
[الجزء الثاني]
تفسير سورة يونسظاهرة الوحي
ظاهرة الوحي هي همزة الوصل بين الإله وبعض الناس من أنبيائه ورسله، فلولاها لم يكن هناك وجود للدين وأحكام الشرع ونظام الإله الذي شرعه لعباده.
ولولا الوحي لم نعرف شيئا عن الغيبيات في عالم الآخرة وما بعد الموت من حساب وعذاب وصراط وجنة ونار، ولولا الوحي الإلهي لكانت حياة البشرية بمثابة حياة الغابة يتحكم فيها القوي بالضعيف، دون خوف من حساب أو تقدير لمسؤولية، والتعجب من ظاهرة الوحي منشؤها انعدام الإيمان بالله تعالى وسيطرة الفكر المادي، وغلبة الأهواء والشهوات، من غير تقدير ومعرفة لمدى قدرة الله عز وجل، وخلقه الملائكة وسائط نقل الكلام الإلهي لرسل الله الكرام، وقد صور القرآن الكريم مدى العجب في نزول الوحي بما لا يصح في قاموس الإيمان، فقال الله تعالى في مطلع سورة يونس المكية:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)«١» [يونس: ١٠/ ١- ٢].
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدا رسولا،

أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر ذلك منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فأنزل الله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً الآية، وأنزل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف: ١٢/ ١٠٩] فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا: وإذا كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٤٣/ ٣١] يكون أشرف من محمد، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة، ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف. فأنزل الله ردا عليهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: ٤٣/ ٣٢].
ابتدأ الله تعالى هذه السورة (سورة يونس) بقوله الر كابتداء البقرة ب الم (١) والقصد من هذه الحروف المقطعة التنبيه إلى ما يتلى بعدها ليعتني المرء بفهم ما يسمع أو يقرأ، وتعديد الحروف على طريق تحدي العرب بأن يأتوا بشيء من مثل هذه السورة أو بغيرها من القرآن، وحيث إنهم عجزوا، دل ذلك على أن القرآن كلام الله تعالى. تلك آيات القرآن المحكم، أو ذات الحكمة لاشتماله عليها، أو تلك آيات السورة الحكيمة، التي أحكمها الله وبيّنها لعباده، وقوله تعالى: تِلْكَ بمعنى (هذه). والْكِتابِ المراد به القرآن، وهو الأظهر.
وقوله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ يراد به الإنكار على من تعجب من الكفار على إرسال المرسلين من البشر، أي عجيب أمر بعض الناس الذين ينكرون إيحاءنا إلى رجل من جنسهم من البشر، قال ابن عباس: لما بعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسولا، أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد، فأنزل الله عز وجل: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً.
هذا التعجب في غير محله، لأن كل الرسل من البشر، من جنس المرسل إليهم ليكون ذلك أدعى إلى قبول دعوتهم والتفاهم معهم.

ومهمة هذا النبي الموحى إليه هي الإنذار من الناس: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أي أوحينا إليه بأن أنذر الناس، وخوّفهم من عذاب النار يوم البعث، إذا ظلوا كافرين ضالين عاصين، والمهمة الثانية: تبشير المؤمنين الذين يعلمون الصالحات أن لهم قدم صدق عند ربهم، أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة عند الله في جنات النعيم، وأجرا حسنا بما قدموا. والأعمال الصالحة: هي صلاتهم وصومهم وصدقهم في القول والفعل وتسبيحهم.
وقوله سبحانه: قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ فيه حذف يدل الظاهر عليه تقديره: فلما أنذر وبشر، قال الكافرون كذا وكذا. أو: ومع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم رجلا من جنسهم، بشيرا ونذيرا، قال الكفار: إن هذا القرآن سحر ظاهر بيّن، وهم الكاذبون في ذلك. ووصفوه بالسحر: لما رأوا من تأثيره القوي في القلوب.
ثم تبين لعقلاء العرب وحكمائهم أن القرآن ليس سحرا، لأنهم جربوا السحر وعرفوه، فلم يجدوه مطابقا له، وإنما هو وحي من عند الله على قلب نبيه، مشتمل على أحكام سامية عالية في التشريع والقضاء، والسياسة والاجتماع والعلوم والأخلاق والآداب، معجزة في أسلوبه ونظمه ومعانيه، يفوق قدرة البشر على محاكاته أو الإتيان بشيء مثله.
أدلة توحيد الله وإثبات البعث
أقام القرآن الكريم الأدلة الواضحة والبراهين القاطعة على أصلين أو ركنين من أركان الدين: وهما أولا- التوحيد الخالص لله في العبادة والدعاء، وثانيا- إثبات البعث والجزاء. وتوحيد الله يتضمن إثبات وجود إله قادر نافذ الحكم بالأمر والنهي، وإثبات البعث يقتضي إثبات حياة الآخرة بما فيها من حشر ونشر ومعاد