
بزخارفها، وينسى ما يجب عليه نحو الآخرة، فيكون هو الخاسر خسارة كبري لا تعوض، إذ إنه يكون من الذين خسروا الدنيا والآخرة، وهو معنى قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام ٦/ ٤٤].
الترغيب في الجنة ووصف حال المحسنين والمسيئين في الآخرة
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)
الإعراب:
وَالَّذِينَ كَسَبُوا الَّذِينَ مبتدأ، وخبره: جَزاءُ سَيِّئَةٍ، على تقدير: وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة.
وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ معطوف على كَسَبُوا وجاز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه لأنها جملة مبينة للأول، وليست أجنبية عنه.
بِمِثْلِها الباء زائدة، وتقديره: وجزاء سيئة سيئة مثلها، كما في آية أخرى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠].
قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً جمع قطعة، ومظلما حال من الليل، وليس وصفا لقطع لأنه كان يقال: مظلمة. ومن قرأ بإسكان الطاء، جاز أن يكون مُظْلِماً وصفا لقوله: قطعا، وجاز أن يكون حالا من اللَّيْلِ.
البلاغة:
أَحْسَنُوا الْحُسْنى بينهما جناس اشتقاق.

كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ تشبيه مرسل مجمل.
المفردات اللغوية:
وَاللَّهُ يَدْعُوا إلى الإيمان الموصّل إلى الجنة دارِ السَّلامِ أي السلامة وهي الجنة، وتخصيص الجنة بهذا الاسم للتنبيه على ذلك وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته بالتوفيق إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دين الإسلام. وفي تعميم الدعوة بقوله: يَدْعُوا وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة، وأن المصر على الضلالة لم يرد الله رشده.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا بالإيمان الْحُسْنى المثوبة الحسنى وهي الجنة وَزِيادَةٌ ما يزيد على المثوبة تفضلا، وهي النظر إلى الله تعالى، كما في حديث مسلم وقيل: الزيادة: الفضل أو تضعيف الحسنات إلى عشر أمثالها. ودليل التفضل قوله تعالى: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء ٤/ ١٧٣ وغيرها]. وَلا يَرْهَقُ يغشى قَتَرٌ غبرة فيها سواد وَلا ذِلَّةٌ كآبة وهوان، والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار، أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من حزن وسوء حال خالِدُونَ دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها، بخلاف الدنيا وزخارفها.
وَالَّذِينَ كَسَبُوا عطف على الذين أحسنوا، أي وللذين كسبوا السيئات أي عملوا الشرك بِمِثْلِها أي أن يجازى سيئة بسيئة مثلها لا يزاد عليها مِنْ عاصِمٍ مِنَ زائدة، وعاصِمٍ: مانع يعصمهم من سخط الله ومن جهة الله ومن عنده، بخلاف المؤمنين الذين لهم مانع يعصمهم أُغْشِيَتْ ألبست قِطَعاً جزءا مُظْلِماً لفرط سوادها وظلمتها. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي أولئك الكفار، فالآية في الكفار، لاشتمال السيئات على الكفر أو الشرك، ولأن الذين أحسنوا يتناول أصحاب الكبيرة من أهل القبلة، فلا يتناولهم قسيمه.
المناسبة:
بعد أن نفّر الله تعالى الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق، رغبهم في الآخرة، ووصف حال المحسنين والمسيئين فيها. ووجه الترغيب في الآخرة:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «مثلي ومثلكم شبه سيد، بنى دارا، ووضع مائدة، وأرسل داعيا، فمن أجاب الداعي، دخل الدار، وأكل من المائدة، ورضي عنه السيد. ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد، فالله

السيد، والدار: دار الإسلام، والمائدة: الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلّم» «١».
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق، إلا الثقلين، أيها الناس، هلموا إلى ربكم، والله يدعو إلى دار السلام» «٢».
التفسير والبيان:
بعد أن ذكر الله تعالى الدنيا وسرعة زوالها، رغب في الجنة ودعا إليها، فقال: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ أي والله يدعو إلى الإيمان والعمل الصالح المؤديين إلى الجنة، وسماها دار السلام لسلامتها عن الآفات والشوائب والنقائص والأكدار ودعاؤه إلى دار السلام وأمره بالإيمان عام لكل الناس. ويهدي من يشاء أي يوفقهم إلى الطريق المستقيم الموصل إلى الجنة، وهو دين الإسلام: عقائده وأخلاقه وأحكامه لأنه الطريق الذي لا عوج فيه ولا التواء. والهداية خاصة بالمشيئة، على عكس الأمر بالإيمان.
ومن المعلوم أن الهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهي عامة لجميع الناس، وهي الدعوة إلى الإيمان والإسلام، وهداية توفيق وهي خاصة بمن يشاء الله من عباده إلى طريق الاستقامة، ومعناها التوفيق والعون.
والسبب في تلك الدعوة إلى الإسلام مصلحة المدعوين لأن للذين أحسنوا العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح المثوبة الحسنى في الدار الآخرة، كقوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرحمن ٥٥/ ٦٠] ولهم أيضا زيادة:
(٢) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

وهي تضعيف ثواب الأعمال الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضا، والزيادة التي هي أعظم من جميع ما أعطوه هي النظر إلى وجه الله الكريم، بدليل
ما روى أحمد ومسلم وجماعة من الأئمة عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وقال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد، يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدا، يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبّيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم».
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي، يا أهل الجنة- بصوت يسمع أولهم وآخرهم- إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى: الجنة، والزيادة:
النظر إلى وجه الرحمن عز وجل».
ونظير الآية قوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم ٥٣/ ٣١].
وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أي ولا يغشى وجوههم شيء مما يغشى وجوه الكفرة من الغبرة التي فيها سواد، والهوان والصغار، أي لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر، بل هم كما قال تعالى في حقهم: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الدهر ٧٦/ ١١] أي نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم. والصفة الأولى (القتر) هي المذكورة في قوله تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس ٨٠/ ٤٠- ٤١] والصفة الثانية (الذلة) هي قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [الغاشية ٨٨/ ٢- ٣].

أولئك المتصفون بهذه الصفات هم أهل الجنة لا غيرهم، وهم المقيمون الماكثون فيها أبدا، لا زوال فيها، ولا انقراض لنعيمها.
ولما أخبر تعالى عن حال السعداء، عطف بذكر حال الأشقياء، كما هو الشأن الغالب في الموازنة والمقارنة في الأسلوب القرآني، وشأنه تعالى مع الفريق الأول الفضل والإحسان، ومع الفريق الثاني المعاملة بالعدل.
فللذين اقترفوا السيئات والمعاصي في الدنيا ومنها الكفر والشرك والظلم الجزاء العادل وهو المجازاة على السيئة بمثلها، لا زيادة عليها كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام ٦/ ١٦٠]، وتغشاهم أي تعتريهم وتعلوهم ذلّة من فضيحة معاصيهم وخوفهم منها، كما قال تعالى: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [الشورى ٤٢/ ٤٥] وقال: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ [إبراهيم ١٤/ ٤٢- ٤٣].
ثم قال: ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ليس لهم مانع ولا واق يقيهم العذاب، أي لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه، كما قال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار ٨٢/ ١٩] وقال تعالى:
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ: أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ كَلَّا لا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة ٧٥/ ١٠- ١٢].
كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ.. أي ألبست وجوههم أجزاء أو أغشية من سواد الليل المظلم لفرط سوادها وظلمتها، كقوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [آل عمران ٣/ ١٠٦- ١٠٧] وقوله سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ

مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ
[عبس ٨٠/ ٣٨- ٤٢].
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ.. أي أولئك المتصفون بتلك الصفات هم لا غيرهم أصحاب النار، هم فيها خالدون، دائمون فيها، لا يزحزحون عنها.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات صريحة في الدعوة إلى السعادة الأبدية، والخلود في الجنان، من طريق الإيمان والعمل الصالح.
وهي موضحة معالم الطريق، معلنة أن الله لا يدعوكم إلى جمع الدنيا، بل يدعوكم إلى الطاعة: طاعة أحكامه، لتصيروا إلى دار السلام، أي إلى الجنة. قال قتادة والحسن: السلام: هو الله، وداره الجنة. وسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات.
وقد عمّ بقوله يَدْعُوا جميع الناس بالدعوة إلى دائرة الإيمان، إظهارا لحجّته، وخص بالهداية من شاء من عباده استغناء عن خلقه، وتمييزا بين الأمر والإرادة، فهناك دعوة عامة دعا فيها جميع الخلق إلى دار السلام، وهداية خاصة مغايرة لتلك الدعوة العامة، مشتملة على التوفيق الإلهي.
والصراط المستقيم واحد سواء قلنا: إنه كتاب الله، أو الإسلام.
وللذين أحسنوا العمل في الدنيا المثوبة الحسنى وهي الجنة، والزيادة فضلا من الله وهي تضعيف الحسنات، والنظر إلى وجه الله الكريم، والشعور بالسعادة الظاهرية والباطنية، فلا غشاوة لغبار مع سواد في محشرهم إلى الله، ولا مذلة ولا إهانة.
وللمسيئين الذين أشركوا بالله شريكا آخر، وكفروا بنعمته، فلم يقابلوها