
قوله تعالى: ﴿والذين كَسَبُواْ﴾ : فيه سبعةُ أوجه: أحدُها: «أن يكونَ» والذين «نسقاً على» للذين أحسنوا «أي: للذين أحسنوا الحسنى، واللذين كسبوا السيئاتِ جزاءُ سيئةٍ بمثلها، فيتعادل التقسيم كقولك:» في الدار زيدٌ والحجرةِ عمروٌ «، وهذا يسميه النحويون عطفاً على معمولي عاملين. وفيه ثلاثة مذاهب، أحدها: الجواز مطلقاً، وهو قول الفراء. والثاني: المنعُ مطلقاً وهو مذهب سيبويه. والثالث: التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو:» في الدار زيد والحجرةِ عمرو «، فيجوز، أو لا، فيمتنع نحو:» إن زيداً في الدار وعمراً القصر «، أي: وإن عمراً في القصر. وسيبويه وأتباعه يُخَرِّجون ما ورد منه على إضمار الجارِّ كقوله تعالى: {واختلاف الليل والنهار...
صفحة رقم 183
لآيَاتٍ} [الجاثية: ٥] بنصب» آيات «في قراءة الأخوين على ما سيأتي، وكقوله:
وقول الآخر:٢٥٨٥ - أكلَّ امرىءٍ تحسبين امرأً ونارٍ توقَّدُ بالليل نارا
وسيأتي لهذا مزيدُ بيان في غضون هذا التصنيف. وممَّن ذهب إلى أن هذا الموصولَ مجرور عطفاً على الموصول قبله ابن عطية وأبو القاسم الزمخشري. الثاني: أن» الذين «مبتدأ، وجزاء سيئة مبتدأ ثانٍ، وخبره» بمثلها «، والباء فيه زائدة، أي: وجزاءُ سيئةٍ مثلها كقوله تعالى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، كما زِيْدَتْ في الخبر كقوله:٢٥٨٦ - أَوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قلباً حُرَّاً بالكلبِ خيراً والحماةِ شَرَّا
٢٥٨٧ - فلا تطمعْ أبيت اللعنَ - فيها | ومَنْعُكها بشيءٍ يُسْتطاع |
٢٥٨٨ - فإن تَنْأَ عنها حقبةً لا تلاقِها | فإنَّك ممَّا أَحْدَثْتَ بالمجرِّب |
٢٥٨٩ - افتحي الباب فانظري في النجومِ | كم علينا من قِطْعِ ليلٍ بَهيم |
قال الزمخشري: «فإن قلت: إذا جعلت» مظلماً «حالاً من» الليل «فما العاملُ فيه؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكونَ» أُغْشِيَتْ «من قِبل أنَّ» من الليل «صفةٌ لقوله:» قِطْعاً «، وكان إفضاؤه إلى الموصوفِ كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكونَ معنى الفعل في» من الليل «.
قال الشيخ: «أمَّا الوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأصلَ أن يكون العاملُ في الحال هو العاملَ في ذي الحال، والعاملُ في» من الليل «هو الاستقرار، و» أُغْشِيَتْ «عاملٌ في قوله:» قطعاً «الموصوف بقوله:» من الليل «فاختلفا، فلذلك كان الوجهُ الأخير أَوْلى، أي: قطعاً مستقرةً من الليل، أو كائنةً من الليل في حال إظلامه». قلت: ولا يَعْني الزمخشري بقوله: «إنَّ العامل أُغْشِيَتْ» إلا أنَّ الموصوفَ وهو «قِطْعاً» معمول لأُِغْشِيَتْ والعامل في الموصوف هو عاملٌ في الصفة، والصفة هي «من الليل» فهي معمولةٌ ل «أُغْشِيَتْ»، وهي صاحبةُ الحال، والعاملُ في الحال هو العاملُ في ذي الحال، فجاء من ذلك أنَّ العاملَ في الحال هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقةِ. ويجوز أن يكونَ «قِطْعاً» جمع قطعة، أي: اسم جنس، فيجوز حينئذٍ وصفُه بالتذكير نحو: «نَخْلٌ مُنْقَعِر» والتأنيث نحو: «نخل خاوية». صفحة رقم 187

وأمَّا قراءة الباقين فقال مكي وغيره: «إنَّ» مظلماً «حال من» الليل «فقط. ولا يجوز أن يكون صفةً ل» قِطَعاً «، ولا حالاً منه، ولا من الضمير في» من الليل «، لأنه كان يجب أن يقال فيه: مظلمة». قلت: يَعْنُون أنَّ الموصوف حينئذ جمعٌ، وكذا صاحب الحال فتجب المطابقةُ. وأجاز بعضهم ما منعه هؤلاء وقالوا: جاز ذلك لأنَّه في معنى الكثير، وهذا فيه تعسُّفٌ.
وقرأ أُبَي/ ﴿تغشى وجوهَهم قِطْعٌ﴾ بالرفع، «مظلمٌ». وقرأ ابن أبي عبلة كذلك، إلا أنه فتح الطاء. وإذا جَعَلْتَ «مُظْلماً نعتاً ل» قطعاً «، فتكون قد قَدَّمْتَ النعتَ غير الصريح على الصريح. قال ابن عطية:» فإذا كان نعتاً يعني مظلماً نعتاً لقطع فكان حقه أن يكون قبلَ الجملة، ولكن قد يجيءُ بعد هذا، وتقدير الجملة: قطعاً استقرَّ من الليل مظلماً على نحو قوله: ﴿وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: ١٥٥]. قال الشيخ: «ولا يتعيَّنُ تقديرُ العاملِ في المجرور بالفعل فيكونُ جملة، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير: قطعاً كائناً من الليل مظلماً». قلت: المحذورُ تقديمُ غيرِ الصريحِ على الصريح ولو كان مقدَّراً بمفرد.
و «قطعاً» منصوبٌ ب «أُغْشِيَتْ» مفعولاً ثانياً.