آيات من القرآن الكريم

أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۗ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ

وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
ذكر البيضاوي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بيونس ومن كذب به، وبعدد من غرق مع فرعون»
، والظاهر أنه غير صحيح.
قضية إنزال الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)
الإعراب:
تِلْكَ آياتُ مبتدأ وخبر، أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم. والمراد من تِلْكَ: هذه أي هذه آيات الكتاب أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا أن وما بعدها في تأويل المصدر في موضع رفع اسم كانَ، وعَجَباً خبره، واللام في لِلنَّاسِ متعلقة بمحذوف، لأنه صفة لعجب، فلما تقدم صار حالا، لأن صفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصبت على الحال. ولا يجوز أن تتعلق اللام بكان، لأنها لمجرد الزمان، ولا تدل على الحدث الذي هو المصدر، فضعفت.
أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ كانَ: هي المفسرة، لأن الإيحاء فيه معنى القول، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، وأصله: أنه أنذر أن لهم الباء معه محذوف.
البلاغة:
الْحَكِيمِ بمعنى مفعول، أي الحكم الذي لا فساد فيه ولا نقص.
أَنْذِرِ.. وَبَشِّرِ بينهما طباق. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا استفهام معناه التقرير والتوبيخ.

صفحة رقم 96

قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة. وإضافة قدم إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة، ففي ذلك غاية البلاغة لأن بالقدم يكون السبق والتقدم، كما سميت النعمة يدا، لأنها تعطى بها. وجاء في القرآن: مَقْعَدِ صِدْقٍ [القمر ٥٤/ ٥٥]، ومُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء ١٧/ ٨٠]، ومُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء ١٧/ ٨٠]، وقَدَمَ صِدْقٍ [يونس ١٠/ ٢].
المفردات اللغوية:
الر تقرأ هكذا: ألف، لام، را. والحروف المقطعة في أوائل السور وتعديدها يقصد به التحدي، والإشارة إلى أن هذا القرآن كلام مكون من الحروف العربية المألوفة غير الغريبة على العرب، فما لهم عجزوا عن محاكاته؟ مما يدل على كونه كلام الله. أو هي أداة استفتاح وتنبيه لما سيلقى بعدها.
تِلْكَ أي هذه الآيات آياتُ الْكِتابِ القرآن العظيم، والإضافة بمعنى من الْحَكِيمِ المحكم، أي هذه آيات القرآن المحكم المبين.
أَكانَ لِلنَّاسِ أي أهل مكة، استفهام إنكار أَنْ أَوْحَيْنا أي إيحاؤنا، والوحي:
إعلام خفي إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ محمد صلى الله عليه وسلّم أَنْذِرِ خوّف، والإنذار: الإخبار بما فيه تخويف النَّاسَ الكافرين بالعذاب وَبَشِّرِ التبشير: إعلام مقترن بالبشارة بحسن الجزاء أو الثواب قَدَمَ صِدْقٍ أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة عند ربهم بما قدموه من الأعمال، سميت قدما، لأن السعي إلى هذه الفضائل بالقدم، كما سميت النعمة يدا، وإضافتها للصدق للتحقق. والصدق يكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال وسائر الفضائل. إِنَّ هذا الكتاب وما جاء به محمد لَساحِرٌ مُبِينٌ بيّن واضح ظاهر، والسحر: شيء مؤثر في النفوس بدون أن يكون له حقيقة.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدا رسولا، أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر ذلك منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فأنزل الله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً الآية. وأنزل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا الآية [يوسف ١٢/ ١٠٩ ومواضع أخرى]، فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا: وإذا كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى

صفحة رقم 97

رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
[الزخرف ٤٣/ ٣١] يكون أشرف من محمد، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة، ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف، فأنزل الله ردا عليهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ الآية [الزخرف ٤٣/ ٣٢].
التفسير والبيان:
الر: تقرأ هذه الحروف الثلاثة هكذا: ألف، لام، را، والقصد منها التنبيه إلى ما يتلى بعدها ليعتني المرء بفهم ما يسمع أو يقرأ، وتعديد الحروف على طريق التحدي، كما مر في أول سورة البقرة.
تلك آيات القرآن المحكم، أو ذات الحكمة لا لاشتماله عليها، أو تلك آيات السورة الحكيمة، التي أحكمها الله وبينها لعباده، كما قال تعالى: الر، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أي أحكمت معانيه ومبانيه.
والأولى بالصواب كما ذكر القرطبي أن المراد القرآن، لأن الحكيم من نعت القرآن، كما دل قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ. والحكيم: المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام.
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ينكر الله تعالى على من تعجب من الكفار على إرسال المرسلين من البشر، أي عجيب أمر بعض الناس الذي ينكرون إيحاءنا إلى رجل من جنسهم من البشر، كأن الاشتراك في البشرية تحول دون الإرسال، وكأنهم يريدون رسولا من غير جنسهم، كما قال تعالى في آيات أخرى حكاية عنهم: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [التغابن ٦٤/ ٦] أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ٩٤] لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت ٤١/ ١٤] وقال هود وصالح لقومهما: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ [الأعراف ٧/ ٦٣].
قال ابن عباس: لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلّم رسولا أنكرت العرب ذلك،

صفحة رقم 98

أو من أنكر منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد، فأنزل الله عز وجل: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً.
هذا التعجب في غير محله، إذ أن كل الرسل كانوا بشرا: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام ٦/ ٩] وردد الله هذا المعنى في آيات كثيرة منها: قُلْ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ٩٥]. فإرسال الرسول من جنس المرسل إليهم أدعى إلى قبول دعوته، والتفاهم معه. وأما اختيار أحد هؤلاء البشر فالله أعلم من هو أولى للرسالة وأحق بالاصطفاء والاختيار: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج ٢٢/ ٧٥]، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام ٦/ ٣١].
أما معايير البشر فهي خطأ، مثل كون محمد صلى الله عليه وسلّم يتيم أبي طالب، إذ قال القرشيون: العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا إلا يتيم أبي طالب، أو أنه فقير، وهم يريدون كونه غنيا مترفا وزعيما مرموقا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف ٤٣/ ٣١] وهم يعنون إما الوليد بن المغيرة من مكة، أو مسعود بن عمرو الثقفي من الطائف.
ومهمة هذا النبي الموحي إليه هي الإنذار من النار: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أي أوحينا إليه بأن أنذر الناس وخوفهم من عذاب النار يوم البعث، إذا ظلوا كافرين ضالين عاصين، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ، فَهُمْ غافِلُونَ [يس ٣٦/ ٦] وبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم قدم صدق عند ربهم، أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة عند الله في جنات النعيم، وأجرا حسنا بما قدموا.
والأعمال الصالحة: هي صلاتهم وصومهم وصدقهم في القول والفعل وتسبيحهم.

صفحة رقم 99

والإنذار والتبشير هما من أخص صفات النبي صلى الله عليه وسلّم، وقد صرح القرآن بهما في آيات كثيرة مثل: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً [الكهف ١٨/ ٢] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٤٥].
وفي الكلام حذف يدل الظاهر عليه تقديره: ومع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم، رجلا من جنسهم، بشيرا ونذيرا، قالَ الْكافِرُونَ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ أي قال المنكرون المكذبون رسالته: إن محمدا ساحر ظاهر. وعلى قراءة:
إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ معناه إن هذا القرآن سحر ظاهر بيّن. وعلى أي حال فإنهم وصفوا القرآن وصاحبه المنزل عليه بالسحر وكونه الساحر، وهم الكاذبون في ذلك. ووصفوه بالسحر لما رأوا من تأثيره القوي في القلوب، والسحر عندهم يطلق على كل فعل غريب خارق للعادة، لا يعرف له سبب، مؤثر في النفوس، جذاب يلفت الأنظار.
ثم تبيّن لعقلاء العرب وحكمائهم أن القرآن ليس سحرا، لأنهم جربوا السحر وعرفوه، فلم يجدوه مطابقا له، لأن السحر علم يعتمد إما على الحيل والشعوذة، أو على خواص بعض الأشياء الطبيعية، أو على علم النجوم، أو على دراسات نفسانية، والقرآن ليس من هذه الأشياء إطلاقا بالتجربة والحس والمشاهدة والموازنة، وإنما هو مغاير لها، وفوقها، لأنه وحي من عند الله على قلب نبيه، مشتمل على أحكام سامية عالية في التشريع والقضاء، والسياسة والاجتماع، والعلوم والأخلاق والآداب، معجز في أسلوبه ونظمه ومعانيه، يفوق قدرة البشر على محاكاته أو الإتيان بشيء من مثله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت ٤١/ ٤١- ٤٢] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً، مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ

صفحة رقم 100

اللَّهِ، ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر ٣٩/ ٢٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
١- القرآن الكريم كتاب محكم واضح بيّن فيما اشتمل عليه من حلال وحرام وحدود وأحكام.
٢- الإيحاء إلى رجل من البشر ليؤدي رسالة الله إلى الناس أمر طبيعي منطقي، ليس محل تعجب واستغراب، وإنما هو موافق للحكمة والعقل والواقع.
٣- ليست مقومات اختيار الأنبياء بحسب معايير الناس ومفاهيمهم كالمال والغنى والثروة والجاه والزعامة، وإنما المعيار هو ما في علم الله جل وعز من كون النبي المصطفى هو الأهل الأكفاء الأجدر بتحمل أعباء الرسالة، والأوفق لتحقيق المصلحة وتبليغ الوحي إلى الناس.
٤- مهمة الرسول هي الإنذار والتبشير، إنذار من عصاه بالنار، وتبشير من أطاعه بالجنة. وله خصائص أخرى مثل
ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم في الصحاح عن نفسه أنه قال: «لي خمسة أسماء. أنا محمد وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب: أي آخر الأنبياء، كما قال تعالى: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب ٣٣/ ٤٠].
٥- لا يملك الضعيف أو الخاسر المفلس سوى الاتهام الرخيص الكاذب الذي لا فائدة منه، لذا قال الكافرون: إن هذا أي الرسول صلى الله عليه وسلّم لساحر مبين، أو إن هذا القرآن لسحر مبين، بحسب القراءتين، فوصف الكفار القرآن بكونه سحرا يدل كما قال الرازي على عظم محل القرآن عندهم، وكونه معجزا، وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة، فاحتاجوا إلى هذا الكلام الذي ذكروه في معرض الذم، على

صفحة رقم 101
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية