آيات من القرآن الكريم

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ

عليهم قول الله تعالى الذي كتبه في اللوح، وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفارا، فلا يكون غيره، وتلك كتابة معلوم، لا كتابة مقدّر.
قصة يونس عليه السّلام مع قومه
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠)
الإعراب:
إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ منصوب إما لأنه استثناء منقطع ليس من جنس الأول وإما على الاستثناء المتصل غير المنقطع، بأن يقدر في الكلام حذف مضاف، تقديره: فلولا كان أهل قرية آمنوا إلا قوم يونس. ويونس: ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة. وقرئ برفع يونس على البدل، كقول الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس... إلا اليعافير وإلا العيس
والبدل من غير الجنس لغة بني تميم.
كُلُّهُمْ تأكيد لقوله لَآمَنَ، وجَمِيعاً عند سيبويه: نصب على الحال. وقال الأخفش: جاء بقوله: جَمِيعاً بعد كل تأكيدا كقوله: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ.
البلاغة:
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ الاستفهام للإنكار، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه عليه.

صفحة رقم 267

المفردات اللغوية:
فَلَوْلا فهلا، وكل منهما للتحضيض والتوبيخ. قَرْيَةٌ أهل قرية أي فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها آمنت قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر إليها، كما أخر فرعون.
آمَنَتْ قبل نزول العذاب بها. فَنَفَعَها إِيمانُها بأن يقبله الله منها ويكشف العذاب عنها.
إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لكن قوم يونس لَمَّا آمَنُوا عند رؤية أمارة العذاب، ولم يؤخروه إلى حلوله. الْخِزْيِ الذل والهوان. وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ إلى انقضاء آجالهم، الحين: مدة من الزمن، والمراد بها هنا العمر الطبيعي الذي يعيشه الإنسان.
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً قال المعتزلة: المراد مشيئة القسر والإلجاء، أي لو شاء الله تعالى أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه، ولصح ذلك منه، ولكنه ما فعل ذلك لأن الإيمان الصادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ولا يفيده فائدة، فالمشيئة المرادة في الآية لم تقع في رأيهم. وقال أهل السنة: المراد تخليق الإيمان أو خلق الإيمان، أي لو شاء ربك لخلق الإيمان فيهم، ولكنه لم يفعل، فدلّ على أنه ما أراد حصول الإيمان لهم لأن الإيمان لا يحصل إلا بخلق الله تعالى ومشيئته وإرشاده وهدايته، فإذا لم يحصل ذلك المعنى لم يحصل الإيمان. والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر، فكل إيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان ٧٦/ ٣٠]. وهذا المذهب موافق للمعتزلة في أن الله تعالى ما قسر الخلق، ولكنه أيضا ما سلب اختيارهم، بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيارا وقصدا، فإبقاء الآية على إطلاقها أولى، وربط كل شيء من إيمان وغيره بمشيئة الله تعالى هو الواجب.
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ بما لم يشأه الله منهم، والاستفهام للإنكار، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه عليه.
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته وتوفيقه، فلا تجهد نفسك في هداها، فإنه إلى الله تعالى. والإذن بالشيء لغة: الاعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه. وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ هنا العذاب أو الخذلان. وأصله في اللغة: الشيء القبيح المستقذر. لا يَعْقِلُونَ لا يتدبرون آيات الله، ولا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات.
المناسبة:
هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، وهي قصة يونس عليه السّلام. فبعد أن بيّن الله تعالى أن الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أتبعه بهذه الآية

صفحة رقم 268

للدلالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم، وانتفعوا بذلك الإيمان. وهذا يدل على أن الكفار فريقان: منهم من حكم عليه بخاتمة الكفر، ومنهم من حكم عليه بخاتمة الإيمان، وكل ما قضى الله به فهو واقع.
وذكر في هذه الآيات ما يكمل قبلها في أن الله تعالى خلق البشر مستعدين للإيمان والكفر والخير والشر، وأن مشيئة الله وحكمته متعلقتان بأفعال عباده، ووقوعها على وفقهما.
وكانت العبرة من إيراد هذه القصص الثلاث (قصة نوح، وقصة موسى، وقصة يونس) الرّد على شبهات الكفار التي منها أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يهددهم بنزول العذاب عليهم، ولم ينزل، فأبان الله تعالى أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد، بدليل أن الله أخّر العذاب عن قوم نوح، وفرعون، وقوم يونس، ثم أوقعه في الأولين ولم يوقعه في قوم يونس بسبب إيمانهم.
أضواء من التاريخ:
ذكر يونس عليه السّلام في القرآن الكريم باسمه أربع مرات: في سورة النساء [١٦٣] والأنعام [٨٦] ويونس [٩٨] والصافات [١٣٩] وذكر بوصفه في سورتين: في سورة الأنبياء: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [٨٧] وفي سورة القلم: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [٤٨].
وهو يونس بن متى، ويقول أهل الكتاب: يونس بن أمتاي. وقد أرسله الله تعالى إلى نينوى من أرض الموصل، فكذبوه، فوعدهم بالعذاب بعد مدة، قيل: إلى أربعين يوما، وذهب عنهم مغاضبا، فلما فقدوه خافوا نزول العقاب، ولما دنا الموعد غامت السماء غيما أسود ذا دخان شديد، فهبط حتى غشي مدينتهم، فهابوا فطلبوا يونس فلم يجدوه، فأيقنوا صدقه، فلبسوا المسوح، وبرزوا إلى

صفحة رقم 269

الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرّقوا بين كل والدة وولدها، فحنّ بعضها إلى بعض، وعلت الأصوات والعجيج، وأخلصوا التوبة، وأظهروا الإيمان، وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة «١». قال الطبري: خص قوم يونس من بين سائر الأمم بأن تيب عليهم بعد معاينة العذاب، وذكر ذلك عن جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان.
أما يونس فقد ذهب مغاضبا لقومه الذين أرسل إليهم لإبطائهم عن تلبية دعوته، والدخول فيما دعاهم إليه من الإيمان، فهرب إلى الفلك المشحون، من غير إذن الله تعالى.
ثم امتحنه الله تعالى بالإلقاء في اليم والتقام الحوت، قال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء ٢١/ ٨٧- ٨٨].
فنبذه الله بالعراء وهو سقيم بعد أن مكث في بطنه ثلاثا أو سبعا أو أكثر أو أقل، وحماه من هضم الحوت له، وأنبت عليه شجرة من يقطين. ثم أرسله الله تعالى إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا، وقبل الله منهم إيمانهم.
وأما قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فمعناه المناسب للأنبياء المعصومين عن الخطأ: فظن أن لن نضيق عليه، أي ظن أننا لن نلزمه بالذهاب إلى القوم الذين أرسل إليهم، ولا نلجئه إلى تبليغ رسالة الله تعالى إليهم، والمراد أنه تأول الأمر وهو أمر الذهاب إلى قومه على أنه أمر إرشاد لا أمر وجوب، ولا

(١) تفسير الرازي: ١٧/ ١٦٥، تفسير القرطبي: ٨/ ٣٨٤

صفحة رقم 270

إثم في مخالفته، كما تأول الفقهاء كتابة الدين المأمور به في قوله تعالى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ على أنه أمر ندب وإرشاد، ففهم الأمر على هذا الوجه «١».
التفسير والبيان:
فهلا كان أهل قرية من قرى الرسل الذين أرسلوا إليهم، آمنوا بعد دعوتهم وإقامة الحجة عليهم، وقبل نزول العذاب واستحالة الإيمان، فنفعهم إيمانهم.
ولكن قوم يونس عليه السّلام الذي بعث في أهل نينوى بأرض الموصل شمال العراق، كانوا قد كفروا، ثم لما رأوا أمارات العذاب، تضرعوا إلى الله تعالى، وأخلصوا التوبة، وأظهروا الإيمان فرحمهم الله، وكشف عنهم العذاب- أي العذاب الذي وعدهم يونس بنزوله- وقبل إيمانهم، ومتّعهم إلى أجلهم.
أي لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم من القرى الغابرة إلا قوم يونس، وهم أهل نينوى، وما كان إيمانهم إلا تخوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم، بعد ما عاينوا أسبابه. وكان قبول إيمانهم مغايرا لقبول إيمان فرعون، فإنه آمن عند الإشراف على الغرق واقتراب الموت. أما قوم يونس فآمنوا قبل وقوع العذاب بهم بالفعل، وإن كان إيمانهم عند ظهور أماراته.
وفي القصة تعريض بأهل مكة، وحض لهم على أن يكونوا كقوم يونس، قبل أن يصلوا إلى درجة اليأس، فإن العذاب قابل للتحقق كما حدث في قوم نوح، وفرعون وجنوده. وعلى هذا التأويل لا تعارض ولا إشكال ولا خصوص لقوم يونس.
قال علي رضي الله عنه: إن الحذر لا يردّ القدر، وإن الدعاء ليردّ القدر.

(١) قصص القرآن للأستاذ عبد الوهاب النجار: ص ٣٥٧، ٣٥٩

صفحة رقم 271

وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أي ولو شاء ربك يا محمد أن يأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان بما جئتهم به، وأن يخلق فيهم الإيمان، لفعل ولآمنوا كلهم، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى، كقوله تعالى:
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود ١١/ ١١٨- ١١٩].
وقال تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الرعد ١٣/ ٣١]. وكُلُّهُمْ في الآية أي على وجه الإحاطة والشمول، وجَمِيعاً أي مجتمعين على الإيمان، مطبقين عليه، لا يختلفون فيه.
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ... أي أفأنت يا محمد تلزم الناس وتلجئهم إلى الإيمان، ليس ذلك عليك ولا إليك، بل إلى الله وعليه. فالإيمان لا يتم بالإكراه والإلجاء والقسر، وإنما يتم بالطواعية والاختيار، كما قال تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة ٢/ ٢٥٦] وقال تعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق ٥٠/ ٤٥] وإنما مهمتك فقط التبليغ بالإنذار والتبشير، كما قال تعالى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى ٤٢/ ٤٨] وقال سبحانه: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢١- ٢٢]. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ
[القصص ٢٨/ ٥٦].
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي ليس لنفس أن تؤمن إلا بإرادة الله ومشيئته وتوفيقه أو ما ينبغي لنفس أن تؤمن إلا بقضائه وقدره ومشيئته وإرادته، والنفس مختارة في الإيمان اختيارا غير مطلق، وليست مستقلة في اختيارها استقلالا تاما، بل مقيدة بسنة الله في الخلق، يهدي الله من يشاء بحكمته وعلمه وعدله.

صفحة رقم 272

وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي ويجعل الله العذاب على الذين لا يتدبرون حجج الله وأدلته، ولا يستعملون عقولهم في النظر بما يرشدهم إلى الحق من آيات الله وحججه الكونية والعقلية القرآنية، فهم لتعطيلهم منافذ المعرفة وحواسهم الهادية إلى الصواب، ولاتباع الهوى، يؤثرون الكفر على الإيمان.
فقه الحياة أو الأحكام:
استنبط العلماء من الآيات ما يأتي:
١- الحض على الإيمان وقت الرخاء والسعة قبل الإحاطة بالعذاب، فهو الوقت الذي يقبل فيه الإيمان.
٢- خص الله قوم يونس من بين سائر الأمم بقبول توبتهم بعد معاينة العذاب، كما ذكر الطبري عن جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان.
قال القرطبي معلقا: قول الزجاج حسن فإن المعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون، ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون لأنه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك، وقوم يونس تابوا قبل ذلك. ويعضد هذا
قوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن ابن عمر: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»
والغرغرة: الحشرجة، وذلك هو حال التلبس بالموت، وأما قبل ذلك فلا «١».
فعلى قول الزجاج والقرطبي: لا تخصيص لقوم يونس.
٣- احتج أهل السنة بآية: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ... على قولهم بأن جميع

(١) تفسير القرطبي: ٨/ ٣٨٤

صفحة رقم 273

الكائنات بمشيئة الله تعالى لأن كلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فقوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ يقتضي أنه ما حصلت تلك المشيئة، وما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية، فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل «١».
ولقد أوردت في بيان المفردات مذهبي أهل السنة والمعتزلة في تفسير وَلَوْ شاءَ هل المشيئة مشيئة القسر والإلجاء، أم مشيئة الخلق والإرشاد والهداية؟
وفسر القرطبي الآية بقوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لاضطرهم إليه، أي إلى الإيمان.
٤- الإكراه في الدين ممنوع، لقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلّم حريصا على إيمان جميع الناس فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذّكر الأول، ولا يضلّ إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول.
٥- احتج أهل السنة على قولهم: «أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع».
بقوله: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وجه الاستدلال به: أن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحرج، وصريح هذه الآية يدل على أنه قبل حصول هذا المعنى ليس له أن يقدم على هذا الإيمان.
٦- احتج أهل السنة أيضا على قولهم: بأن خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى بقوله تعالى: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وتقريره أن الرجس هو العمل القبيح، سواء كان كفرا أو معصية، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى وتخليقه، ذكر بعده أن

(١) انظر تفسير الرازي: ١٧/ ١٦٦، وكذا ص ١٦٧ للحكم رقم (٥)، وص ١٦٨ للحكم رقم (٦).

صفحة رقم 274
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية