
٣- أودع سبحانه في أجرام الكواكب والأفلاك خواص معينة وقوى مخصوصة وفوائد وآثارا في هذا العالم، وإلا كان خلقها عبثا وباطلا وغير مفيد.
٤- المستفيد من آيات الكون هم العلماء العقلاء، والمتقون الذين يخافون الله ويحذرون عقابه، والحذر يدعوهم إلى التدبر والنظر.
المؤمنون والكافرون وجزاء كلّ
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧ الى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
الإعراب:
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ استئناف، أو خبر ثان، أو حال من الضمير المنصوب على المعنى الأخير.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ خبر أو حال آخر منه أو من الأنهار، أو متعلق بتجري أو بيهدي.
البلاغة:
لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فيه التفات، مع الإضافة إلى ضمير الجلالة لتعظيم الأمر وتهويله.
المفردات اللغوية:
لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يتوقعونه لإنكارهم للبعث، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها، واللقاء: الاستقبال والمواجهة. وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا بدل الآخرة بإنكارهم لها وغفلتهم عنها.
وَاطْمَأَنُّوا بِها سكنوا إليها، وقصروا هممهم على لذائذها وزخارفها. وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أي تاركون النظر في دلائل وحدانيتنا، لا يتفكرون فيها، لأنهما كهم فيما يضادها.

مَأْواهُمُ ملجأهم الذي يأوون إليه وقد أطلق المأوى على الجنة في ثلاث آيات، وعلى النار في بضع عشرة آية. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الشرك والمعاصي. يَهْدِيهِمْ يرشدهم.
بِإِيمانِهِمْ بسبب إيمانهم، إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أو لإدراك الحقائق، كما
قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه أبو نعيم عن أنس، والظاهر أنه ضعيف: «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم»
أو لما يريدونه في الجنة، بأن يجعل لهم نورا يهتدون به يوم القيامة.
دَعْواهُمْ فِيها طلبهم لما يشتهونه في الجنة، والدعوى: الدعاء، والدعاء للناس: النداء والطلب المعتاد بينهم، والدعاء لله: سؤاله الخير والرغبة فيما عنده، مع الشعور بالحاجة إليه.
ودعاؤهم هنا أن يقولوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أي تنزيها لك وتقديسا يا الله، فإذا ما طلبوه وجدوه عندهم. وَتَحِيَّتُهُمْ فيها بينهم، والتحية: التكرمة، بقولهم: حياك الله، أي أطال عمرك.
سَلامٌ السلامة من كل مكروه. أَنِ الْحَمْدُ أن مفسرة.
المناسبة:
بعد أن أقام الله تعالى الدلائل على إثبات الإله ووجوده، وعلى إثبات البعث والجزاء على الأعمال يوم الحساب، ذكر حال من كفر به وأعرض عن أدلة وجوده ووحدانيته، وحال المؤمنين الذين عملوا الصالحات، ثم أوضح جزاء كل من الفريقين.
التفسير والبيان:
إن الذين لا يتوقعون لقاء الله في الآخرة للحساب والجزاء على الأعمال، لإنكارهم البعث، ورضوا بالحياة الدنيا بدل الآخرة لغفلتهم عنها، واطمأنوا بها وسكنوا إليها وإلى شهواتها ولذائذها وزخارفها، وكانوا غافلين عن آيات الله الكونية والشرعية، فلا يتفكرون في الأولى، ولا يأتمرون بالثانية، أولئك المذكورون من الفريقين مثواهم ومقامهم النار وملجؤهم الذي يلجأون إليه، جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا مع كفرهم بالله ورسوله واليوم الآخر. وهذا الجزاء توضيح للجزاء السابق المذكور في الآية [٤].
وعطف وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ الذي يقتضي المغايرة إما لتغاير

الوصفين، وإما لتغاير الفريقين، والمراد بالفريق الأول: من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا وهم الماديون الملحدون، والمراد بالفريق الثاني: من ألهته الدنيا عن التأمل في الآخرة والإعداد لها.
هذا جزاء الفريق الكافر وهم الأشقياء، أما جزاء الفريق المؤمن وهم السعداء فأخبرت الآية التالية عنه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا...
أي إن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسله، وامتثلوا ما أمروا به، فعملوا الصالحات، ولم يغفلوا عن آيات الله في الكون والشريعة، يرشدهم ربهم بسبب إيمانهم إلى الصراط المستقيم الذي يؤدي بهم إلى الجنة التي تجري من تحتها الأنهار، ومن تحت غرفهم في جنات النعيم والخلد، وهذا مثل للتنعم والراحة والسعادة والانسجام في تلك المناظر الخلّابة، التي تأخذ بمجامع القلوب، وتسرّ النفوس.
ومفهوم الترتيب بين الإيمان والعمل الصالح، وإن دلّ على أن سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح، لكن دلّ منطوق قوله: بِإِيمانِهِمْ على استقلال الإيمان بالسببية، وأن العمل الصالح كالتابع له والتتمة.
دَعْواهُمْ... أي يبدءون دعاءهم وثناءهم على الله تعالى بهذه الكلمة:
سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أي تنزيها وتقديسا لك يا الله، أو اللهم إنا نسبحك، وتحيتهم فيما بينهم سَلامٌ الدالة على السلامة من كل مكروه مثل قوله:
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً [الواقعة ٥٦/ ٢٥- ٢٦]، وهي أيضا تحية المؤمنين في الدنيا، وهي كذلك تحية الله تعالى حين لقائه لأهل الجنة تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ: سَلامٌ [الأحزاب ٣٣/ ٤٤] وتحية الملائكة لهم عند دخول الجنة: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر ٣٩/ ٧٣].

وآخر دعائهم الذي هو التسبيح: الحمد لله رب العالمين، وهو أيضا أول ثناء على الله حين دخول الجنة: وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر ٣٩/ ٧٤] وهو كذلك آخر كلام الملائكة: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر ٣٩/ ٧٥].
قال ابن كثير: وفي هذا دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبدا، المعبود على طول المدى، ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره، وعند ابتداء تنزيل كتابه، حيث يقول تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام ٦/ ١] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف ١٨/ ١].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
١- للكافرين الجاحدين عذاب النار بسبب ما اكتسبوا أو اقترفوا من الكفر والتكذيب والمعاصي. وقد وصفهم الله تعالى بصفات أربع هي:
الأولى- إن الذين لا يرجون لقاءنا، أي لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا.
الثانية- ورضوا بالحياة الدنيا، أي رضوا بها عوضا من الآخرة، فعملوا لها.
الثالثة- واطمأنوا بها، أي فرحوا بها وسكنوا إليها.
الرابعة- والذين هم عن آياتنا غافلون، أي لا يعتبرون ولا يتفكرون بأدلتنا.

٢- للمؤمنين المحقين العاملين الأعمال الصالحة جنات النعيم، تجري من تحتهم أي من تحت بساتينهم أو أسرّتهم الأنهار، يمجدون فيها الله تعالى بقولهم:
سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ ويحمدون ربهم بقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ والفرحة تغمرهم، والبهجة تملأ قلوبهم، والسعادة ترفرف بأجنحتها عليهم، تحية الله لهم، أو تحية الملك أو تحيتهم لبعضهم: سلام.
٣- التسبيح والحمد والتهليل قد يسمّى دعاء،
روى مسلم والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات وربّ الأرض ورب العرش الكريم»
قال الطبري: كان السلف يدعون بهذا الدعاء، ويسمّونه دعاء الكرب. وهذا الدعاء الصادر من أهل الجنة ليس بعبادة إذ لا تكليف في الجنة، إنما يلهمون به، فينطقون به تلذذا بلا كلفة.
٤- من السنة لمن بدأ بالأكل أو الشرب أن يسمّي الله عند أكله وشربه، ويحمده عند فراغه، اقتداء بأهل الجنة.
ورد في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة، فيحمده عليها، أو يشرب الشّربة، فيحمده عليها».
٥- يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه، كما قال أهل الجنة: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
٦- الإيمان والعمل الصالح طريق الإنسان إلى الجنة. والله يهدي أي يسدد ويرشد بسبب الإيمان إلى طريق الاستقامة المؤدي إلى الثواب على الأعمال.
ويجوز أن يريد الله تعالى بقوله: يَهْدِيهِمْ أي في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة، كقوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد ٥٧/ ١٢] ومنه
الحديث: «إن المؤمن إذا خرج من