
قوله عز وجل:
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١١ الى ٢٠]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥)
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
في هذه الآية على عرف كلام العرب، استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال تشبيه بعقبة الجبل، وهي ما صعب منه وكان صعودا، واقْتَحَمَ معناه: دخلها وجاوزها بسرعة وضغط وشدة، وأما المفسرون فرأوا أن الْعَقَبَةَ يراد بها جبل في جهنم، لا ينجي منه إلا هذه الأعمال ونحوها، قاله ابن عباس وقتادة، وقال الحسن: الْعَقَبَةُ جهنم، قال هو وقتادة فاقتحموها بطاعة الله، وفي الحديث: «إن اقتحامها للمؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء»، واختلف الناس في قوله فَلَا فقال جمهور المتأولين: هو تحضيض بمعنى «فألا»، وقال آخرون وهو دعاء بمعنى أنه ممن يستحق أن يدعى عليه بأن لا يفعل خيرا، وقيل هي نفي، أي «فما اقتحم»، وقال أبو عبيدة والزجاج وهذا نحو قوله تعالى:
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: ٣١] فهو نفي محض كأنه قال: وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل فما فعل خيرا، ثم عظم الله تعالى أمر العقبة في النفوس بقوله: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ ثم فسر اقتحام العقبة بقوله فَكُّ رَقَبَةٍ وذلك أن التقدير وما أدراك ما اقتحام العقبة؟ هذا على قراءة من قرأ «فكّ رقبة» بالرفع على المصدر، وأما من قرأ «فكّ» على الفعل الماضي ونصب الرقبة، فليس يحتاج أن يقدر وَما أَدْراكَ ما اقتحام، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها، ويجيء «فكّ» بدلا من اقْتَحَمَ ومبينا. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة «فك رقبة أو إطعام»، وقرأ أبو عمرو «فك رقبة» بالنصب، «أو أطعم»، وقرأ بعض التابعين «فكّ رقبة» بالخفض، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أيضا والكسائي «فكّ رقبة» بالنصب «أو إطعام».
وترتيب هذه القراءات ووجوهها بينة، وفك الرقبة معناه: بالعتق من رقبة الأسر أو الرق، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أعتق نسمة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار». وقال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل أنجو به، فقال: «لئن قصرت القول لقد عرضت المسألة فك رقبة، وأعتق النسمة»، فقال الأعرابي: أليس هما واحد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها».
قال القاضي أبو محمد: وكذلك فك الأسير إن شاء الله، وفداؤه أن ينفرد الفادي به، ثم قال النبي ﷺ للأعرابي: «وأبق على ذي الرحمن الظالم، فإن لم تطق هذا كله، فكف لسانك إلا من خير»، و «المسغبة» : المجاعة. والساغب: الجائع. وقرأ جمهور الناس «ذي مسغبة» على نعت يَوْمٍ، وقرأ علي بن أبي طالب والحسن وأبو رجاء «ذا مسغبة» على أن يعمل فيها «أطعم» أو «إطعام» على القراءتين المذكورتين، وفي هذا حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، لأن التقدير إنسانا ذا مسغبة ووصفت الصفة لما قامت مقام موصوفها المحذوف، وأشبهت الأسماء، و «المسغبة» : الجوع العام، وقد

يقال في الخاص: سغب الرجل إذا جاع. وقوله تعالى: ذا مَقْرَبَةٍ معناه: ذا مقربة لتجتمع الصدقة والصلة، وهذا نحو ما قال رسول الله ﷺ لزينب امرأة عبد الله بن مسعود: «تصدقي على زوجك فهي صدقة لك وصلة»، وأَوْ في قوله أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ فيها معنى الإباحة ومعنى التخيير، لأن الكلام يتضمن معنى الحض والأمر فيها أيضا معنى التفضيل المجرد، لأن الكلام يجري مجرى الخبر الذي لا تكون أَوْ فيه إلا منفصلة، وأما معنى الشك أو الإبهام فلا مدخل لها في هذه الآية، والإبهام نحو قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ [سبأ: ٢٤]، وقول أبي الأسود: [الوافر]
أحب محمدا حبا شديدا | وعباسا وحمزة أو عليا |
وقوله تعالى: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ معناه: على طاعة الله وبلائه وقضائه وعن الشهوات والمعاصي.
وبِالْمَرْحَمَةِ، قال ابن عباس: كل ما يؤدي إلى رحمة الله تعالى. وقال آخرون: هو التراحم وعطف بعض من الناس على بعض، وفي ذلك قوام الناس ولو لم يتراحموا جملة هلكوا، والْمَيْمَنَةِ مفعلة، وهي فيما روي عن يمين العرش، وهو موضع الجنة ومكان المرحومين من الناس، والْمَشْأَمَةِ الجانب الأشأم وهو الأيسر، وفيه جهنم، وهو طريق المعذبين يؤخذ بهم ذات الشمال، وهذا مأخوذ من اليمن والشام للواقف بباب الكعبة متوجها إلى مطلع الشمس، واليد الشؤمى هي اليسرى، وذهب الزجاج وقوم إلى ذلك من اليمن والشؤم، وقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم «موصدة» على وزن موعدة وكذلك في سورة الهمزة، وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم «مؤصدة» بهمز الواو في السورتين، ومعناهما جميعا، مطبقة معلقة. يقال: أوصدت وآصدت، بمعنى أطبقت وأغلقت، فهي «موصدة» دون همز من أوصدت، وقد يحتمل أن يهمز من يراها من أوصدت من حيث قبل الواو حرف مضموم على لغة من قرأ بالسوق، ومنه قول الشاعر [جرير] :
أحب المؤقدان إليّ مؤسى بالهمز فيهما، و «مؤصدة» من آصدت، ويحتمل أن تسهل الهمزة فتجيء «موصدة» من أصدت ومن اللفظة الوصيد. وقال الشاعر [الأعشى] :[الكامل]
قوما يعالج قملا أبناؤهم | وسلاسلا حلقا وبابا موصدا |