغرق فرعون،
وصححه الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢/ ٣٦٨. وأطال الكلام في هذا الشأن ورد فيه على الزمخشري حيث استنكر الحديث ووهنه. وورد من وجه آخر أخرجه الترمذي ٣١٠٧، وأحمد ١/ ٢٤٥- ٣٠٩ والطبراني ١٢٩٣٢ والطبري ١٧٨٧٥، والطيالسي ٢٦٩٣ ومداره على علي بن زيد وهو ضعيف. وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه الطبري ١٧٨٧٤ وابن عدي ٢/ ٧٨٨، وفيه كثير بن زاذان، وهو مجهول. وورد من وجه آخر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» ١١٠٧٠ وفيه قيس بن الربيع قال الهيثمي: وثقه شعبة والثوري وضعفه جماعة.
__________
(١) سورة الصافات: ١٤٣- ١٤٤.