آيات من القرآن الكريم

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ
ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) الآية من آخر سورة المؤمن الآتية، وتقدم ما يتعلق في هذا البحث في الآية ١٣٧ من سورة الشعراء المارة ج ١، وله صلة في آخر سورة المؤمن المذكورة، وفي الآيتين ١٦/ ١٧ من سورة النساء في ج ٣.
واعلم أن قول فرعون لا يدل على الإخلاص بل يقيد التشكيك، لأنه لم يقل آمنت بالله الذي لا إله إلا هو، ولم يقل كما قالت السحرة (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) الآية ١٢٠ من سورة الأعراف المارة في ج ١، وأن قوله (آمنت بالذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) هذا دليل على عدم اعتقاده صحته، لأنه كان دهريّا ينكر الصانع الأعظم، ولذلك ادعى الربوبية على قومه الذين يعبدون الأوثان، فلم تنفعه توبته ولا إيمانه، لأنه لم يجنح إليها إلا بعد انفلاق بابهما بحضور الموت بصورة لم يبق معها له أمل بالنجاة منه، ولو أراد الله لوفقه لهما عند رؤية معجزة انفلاق البحر، إذ كان في الوقت فسحة ولكن من يرد الله خذلانه فلا هادي له.
مطلب الحكمة في عدم قبول إيمان اليائس وإخراج جثة فرعون ومعجزة القرآن:
قال تعالى «آلْآنَ» تركن إلى الإيمان وقد ضيعت وقته، لا لا سبيل لك إليه «وَقَدْ عَصَيْتَ» ربك وبغيت وتطاولت بادعائك الألوهية «قَبْلُ» هذا الوقت وقد دعيت للإيمان سنين كثيرة ولم تجب دعوة رسولنا، ولم ترجع إلينا، أما الآن وقد اضطررت في وقت اليأس من الحياة فلا سبيل لإجابة طلبك الإيمان لإعراضك عنه في وقته «وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ٩١» في أرض الله وعباده وبلاده، وأهنت رسلي وتجبرت على عبادي. والحكمة في عدم قبول إيمان اليائس هو أن الناس إذا صاروا في تلك الحالة يضطرون إلى الإيمان ليخلصوا من العذاب، فلو قبل منهم لآمن كل أتباع الرسل المتقدمين، ولما أهلك الله منهم أحدا فتتعطل الحكمة المرادة من تعذيب الكافر وتنعيم المؤمن، لأنه إذا قبل إيمان الكافر عند آخر رمق من حياته يتساوى مع المؤمن بنعيم الجنة، وهذا مخالف لإرادة الله ووعده ووعيده، ولهذا اقتضت إرادته الأزلية بعدم الانتفاع بإيمان اليائس، وعند نزول العذاب الذي لا محيد عنه لتحصل ثمرة التفاوت بين المؤمن والكافر، وكذلك

صفحة رقم 72

لا تقبل التوبة في الآخرة مطلقا لأنها من قبيل العمل المقرب إلى الله، ولا عمل في الآخرة وإلا لآمن كل كافر وتاب كل عاص، ولانتفت الحكمة من خلق النار والعذاب. قال تعالى «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ» فنلقيك على نجوة من الأرض، والنجوة المكان المرتفع، فألقي على الساحل كأنه ثور، وإنما قال ببدنك أي جسمك كاملا لم ينقص منه، شيء ليراك ويعرفك من كنت تتأله عليه، وأنت جسد بلا روح، وقيل ببدنك بدرعك المعروف عند قومك، وكان من ذهب مرصع بالجواهر ومن هنا يقول أهالي دير الزور للجية الثمينة بدن وهي لم تكرر في القرآن، ويفهم من هذا أنه كان لا تطوف العروس التي كانوا يطرحونها في النيل لأجل فيضانه «لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» أي إنما قذفناك ببدنك الذي كنت تعرف به لتكون علامة لمن وراءك، لأنهم كانوا لا يصدقون أن فرعون يموت، إذ مر عليه أربعمائة سنة في الملك لم تصبه شوكة، فلما رأوه جئة هامدة منتنة صدقوا أنه عبد مثلهم ليس بإله، فيعتبرون عند ما يرونه في غاية الخسّة بعد أن كانوا يرونه في نهاية العظمة، وقال بعض المفسرين تكون آية لمن يأتي بعدك من القرون المستقبلة، وعليه يتجه القول الآن بأن هذا من الإخبار بالغيب، إذ عثر على قبره في مصر سنة ١٣٧ وحفظ في متحف مصر حتى الآن، وتكون معجزة عظيمة من معجزات القرآن العظيم، إذ أن التوراة تذكر موته غرقا ولم تذكر جثته، والإنجيل لم يأت بشيء عن ذلك، وظل الذين لا يصدقون بالقرآن ينكرون خروج جثته الثابت بصراحة حتى تاريخ إخراجها، فظهر أمر الله وخذل الجاحدون وأسلم من الأمريكان إذ ذاك ما ينوف عن تسعين رجلا في شهر اكتشافه، وربما أسلم خلق كثير بعده عند ظهور كوامن هذا القرآن الجليل الحاوي على ما في الدنيا والآخرة من وقائع وأقوال وأعمال «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا» هذه وأضرابها مما كان وسيكون «لَغافِلُونَ ٩٢» عنها تلئهون مائلون عن التعرض إليها زائغون عن منهج الحقائق. روي أن جبريل عليه السلام قال لفرعون وهو بصورة رجل من قومه ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفرها وجحد حقه وادعى السيادة عليه دونه؟ فكتب له الجواب. يقول أبو العباس

صفحة رقم 73

الوليد بن مصعب الريان: جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعمائه أن يغرق في البحر. قال فلما الجملة الغرق ناوله جبريل فتواه بخطه فعرفه وقال ما قال.
ولا بعد في هذا لأن الله أرسل إلى داود من استفتاه بشأن المرأة التي أخذها كما مرّ في الآية ٢٤ من سورة ص في ج ١، فحكم على نفسه بنفسه وهو نبي مرسل فلأن يرسل إلى هذا الخبيث لتحق عليه الكلمة بفعله القبيح من باب أولى.
وروي عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال لما أغرق الله فرعون قال (آمَنْتُ) إلخ قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حبال البحر فأذسه في فيه مخافة أن تتداركه الرحمة- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن-. وفي رواية أخرى عنه عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما ذكر أحدهما عن النبي ﷺ أنه ذكر أن جبريل عليه السلام جعل يدس في فيّ فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله، أو خشية أن يرحمه الله- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح-. وبما أن هذا الحديث مشكل في ظاهره فيحتاج إلى إيضاح في صحته ومعناه، أما صحته فقد ورد من طريقين مختلفين عن ابن عباس، الأول عن ابن زيد بن جدعان وهو شيخ نبيل صالح صادق، ولكنه كان سيء الحفظ ويغلط، ولهذا ضعفه يحيى بن معين وغيره، والحديث الثاني إنما يضعف إذا لم يتابع عليه أو إذا خالفه الثقات، وكلا هذين الأمرين منتف فيه لأن في الطريق الآخر شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير، وهو إسناد على شرط البخاري، ورواه أيضا شعبة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، وعطاء ثقة قد أخرج له مسلم وما تكلم في عطاء من قبل اختلاطه انما يخاف منه إذا انفرد به أو خولف فيه، وكلاهما منتف أيضا، فعلم أن هذا الحديث له أصل ثابت وأن رواته ثقات (وليس في قول ذكر أحدهما عن النبي ﷺ شك في رفعه) وإنما هو جزم بأن أحد الرجلين رفعه، وشك شعبة في تعيينه بأنه هل هو عطاء أو عدي، وبما أن كلا منهما ثقة فإذا رفعه أحدهما وشك الآخر في تعيينه لم يكن هذا علة في الحديث، وكلمة حبال البحر في الأول وطينه في الثاني لا تكون مباينة، لأن حبال البحر طينه، فالمعنى في الروايتين واحد، فلا يصح الاعتراض عليه بعد

صفحة رقم 74

أن ثبت عنه ﷺ بالوجه المار ذكره. أما صحة معناه فلا غبار عليها، لأن أهل السنة المثبتين القدر القائلين بخلق الأفعال لله تعالى وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأنه يحول بين المرء وقلبه كما في الآية ٢٤ من سورة الأنفال في ج ٣، فهو تعالى يحول بين الكافر والإيمان بدليل هذه الرواية، وقوله تعالى أيضا:
(وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) الآية ١٥٥ من سورة النساء في ج ٣، وقوله تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية ١١١ من سورة الأنعام الآتية، وقوله تعالى (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) الآية ١٠١ من الأعراف المارة في ج ١، وهكذا فعل جل شأنه بفرعون إذ منعه عن الإيمان جزاء تركه إياه، ودس الطين في فمه من قبل جبريل عليه السلام من جنس الطبع والختم على القلب، ففعله هذا مع فرعون عليه اللعنة من هذا القبل، ولم يكن إلا بإرادة الله الملك الجليل، وغاية ما فيه أن يقال إن الله منع فرعون من الإيمان عقوبة على كفره السابق، وما قيل إنه لا يجوز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل كان عليه أن يعينه عليها، هو قيل قد يكون سديدا إذا كان جبريل مكلفا مثلنا يجب عليه ما يجب علينا، أما إذا كان ليس كذلك وإنما يفعل ما أمره الله به وهو الذي منع فرعون من الإيمان، وإنما جبريل منفذ لأمره ليس إلا، فكيف لا يجوز له منع من منعه الله وكيف يجب عليه اعانة من لم يعنه الله، وقد أخبر عنه بأنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، وقد قضت حكمته أن لا يقبل الإيمان في مثل حالة فرعون، ولما كان في أفعال الله تعالى قولان أحدهما أنها لا تعلل وأن تعليلها محال، فعلى هذا لا يرد شيء من هذا أصلا، ولم يبق إشكال في معنى الحديث، والقول الثاني أن أفعاله تبارك وتعالى لها غاية بحسب المصالح، فعلها لأجلها، وكذا أوامره ونواهيه، لها غاية محمودة لأجلها أمر بها، ونهى عنها، وعلى هذا يقال لما قال فرعون (آمَنْتُ) إلخ، وقد علم جبريل بإعلام الله إياه أنه ممن حقت عليه كلمة العذاب، وأن الوقت المقبول فيه الإيمان نفد، وأن إيمانه في غير الوقت المحدد له لا ينفعه، دسّ الطين في فيه لتعجيل ما قد قضى عليه، وسد الباب عنه سدا محكما بحيث لا يبقى للرحمة فيه منفذ، ولا يبقى من

صفحة رقم 75

عمره متسع للإيمان المقبول، فيكون عمل جبريل تكميل لما سبق في حكم الله عليه وتنفيذ لما أمره به وقدره وقضاه على فرعون، وهو سعي في مرضاة الله، وما قيل إن في منعه من التوبة كفرا لأنه رضي ببقائه على الكفر والرضاء بالكفر كفر لا وجه له لما قدمنا من الإضلال والهدى بمشيئة الله تعالى، وجبريل إنما يتصرف بأمر الله وقد فعل ما أمر به والرضاء بالأمر غير الرضاء بالمأمور فأي كفر يكون هذا؟
على أن الرضاء بالكفر إنما يكون كفرا بحقنا لأننا مأمورين بإزالته بحسب الإمكان فإذا أقررنا الكافر على كفره ورضينا به كان كفرا بحقنا مخالفتنا ما أمرنا به، وإن من ليس بمأمور كأمرنا، ولا مكلفا تكليفنا، بل يفعل ما يأمره سيده ربه كالملائكة، فإنه إذا نفذ ما أمره به ربه لم يكن راضيا بالكفر ولا يكون كفرا بحقه، وما قيل كيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل بمنع فرعون من الإيمان فقول سخيف لأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل، فإذا علم هذا ويقول كيف فهو سخيف، وإذا لم يعلم فهو جاهل جهلا مركبا، هذا وقد أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ قال لي جبريل عليه السلام ما أبغضت شيئا من خلق الله تعالى مثل ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد، وما أبغضت شيئا أشد بغضا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتعصم بكلمة الإخلاص فينجو، فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه فوجدت الله تعالى عليه أشد غضبا مني فأمر ميكائيل فأتاه فقال (آلْآنَ) إلخ، قال تعالى «وَلَقَدْ بَوَّأْنا» وطنّا وأنزلنا «بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ» منزلا محمودا صالحا مرضيا وصفه بالصدق، لأن عادة العرب إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق فتقول رجل صدق وقدم صدق، راجع الآية الثانية من هذه السورة، وذلك أن الشيء إذا كان كاملا لا بد وأن يصدق الظن به، وهذا المكان هو مصر والشام والقدس والأردن، وهي بلاد الخصب والبركة، ومن أحسن بقاع الأرض وأخيرها نتاجا، فالكامل فيها لا يضاهيه كامل في غيرها، ولهذا كانت مهبط الأنبياء ومهاجرهم ومدافنهم فيها، وناهيك به شرف «وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» اللذائذ الحلال من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن ومركوب «فَمَا اخْتَلَفُوا»

صفحة رقم 76

في أمر دينهم، بل ثابروا عليه وتمسكوا به «حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ» بالوقوف على إلهام التوراة فاختلفوا بتأويلها زمن نزولها كما اختلفوا أخيرا في نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فمنهم من آمن بهما ومنهم من كفر، لذلك يقول الله تعالى لنبيه ﷺ «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٩٣» من الحق وإذ ذاك يميز بين المحق والمبطل، ويجزى كلا بما بستحقه، فيدخل من آمن وصدق الجنة، ومن كفر وجحد النار.
مطلب معنى الشك المخاطب به محمد ﷺ ومعنى الصدق والأراضي المباركة والآيات المدنيات:
«فَإِنْ كُنْتَ» يا سيد الرسل «فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» في هذا القرآن على سبيل الفرض والتقدير، لأن الشك في ذلك لا يتصور منه وقوعه لا نكشاف الغطاء له صلى الله عليه وسلم، ولذا عبّر بان التي تستعمل غالبا فيما لا تحقق له ولا جزم بوقوعه، حتى إنها تستعمل غالبا فيما لا تحقق له ولا جزم بوقوعه، حتى إنها تستعمل في المستحيل عقلا وعادة كما في قوله سبحانه (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) الآية ٨٢ من سورة الزخرف الآتية، وقوله تعالى (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) الآية ٢٦ من سورة الانعام الآتية ولم يعبّر في هذه الآيات بإذا لأنها تفيد الجزم بوقوع الشرط بعدها، وصدق القضية الشرطية لا يتوقف على وقوعها، أي إن كنت في شك مما قصصناه عليك من قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل «فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» وهم الأخبار والعلماء والربانيون العارفون بالتوراة والإنجيل والزبور، فإنه محقق عندهم لا مرية فيه لأنها مدونة في كتبهم بعضا باللفظ وبعضا بالمعنى وأخرى بالإشارة وطورا بالعبارة وتارة بالرمز ومرة بالامارة، وخص هذا السؤال بالقصص لأن الأحكام القرآنية قد تخالف ما عند أهل الكتاب، لانها ناسخة لكثير منها ومغايرة لها، إذ جاءت موافقة لعصره ﷺ فما بعده إلى يوم القيامة، بخلاف الأحكام الموجودة في كتبهم، إذ لم تكن صالحة لذلك، والشك لغة خلاف اليقين وهو اعتدال النقيضين عند الإنسان لوجود أمارتين أو لعدم الأمارة، وهو ضرب من الجهل وأخص منه،

صفحة رقم 77

فكل شك جهل وليس كل جهل شكا، فإذا قيل فلان شك في هذا الأمر فمعناه توقف فيه حتى يتبين له فيه الصواب أو خلافه، وظاهر هذا الخطاب لسيد المخاطبين محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن المراد به غيره على حد قوله تعالى (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) الآية ٨١ من سورة القصص المارة في ج ١ ومثلها الآية ٦٥ من سورة الزمر الآتية وما يشابهما من الآيات، لأنه ﷺ لا يصده صاد عن آيات ربه، فثبت أن المراد غيره بمعنى إياك أعني واسمعي بإجارة، فيكون المعنى قل أيها الإنسان إن كنت في شك مما أنزل علي فاسأل أهل الكتاب يخبرونك بصدقه، يدل على هذا قوله تعالى آخر هذه السورة (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) فلا يقال والعياذ بالله تعالى أن الرسول شاكّ في نبوته أو فيما أنزل عليه، حاشا ثم حاشا، لأنه يوجب سقوط الشريعة معاذ الله، ولكان غيره بالشك أولى وهو لا يجوز البتة، قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة لم يشك النبي ﷺ قط ولم يسأل، إذ قال لا أشك ولا أسأل، وعامة المفسرين على هذا، فاحذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين من ذكر الشك والصاقه بحضرة الرسول بداعي أنه من البشر، فإنه لا يجوز أصلا، نعم إنه بشر ولكنه قال مرارا إني لست كأحدكم، وعبر قول الناظم:

محمد بشر وليس كالبشر بل هو جوهرة والناس كالحجر
وفي هذه الآية تنبيه على أن من خالجته شبهة في أمر دينه فليراجع من يزيلها عنه من أهل العلم وليسارع إلى ذلك، قال تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الآية ٤٤ من سورة النحل الآتية ولا يعتمد على علمه، فكم زل عالم، وليعلم أن الاعتماد على النفس غرور وخيلاء وليتأمل قوله تعالى (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) الآية ٧٦ من سورة يوسف الآتية ليدفع عن قلبه ما طرأ له بالبرهان من قوانين الدين وأدلته ومباحث العلماء العارفين فيه، وبما أن هذه الآية مدنية والآيتين اللتين بعدها كذلك، فإن المراد بالذين يقرأون الكتاب والله أعلم هم عبد الله بن سلام وأصحابه الموثوق بأخبارهم، ولا يخفى أن منطوق الآية عام شامل لمؤمنهم وكافرهم، لأن القصد في هذا الإخبار بصحة هذه القصص، والإخبار

صفحة رقم 78

بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهما مدوننان في كتبهم وموضح فيها بعض تلك القصص ونعت حضرة الرسول، ومهما بالغوا في الكذب والإنكار لا يستطيعون جحدها خشية تكذيبهم أمام قومهم، وهم عرب يتحاشون عنه، إلا أنهم يبالغون في كتمها مهما أمكن. هذا وقال بعض المفسرين إن الخطاب في الآية لحضرة الرسول يشمل كافة الخلق على حد قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) الآية الأولى من سورة الطلاق في ج ٣ وهو حسن، لكن فيه بعدا لأنه متى قيل إنه داخل في هذا الخطاب كان الاعتراض بما قدمناه موجودا والسؤال عنه واردا، وقال بعضهم أن (إن) في الآية نافية والمعنى ما أنت في شك حتى تسأل، فلا تسأل، ولئن سألت لازددت يقينا، ولكنه خلاف الظاهر، وقيل إن الشك هنا بمعنى الضيق، أي إن ضقت ذرعا من أذى قومك فاسأل إلخ الآية، وليس بشيء، لكونه خلاف الظاهر أيضا، وقيل إن الخطاب ليس له أصلا، لأن الناس كانوا في زمنه ثلاث فرق: مصدقون وهم المؤمنون، ومكذبون وهم الكافرون، وشاكون وهم المترددون، فخاطبهم الله تعالى بقوله فإن كنت أيها الإنسان في شك من الهدى الذي أنزلناه على نبينا ومما أخبر به من القصص، فاسأل أهل الكتاب يدلوك على صحته، وإنما وحد الضمير وهو يريد الجمع، لأن الخطاب لجنس الإنسان كما في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية ٧ من سورة الانفطار وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) الآية ٧ من سورة الانشقاق الآتيتين، فإنه تعالى لم يرد فيها إنسانا بعينه بل أراد الجمع وهو وجيه، والله أعلم. «لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» في هذه الآيات الواضحة والبراهين القاطعة فهو الحق لا ريب فيه «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ٩٤» في شيء منه فتتزلزل عما أنت عليه من الحزم واليقين، بل دم على جزمك الذي أنت عليه من قبل ولا تلتفت إلى ما ينقولون، والافتراء هو التشكك والتردد وهو أخف من التكذيب، ولذا عقبه بقوله «وَلا تَكُونَنَّ» أيها الإنسان «مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» فأنساهم الله ذكره وخسروا الدنيا والآخرة «فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ ٩٥» مثلهم نفسا وعملا، والتعبير بالخاسرين أظهر من التعبير بالكافرين،

صفحة رقم 79

والفائدة من النهي في الموضعين التهييج والإلهاب وزيادة التثبت والإعلام بأن الافتراء والتكذيب قد بلغا في القبح والمحذورية إلى حيث ينبغي أن ينهى عنهما من لا يمكن أن يتصف بهما، فكيف بمن يمكن اتصافه بهما، وفي هذه الآية قطع لأطماع الكفرة.
وهاتان الآيتان على حد قوله تعالى: (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما سيأتي في الآية ١٠٤ من هذه السورة، وما قدمناه في الآية ١٧ من سورة القصص المارة فهي من جملة الخطابات المراد بها غيره صلى الله عليه وسلم، لأنه معصوم من الشك والمرية والتكذيب، كما ثبت لك مما تقدم وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن العظيم، وأحسن الأقوال في تفسيرها ما ذكرناه لك في تفسير هذه الآية، فتمسك بها واحذر أن تكون ممن يشملهم قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ»
بالعذاب الداخلين في قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الآية ١٢٠ من سورة هود الآتية المحكوم عليهم بذلك بمقتضى قضائه الأزلي وقدره السابق في علمه المسجل في لوحه المحفوظ «لا يُؤْمِنُونَ» البتة إذ لا يمكن نقض قضاء أبرمه وتخلف إرادة قضاها، وهكذا كل من قطع الله بعدم إيمانه لا يؤمن مهما جاءه من الرسل والكتب ومهما أظهر له من الآيات والمعجزات بدليل قوله تعالى «وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ» من آيات الرسل الأقدمين وغيرها، لأنهم لا ينتفعون بها ولا يتدبرون حكمها ولا يعقلون معناها لصرفهم جوارحهم إلى غير ما خلقت لها، لذلك قطع الأمر بموتهم كفارا وتخليدهم بالنار، لأنهم مثل فرعون لا يؤمنون «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ٩٦» الذي لا آلم منه ولا مرد له ولا نجاة منه، وإذا آمنوا حينذاك لا ينفعهم إيمانهم للإتيان به في غير محله كما مرّ تفصيله في الآية ٩٠ آنفا وهذه آخر الآيات المدنيات، قال تعالى «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ» أي أهلها من اطلاق المحل وإرادة الحال فيه، كما تقول سال الوادي، وجرت الساقية، وهذا كثير في القرآن أيضا وهو من محسنات الكلام. «آمَنَتْ» عند معاينة العذاب «فَنَفَعَها إِيمانُها» حال اليأس، ولا يرد على هذا عدم قبول إيمان فرعون، لأنه لم يفارقه النبي الذي أرسل لإرشاده حتى أدركه الغرق، أما هؤلاء فإن نبيهم بعد أن أنذرهم بنزول العذاب تركهم كما سيأتي في القصة.

صفحة رقم 80

مطلب في المشيئة والاستثناء وقصة يونس عليه السلام:
وقد سبق في علم الله تعالى صدق نيتهم في توبتهم قبل إحاطة العذاب فيهم، كما سنوضحه لك قريبا، بخلاف فرعون لأنه في تلك الحالة الرهيبة لم يزل شاكا كما تقدم في الآية ٩٠ المارة حتى مات «إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ» استثناء متصل، لأن الجملة في معنى النفي، أي ما آمنت قرية من القرى الهالكة فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا نفعهم إيمانهم، وقوم منصوب على أصل الاستثناء وإذا رفعت (قوم) على القراءة الأخرى كان الاستثناء منقطعا، ويكون المعنى لكن قوم يونس نفعهم إيمانهم «لَمَّا آمَنُوا» إيمانا خالصا لا يشم منه رائحة شك أو غيره ولذلك «كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ» الذلّ والهوان «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» بخلاف غيرهم إذ استأصلناهم بالعذاب لعدم صدق نيتهم وصحة إخلاصهم، وقد سبق في علم الله أن الذين استؤصلوا لو أجاب دعاءهم ورفع عنهم العذاب لردوا إلى ما نهوا عنه، أما هؤلاء فكان في علمه الأزلي إخلاصهم لله في توبتهم، لذلك رفعنا عنهم العذاب «وَمَتَّعْناهُمْ» في الدنيا بعده «إِلى حِينٍ ٩٧» انقضاء أجلهم المقدر لمكثهم فيها، وهو الأجل المبرم المقدّر على حسن توبتهم ونيتهم ولولا ذلك لأهلكوا بالأجل المعلق المقدر على عدم توبتهم ورجوعهم إلى الله، راجع الآية ٢ من سورة الأنعام الآتية. ، وهؤلاء خصوا من بين الأمم بحسب قضاء الله الأزلي، وتنطبق عليهم القاعدة ما عموم إلا وخص منه البعض، كقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) الآية الأخيرة من سورة القصص المارة، وقوله تعالى (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) الآية ٦٩ من الزمر الآتية، وقوله تعالى (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) الآية ٨٨ من سورة النمل المارة في ج ١. هذا ولا يقال إنهم آمنوا قبل نزول العذاب لمخالفته للآية لأن الكشف لا يكون إلا بعد الوقوع أو بعد قرب وقوعه، لأنه وقع قبل إحاطته بهم وبعد مشاهدتهم له، والله أعلم. وخلاصة القصة على ما ذكره الأخباريون هي أن يونس عليه السلام بعثه الله إلى أهل نينوى بأرض الموصل، وكانوا مشركين فدعاهم لتوحيد الله تعالى ورفض سواء من الآلهة، فأبوا عليه وأصروا

صفحة رقم 81

على كفرهم وكذبوه وجحدوا رسالته، فأخبرهم أنهم إذا لم يؤمنوا فإن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ليال، فأتقوا منه، واشتد غضبه عليهم، ولما لم يجد نصحه لهم نفعا أعرض عنهم وتركهم وذهب خارج قريتهم، فلما فقدوه عرفوا أن ما وعدهم به من العذاب واقع بهم لا محالة لأنهم لم يجربوا عليه كذبا، فخافوا وندموا، فلما أصبحوا توقعوا نزول العذاب فرأوا غيما أسود فغشاهم فأيقنوا أنه ما وعدهم به، فلبسوا المسوح وخرجوا إلى الصحراء بنسائهم وأولادهم ودوابهم وأظهروا توبتهم لله وإيمانهم برسوله وردوا المظالم الى أهلها وعجّوا إلى الله بالدعاء وعملوا ما كان يأمرهم به نبيهم وانتهوا عما نهاهم عنه، حتى انهم صاروا يقلعون الأحجار المغصوبة من بنائهم ويعطونها أهلها، رصاروا يتضرعون إلى الله، وفرقوا بين الأولاد والأمهات من نوع الإنسان والحيوان، وازداد بكاؤهم وبالغوا بالاستغاثة إلى الله. وهم يشاهدون الدخان يظهر من ذلك الغيم، وانه لا يزال بسود ويتكاثف ويقرب منهم حتى غشي مدينتهم كلها واسودت أسطحتهم وأحاط بهم من كل جانب، وهم يلحّون بالدعاء إلى الله ويستصرخونه بالإغاثة، وصار الأطفال يتصايحون والحيوانات تتثاغى، والنساء تبكي، وازداد عويل الرجال لرقة قلوبهم على الأولاد والحيوانات والنساء وأملهم برجاء الله رفع بلاءه عنهم وهو يتقوّى ساعة فساعة، ثم ذهبوا إلى شيخ لهم كانوا يعتقدون به فشكوا إليه نزول العذاب واستطلعوا رأيه واسترشدوا به، فقال لهم قولوا يا حي حين لا حي، يا حي محيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت. وقال الفضيل قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل، فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن له أهل. وأنابوا كلهم إلى الله بإخلاص ونصح وصدق ودعوا كلهم بلسان واحد بذلك الدعاء وابتهلوا إلى الله تعالى موقنين قبول رجائهم، فرحمهم وكشف عنهم العذاب أولا بأول، وبدد تلك الغيوم حتى لم يبق منها شيء، فقرحوا وسبحوا الله وحمدوه وشكروه، ثم أمر الله يونس بالرجوع إليهم، فقال رب كيف أرجع فيجدوني كذابا لأني وعدتهم بالعذاب فكشفته عنهم، وإن عادتهم إذا كذب
الرجل دون بيّنة قتلوه، وانصرف مغاضبا. وسنأتي على بقية هذه القصة في الآية ١٣٩ فما بعدها من سورة الصافات الآتية حتى لا تتكرر

صفحة رقم 82

هنا وهناك، وقد ألزمنا أنفسنا التحاشي عن التكرار في القصص وغيرها مهما أمكن، لأن سبب ضخامة تفاسير المفسرين من التكرار لا غير.
مطلب المشيئة عند أهل السنة والمعتزلة ومعنى الآية فيها:
قال تعالى «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ» على الإحاطة والشمول «جَمِيعاً» تأكيد بعد تأكيد بحيث لا يتخلف منهم أحد البتة، ولكن الله جل شأنه لم يشأ ذلك، لأنه لا يشاء إلا ما يعلمه ولا يعلم إلا ماله ثبوت في نفسه في لوحه، فما لا ثبوت له أصلا لا يعلم، وما لا يعلم لا يشاء، ولا يشاؤه لكونه مخالفا لحكمته التي عليها بناء أساس التكوين والتشريع. وفي هذه الآية إشارة إلى تحقيق دوران إيمان جميع المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته مطلقا بعد بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته، وإعلام بكمال قدرته ونفوذ مشيئته، وحجة على المعتزلة الزاعمين أن الله تعالى شاء الإيمان من جميع الخلق فلم يؤمن إلا بعضهم، والمشيئة عندهم قسمان تفويضية يجوز تخلف الشيء عنها، وقرية لا يجوز التخلف عنها، وحملوا ما في الآية على الأخير، فالمعنى عندهم لو شاء ربك مشيئة إلجاء وقسر إيمان الثقلين لآمنوا، لكنه لم يشأ، بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيارا له ولضده، وفوض الأمر إليهم، محتجين بقوله تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية ٢٩ من سورة الكهف الآتية، وهذا ديّنهم في كل ما ورد عليهم من الآيات الظاهرة في إبطال ما هم عليه، وفيه أنه لا قرينة على التقيد مع أن قوله تعالى «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ٩٨» يأباه قياسهم لأن المعنى ليس لك الأمر بإكراه الناس على الإيمان، وإنما أنت مبلغ ومنذر، فلا تحرص على إيمان من لم يؤمن، لأنه لا يكون إلا بالتصديق والإقرار ولا يمكن الإكراه على التصديق.
والهمزة للإنكار وهي لصدارتها مقدمة والفاء للتفريع والمقصود تفريع الإنكار.
ولا فائدة بل لا وجه لاعتبار مشيئة القسر والإلجاء خاصة في تفريع الإنكار وقيل الهمزة في موضعها والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل أربك لا يشاء أفأنت يا محمد تكرههم على الإيمان، والإنكار متوجه إلى ترتيب الإكراه المذكور على مشيئته تعالى، والإباء هو الإباء، فلا بد من حمل المشيئة على إطلاقها،

صفحة رقم 83
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية